لأبدأ بنص ليس من قبيل الشعر الرائع؛ ولكنني أستخدمه لقيمته التاريخية. فهو يشكل جزءاً من الكتاب الأول لما سميت فيما بعد «قصائد نثر»: حيث رأى فيها نقاد القرن الثامن عشر النماذج الأولى للنوع الأدبي الجديد. القصيدة بعنوان (Sur les rochers de Chevremorte)(على صخور شيفرمورت) وهي من نصوص «جاسبار الليل» لبرتراند. وقد كان هذا الشاعر مدركاً على نحو مبهم بأنه كان يكتب «شيئاً جديداً» دون أن يكون قادراً بالفعل على تعريفه لمعاصريه. وبعدها بفترة كبيرة سوف يدرك بودلير كتاب «جاسبار الليل» باعتباره كتاباً لقصائد النثر؛ وكان بودلير من ابتكر هذا التعبير، على الرغم من أنه قال: إن قصائده النثرية القصيرة (Petits poemes en prose) كانت مختلفة. لقد رأى بودلير أنه كان يفعل الشيء نفسه الذي فعله برتراند، حتى وإن كان التباين بينهما يمضي لأبعد من مجرد المضمون. وهذا يعطينا مبرراً إضافياً لننشد طبيعة قصيدة النثر في موضع آخر غير التصنيف النظري المكرس. لقد اخترت قصيدة(Sur les rochers de Chevremorte) لسبب آخر أيضاً: فهي واحدة من القصائد التي علق عليها سانت بيف في مقدمته ل «جاسبار الليل» التي كتبها عام 1842. فقد اختار سانت بيف هذه القصيدة لأنها «تطرح بطلاوة ساحرة التأمل عن كثب للواقع الموجع». وليس من شك في أن القيمة الشعرية لهذه القصائد بالنسبة لسانت بيف تكمن في هذا التأمل في واقع شعري، في تجربة عاطفية. إنه رمز كامن تماماً في مجموعة الأكليشيهات الغنائية: تأمل شخصاً منعزلاً في مشهد طبيعي، قفر وموحش. وبالنسبة لسانت بيف، وبشكل واضح، فأياً كانت الطريقة التي كتب النص عليها، فسوف يكون شعراً إذا ما كانت الأشياء والأفعال المصورة فيه شاعرية. يشير برتراند في هامش شارح للعنوان إلى أن Chevremorte تمثل مساحة نصف ميل من Dijo إنه يؤكد على هذه التفصيلة، فيما يبدو، لكي يؤكد على مدى مصداقية الأحاسيس الوجدانية المعبر عنها في القصيدة. نحن نعرف أن هذه الصخور موجودة، وأن برتراند اعتاد التجول بينها، وأنه كان حزيناً هناك. فالعنوان موضوع بوصفه برهاناً على المصداقية: والنص يتم قبوله كقصيدة بقدر ما يعيد سرد تجربة معيشة يمكن للقارىء أن يتمثلها وجدانياً. عند صخور شيفرمورت وأنا أيضا صرت ممزقاً بأشواك هذه الصحراء، وأترك هناك في كل يوم جزءاً من جثتي. «الشهداء»... ليس لك هنا أن تتنشق طحلب شجر السنديان، وبراعم شجر الحور، ولا هنا تدمدم النسائم مع المياه سوياً بحب. لا أريج ، في الصباح بعد المطر، أو في المساء وقت الندى: وما من شيء يطرب الأذن سوى صياح طائر صغير يرتجي نصل العشب. صحراء لم تعد تسمع صوت يوحنا المعمدان، صحراء لم يعد يسكنها الناسك أو الحمامة. وهكذا، فروحي قفر ، على حافة الهاوية، حيث طرف إلى الحياة وطرف إلى الموت، وأنا أطلق تنهيدة بائسة. الشاعر مثل نبات اللبلاب الذي يربط نفسه، وهو هزيل وسهل الكسر، بالغرانيت، ويتطلع إلى الشمس أكثر مما يتطلع إلى الأرض. ولكن واحسرتاه! لم تعد لدي شمس منذ أن غربت العيون التي بثت الحرارة في عبقريتي! (22 يناير، 1832) إن ما لا يراه سانت بيف هو أن Chevremorte في القصيدة بها مما يربطها بكلمة «صخور» التي تتقدمها، أكثر مما يربطها بالبقعة الجغرافية التي تشير إليها. وأياً ما كانت الطريقة التي قد يعملون بها على طرح حقيقة واقعة وقابلة للإثبات، فإن هذين الدالين (rochers) و (chevremorte) يعملان على نحو شعري ليكررا مرة أخرى، وبنوع من عدم المباشرة، مفهوم الصحراء، بمعنى مكان جدب قاحل. إنها ليست مسألة تأثير لواقع، أو لمصداقية مضمونة، ولكنها بالأحرى تنويع شعري على كلمة «صحراء» desert. إنه كناقل، لا يواري برتراند إحالاته. فالاقتباس الاستهلالي يدفعنا دفعاً للرجوع إلى نص شاتوبريان Chateaubriand (Martyrs I، p. 336) «الشهداء». إنها فيليدا التي تتكلم: الراهبة الغالية [الفرنسية] تتفجع على حبها غير المتبادل لإيودور، النبيل الروماني المسيحي. إن عاطفتها محرمة بشكل مضاعف: من كونه عشق راهبة وثنية لمسيحي من جهة، ومواطنة غالية [فرنسية] لروماني مستعمر من جهة أخرى. وهكذا يطرح الاستهلال سلفاً ندب عاشق(ة) لحب مستحيل. ولأستشهد بالمونولوج السابق على هذا الاقتباس: تقول فيليدا: «لو أنك أحببتني، أي مسرات كانت ستغمرنا ونحن نجوز تلك الحقول! أية سعادة أن أهيم معك في تلك الطرق المنعزلة، مثل الشاة التي ظلت خصل صوفها عالقة على هاتيك الأشواك». العالم بالنسبة لمن يعشق ولا يبادله أحد العشق يكون أرضاً خراباً موحشة. العشاق ينشدون العزلة، التي تغدو «صحراء» desert حين تكون وحيداً. تلك الفكرة (العزلة = الصحراء) في نص برتراند متحققة من خلال نفي وجود نقيض الصحراء. والعكس تماماً يحدث في مفتتح قصيدة هوجو «حزن الأوليمب» (Tristesse d Olympio) لم تكن الحقول سوداء، لم تكن السماوات معتمة، كلا، كان النهار متألقاً في سماء صافية بلا حدود. إن كل شيء ها هنا مطروح في صيغة نفي للحزن، ويبقى الحزن قائماً. أما في (Sur les rochers de Chevremorte) لاصحراء - إذا جاز لي أن أصوغها على هذا النحو - متحولة إلى صحراء عبر إنكار مضاعف. الوصف هنا مصاغ من عناصر البهجة التي ينفيها النص – «لا يمكن هنا أبداً أن تتنشق طحلب شجر السنديان، وبراعم شجر الحور، ولا هنا تدمدم النسائم مع المياه سويا بحب» - الذي يتيح البقاء لشيء من قبيل ذكرى للحياة قبيل أن تتحول إلى صحراء. ولكن ما الذي يقوله نص شاتوبريان؟ إنه الشيء نفسه في الحقيقة، وأنا بودي أن ألح على حقيقة أن المتناص من نص برتراند مع نص شاتوبريان يحذو حذوه كلمة بكلمة:«قل لي، هل سمعت أنين النبع في الغابات ليلة الأمس، وعويل النسيم في العشب الذي ينمو على نافذتك؟ حسناً، إنه كان تنهدي في هذا النبع وفي هذا النسيم! لقد تبينت أنك أحببت همهمة المياه والرياح». في قصيدة برتراند، هذه الصحراء الصرف، وهي في الحقيقة عزلة باطنية موحشة، ناشئة أيضاً من خلال تلميح تناصي آخر، وهو إنجيلي هذه المرة. صحراء برتراند لا تقابل بصحراء شاتوبريان وإنما بالنموذج الأولي للصحراء في العهد الجديد، حيث صوت النبي الضائع في الخلاء(3)، وحيث البذرة، كما في المثل الرمزي، تسقط فوق الصخرة فلا يمكن أن تنبت. الفقد الموغل، الفراغ الكلي للحياة من دون المحبوب حيث لا يكون للمحب من يتكلم معه، هذا الصمت، هذا الخواء، يزداد بروزاً من خلال التعريج على تناص المعمدان. بل والأكثر تأثيراً، الصوت الصارخ الذي يصرخ سدى (الصوت الصارخ في البرية)، هذا الصوت نفسه صامت: فهو لايزال في الصحراء، لكنه لم يعد يصرخ. إنه السكين بلا نصل وبمقبض ضائع، كما في ابتكار الألماني الساخر ليشتنبرج. وتصف العبارة التالية الروح التي لا حياة فيها، الوحشة التي لا حدود لها: «على حافة الهاوية، حيث طرف نحو الحياة وطرف نحو الموت، وأنا أطلق تنهيدة بائسة». في نص شاتوبريان لاتزال فيليدا تقول: «وحين لا يعود لي وجود... سوف تكتب لي رسائل وسوف حتى نتبادل الحديث (ندردش)، على أي جانب من القبر». ويبدو الأمر كما لو أن برتراند يجعل صحراء فيليدا أكثر من مجرد صحراء.