تتميز المجتمعات الديمقراطية حسب طوكفيل (TOCQUEVILIE 1805 - 1849) بالتساوي في الظروف وتتغلب فيها المساواة الاجتماعية على التفاوت الوراثي في الواقع.. إن المدرسة في معنى المنظومة التربوية تبدو مذ ذاك أداة لتحقيق هذه المثل القائمة على التساوي، وبالنسبة لمؤسسي الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870 1940) فإنه يجب على المدرسة أن تضمن تربية وتعليماً لكل الأفراد وتزودهم بالأدوات التي تضمن وتؤمن لهم ترقيتهم الاجتماعية فحسب.. 1 الطبقات الاجتماعية تتميز من خلال استراتيجياتها: استعمال المنظومة التعليمية غير عادل من الناحية الكمية: ديمقراطية التعليم ليست متشابهة بالنسبة لكل الفئات الاجتماعية، وللوقوف على ذلك أجرت وزارة التربية الوطنية الفرنسية دراسة واسعة حول صيرورة التلاميذ الذين دخلوا إلى السنة السابعة المتوسطة في سنة 1980م ومن خلال مقاربة تتبعية قائمة على تقنية البانيل BANEL لاحظت الوزارة صيرورة نفس الجماعة من التلاميذ حتى دخولهم السنة الأولى الثانوية، وكانت النتائج مترجمة لفوارق كبيرة فيما يخص الدخول إلى السنة الأولى الثانوية. ما نلاحظه هو أن أبناء المعلمين لهم حظوظ أكثر ب3 4 مرات للدخول إلى الأولى الثانوية من أبناء العمال غير المؤهلين. من الناحية الكيفية: تبدو الفوارق أكثر؛ لأن ديمقراطية التعليم يصاحبها ارتفاع مهم للتمييز الداخلي وزيادة على عدم المساواة في الدخول إلى التعليم هنالك عدم المساواة في التخصص من خلال الفروع التي تحدد المسارات ومن خلال القيمة، المعطاة لكل تخصص وكذلك تشكيلتها البشرية. «إن التنوع الرسمي في شكل فروع أو شبه الرسمي في شكل مؤسسات أو أقسام متدرجة من آثاره كذلك المساهمة في إعادة خلق مبدأ مخفي للتمييز: التلاميذ المنحدرون من عائلات ميسورة تلقوا من عائلاتهم حسن الاستثمار المربح وكذلك الأمثلة والنصائح التي تساعدهم في حالة الشك، هؤلاء التلاميذ هم في وضعية تسمح لهم بوضع استثماراتهم في أحسن وقت وأحسن الأمكنة أي في أحسن التخصصات وأحسن المؤسسات ومن ثم أحسن الفروع، وفي المقابل فإن التلاميذ المنحدرين من عائلات محرومة وبخاصة أبناء المهاجرين يضطرون منذ نهاية دراستهم الابتدائية إلى توكيل مصيرهم إلى تعليمات المؤسسة المدرسية، أو إلى الصدفة لإيجاد طريقهم في عالم معقد أكثر فأكثر. وهم كذلك محكوم عليهم باستثمار رأسمالهم الثقافي الذي يظل مع ذلك محدوداً جداً»9. إن اختيار الفروع يصبح رهاناً كبيراً ويظهر هناك فرق بين التعليم التكنولوجي والتقني (أين تكون الطبقات الشعبية ممثلة بكثرة) والتعليم العام المثمن للغاية والذي نجد فيه تدرجاً للفروع مع إعطاء الصدارة للفروع العلمية، وكذلك الشأن عندما يكون للأولياء رأسمال ثقافي واجتماعي مرتفع فهم يملكون عدداً كبيراً من مصادر الإعلام حول الفروع والمؤسسات ومن ثم في وضعية تسمح لهم بتطبيق استراتيجية تضمن النجاح المدرسي والاجتماعي لأبنائهم وذلك بإبقاء الندرة التمييزية للشهادة المدرسية المكتسبة تسمح هذه الاستراتيجيات بتفسير كيف أن الدخول إلى المؤسسات المشهورة التي تؤدي إلى مواقع السلطة يظل حكراً على الفئات المسيطرة. وعكس ذلك فإن أبناء الفئات المحرومة يوجهون نحو التخصصات والفروع المنتقصة ويشكلون من ثم فئة جديدة مقصية من الداخل بمعنى تلاميذ تحتفظ بهم المؤسسة المدرسية لتأجيل إقصائهم. «إن تنوع الفروع الذي تصاحبه إجراءات توجيهية وانتقائية مبكرة أكثر فأكثر يهدف إلى إقامة ممارسات إقصائية لطيفة وغير محسوس بها في المعنى المزدوج أي متواصلة ومتدرجة وغير مدركة سواء من طرف الذين يمارسونها أو من الذين يعانون منها (...) المدرسة تقصي كعادتها، ولكن تقصي الآن بصفة متواصلة وفي كل المستويات الدراسية (...) وتحافظ بداخلها على الذين تقصيهم وذلك بالاكتفاء بحشرهم في الفروع المنتقصة علمياً واجتماعياً»10. إن دراسة الاستراتيجيات المدرسية بمعزل عن الاستراتيجيات الاجتماعية يمكن أن تبدو تعسفية واعتباطية. إن الاستراتيجيات المدرسية هي عنصر مركزي في استراتيجيات إعادة الإنتاج وتمس الفئات الأخرى. حسب بورديو ترتبط أهمية هذه الاستراتيجيات المدرسية للعائلات بالدور المركزي الذي تلعبه المدرسة في استراتيجيات إعادة الإنتاج، صحيح أن هذه الاستراتيجيات مركزة على المدرسة خاصة وأن المكون الثقافي في الحجم الشامل لرأس المال المكتسب أصبح مرتفعاً، وهذا ما يفسر الاستثمار التفاضلي في المؤسسة المدرسية لأعضاء المهن الفكرية مقارنة بالحرفيين والتجار الصغار، لأن هؤلاء يؤسسون إعادة إنتاجهم على التوريث المباشر لرأسمالهم الاقتصادي في حين أن دور الشهادة ما فتئ يتعاظم حتى لدى الفئات التي لها رأسمال اقتصادي معتبر. إن استراتيجيات الاستثمار المدرسي تكون ذات مردود كلما كان الرأسمال الثقافي الأصلي مرتفعاً، ولكن الشهادة كذلك يمكن أن تستفيد من الرأسمال الاجتماعي للأولياء، وبالفعل فإننا نلاحظ أنه عندما تتساوى الشهادات فإن الأطفال المنحدرين من طبقات مسيطرة يحصلون على مردود أحسن لشهاداتهم المدرسية في سوق العمل مقارنة بالأطفال المنحدرين من الطبقات المحرومة وهكذا فإن الأصل الاجتماعي يلعب دوراً في الحصول على الشغل ولا سيما من خلال شبكة العلاقات التي تسمح بمعرفة حسنة لفرص التوظيف أكثر من تلك المعروضة من طرف الهيئات العمومية. وعلاوة على ذلك فإن هذا المفعول يستمر أثناء المهنة ويمس الحراك المهني، إن الأصل الاجتماعي العالي ينزع إلى تفضيل الترقيات أثناء الحياة المهنية. عندما يكون المستوى المبدئي متشابهاً فإن ابن إطار يبدأ موظفاً له حظوظ كثيرة ليصبح إطاراً خلال حياته المهنية من زميله ابن الموظف. إن استراتيجيات الاستثمار المدرسي ليست بمستقلة عن استراتيجيات الخصوبة، وهكذا فإن ملاحظة نسبة الخصوبة حسب الانتماء الاجتماعي في فرنسا المعاصرة تبين أن الفئات الاجتماعية الميسورة وبنسبة أقل الطبقات المحرومة لها نسبة خصوبة أعلى من نسبة الطبقات المتوسطة، ويستنتج بيار بورديو أن: «البرجوازيين الصغار هم بروليتاريون يجعلون من أنفسهم صغاراً ليصبحوا برجوازيين»11. لا يمكن للاستثمار المدرسي أن يكون ذا مردود إلا إذا لم يشتت: ويتعلق الأمر هنا بتفضيل النوعية على الكمية وذلك لتسهيل إشراف الأولياء على العمل المدرسي. وختاماً فإن الاستراتيجيات المدرسية بوصفها مكونة للرأسمال الثقافي هي كذلك عامل قوي للزواج المتشابه في السوق الزواجية ومن ثم المساهمة بصفة غير مباشرة في إعادة الإنتاج الاجتماعي: الأزواج لا يتشابهون فقط نظراً لأصلهم الاجتماعي وإنما كذلك لمستواهم المدرسي. الخاتمة خلافاً للفكرة القائلة بأن المدرسة مؤسسة محايدة في خدمة المعرفة الكونية والعقلانية وتسمح بالترقية الفردية، فإن علم اجتماع بيار بورديو بيّن بأنها من المؤسسات المركزية في إعادة إنتاج المزايا الثقافية. ولكن عدلت هذه الفكرة نوعاً ما من طرف صاحبها وانطلاقاً من تفسير قائم أساساً على آليات إعادة الإنتاج المرتبطة بأسلوب الاشتغال الداخلي للمؤسسة المدرسية تحول التحليل إلى دراسة الاستراتيجيات التي يوظفها الأعوان الاجتماعيون في الاستعمال التفاضلي للمؤسسة وفقاً لموقعهم في الفضاء الاجتماعي، وفي هذا الصدد فإن علم اجتماع المدرسة لا يمكن فصله عن إسهامات بورديو الأخرى، لأن القوانين العامة لاشتغال الحقول تطبق أيضاً على الحقل التربوي. الهوامش والإحالات 1 - P.B . LAEISTINTION , MINUIT , PARIS 1982 OP. CIT.P.180, 2 - P.B . LES HERITIERS , MINUIT , PARIS , 1964 3 - P.B. LA MISERE DU MONDE , LE SEUIL , PARIS , 1993,P.599 4 - P.B. REISONS PRATIQUES , MINUIT , PARIS , 1994,P.42 5 - P.B. LA REPRODUCTION , P. 70 6 - P.B LA REPRODUCTION , OP . CIT .P 121. 7 - IBID . P 158 8 - P.B. LA MISERE DU MONDE . P. 598. 9 - P.B, IBID , P. 602 10 - P.B LA DESTINCTION , OP . CIT. P . 390, 11 - P.B LA DISTINCTION . OP .CIT. P. 390 المصادر والمراجع PIERRE BOURDIEU 1 - LA DISTINTION , MINUIT , PARIS 1982. 2 - LES HERITIERS , MINUIT , PARIS , 1964. 3 - LA MISERE DU MONDE , LE SEUIL , PARES , 1993. 4 - RAISONS PRATIQUES, MINUIT , PARIS , 1994. 5 - LAREPRODUCTION MINUIT , 1970.