إن قراءةً واعيةً لشعرنا العربي تشي بما للشعراء من عناية فائقة بالعيد ملمحاً إسلامياً ذا أبعاد نفسية واجتماعية ثرَّة، وما يرتبط بها من تجليات الفرح والحزن، مما أكسبه أهمية خاصّة لارتباطه بأحاسيس الناس فرادى وجماعات، في ضوء ما يعتريهم من مواقف وأحداث، تلعب دوراً كبيراً في الإحساس به، قُرْباً وبُعْداً، حدّةً وفتوراً.تجلت عنايةُ الشعراء العرب بالعيد في رصد هلاله رصداً لا يخلو من طرافة، ويُعَدُّ ابن المعتز (ت296ه) أول من ربط بين الهلال وبين عيد الفطر، فقال: أهلاً بفِطْرٍ قد أنافَ هلالُه فالآنَ فاغْدُ على الصِّحاب وبَكِّرِ وانظرْ إليه كزورقٍ من فِضَّةٍ قد أثقلتْهُ حمولةٌ من عَنْبَرِ ويصف ابن الروميّ (ت283ه) أيضاً هلال شوّال وصفاً لا يخلو من طرافة وحُسْنِ بديع، فقال: ولما انقضى شهر الصيام بفضله كحاجبِ شيخٍ شابَ من طُولِ عُمْرِه تجلَّى هلالُ العيدِ من جانبِ الغربِ يشيرُ لنا بالرمز للأكْلِ والشُّرْبِ وقد اقترن العيد بعادات اجتماعية كثيرة، تأتي التهنئة في مقدمتها، يُزْجيها الإنسانُ لمن يُحِبُّ ويودُّ، وقد وجد الشعراء في العيد متكأ، عليه يتقرَّبون من بلاط الملوك، تحركهم غاياتٌ تكسبية خاصة، فاقترن العيد بعدد لا يحصى من عيون الشعر العربي، مثال ذلك قولُ البحتريّ (284ه) للمتوكل الخليفة العباسي (ت274ه) مهنئاً ومادحاً: بالبِرِّ صُمْتَ وأنتَ أفضلُ صائمِ وبسنَّةِ اللهِ الرَّضيَّةِ تُفْطِرُ فانْعَمْ بعيدِ الفطرِ عيداً إنَّهُ يومٌ أغرُّ من الزمانِ مُشهَّرُ وقد أكثر شاعر العربية الأكبر (المتنبي ت 354ه) من قصائده التي أزجاها لممدوحيه، مهنئاً إياهم بقدوم العيد، مثال ذلك قوله يمدح سيف الدولة عند انسلاخ شهر رمضان عام 442ه: الصَّوْمُ والفِطْرُ والأعيادُ والعُصُر منيرةٌ بكَ حتى الشمسُ والقمرُ وقوله من أخرى يبدؤها بقوله: لكلِّ امرىءٍ من دهره ما تعوّدا وعادةُ سيفِ الدولةِ الطَّعْنُ في العِدا ثم يهنئه بالعيد قائلاً: هنيئاً لكَ العيدُ الذي أنتَ عِيدُه وعيدٌ لمن سَمَّى وضحّى وعيّدا ولازالتِ الأعيادُ لُبْسَكَ بعَده تُسَلِّمُ مخروقاً وتُعْطى مُجدّدا ومثل ذلك يمكن تلمُّسه لدى كثير من شعرائنا العرب القدامى: كتميم بن المُعِزِّ (ت374ه) وابن المعتز (ت296ه)، وابن سكرة الهاشمي (385ه)، وابن زيدون (ت463ه) وابن هانئ الأندلسي (ت362ه).. وغيرهم كُثْر. وتأرْجُحُ الإحساس بالعيد لدى المتنبي يجعل تجربة العيد لديه تجربة فريدة، أوقعته بين الشيء ونقيضه، فإذا كان قد خلّد بقصائده العيديات (إن جاز هذا التعبير) ذِكْرَ ممدوحيه، فإنه جَسَّد – في الوقت ذاته – عمق مأساته، فقال: عيدٌ بأيّةِ حالٍ جِئْتَ يا عيدُ بما مضى أم بأمْرٍ فيكَ تجديدُ أمّا الأحِبة فالبيداءُ دونَهم فليت دونك بيداً دونهم بيدُ ويُشْبِهُ المعتمدُ بن عباد (ت488ه) المتنبي تبدُّلَ حالة ، وإحساساً فادحاً بوَقْعِ المأساة، فقد أدركه العيدُ مكبلاً في أغمات يرى هوان نفسه وأهله، فقال يخاطب نفسه راثياً إياها: فيما مضى كنتَ بالأيامِ مسروراً فجاءكَ العيدُ في أغماتَ مأسورا ترى بناتِكَ في الاطمارِ عاريةً يطأنَ في الدَّيْنِ ما يملكن قطميرا وإذا كانت التهنئةُ بالعيد قد أضحت سلوكاً يحرص الشعراء عليه منذ وظَّفوا ملكاتهم لغايات تكسبية، فراحوا يُطوِّقون جِيدَ ممدوحيهم بقلائد شعرية خالدة، فإن ثُلَّةً من الشعراء وجدت في التهنئة بالعيد وقبولها لَذْعَ ألم وأثرَ لهيب، إذ كيف للمُعَنَّى بآلام وطنٍ مازال قيْدَ القَيْدِ أن يهنأ له بالٌ، وأن يكتحلَ له جَفْنٌ بوَسَنٍ، من بين هذه الطائفة يأتي الشاعر عمر بهاء الدين الأميري (ت1356ه) نسيجَ وحدِه ، إذ يقول: يقولونَ لي: عيدٌ سعيدٌ ، وإنَّهُ ليومُ حسابٍ لو نحسُّ ونشعرُ أعيدٌ سعيدٌ !! يا لها من سعادةٍ وأوطانُنا فيها الشقاءُ يزمجرُ ومن خلال ملمح (ثنائية التأزم والانفراج)، ينطلق من العام (أوطاننا) إلى الخاص (فلسطين/قضية العرب الكبرى) فيقول: يمرُّ علينا العيدُ مُرَّاً مضرَّجاً بأكبادنا والقدسُ في الأسْرِ تصرخُ عسى أنْ يعودَ العيدُ باللهِ عزّةً ونَصْراً، ويُمْحى العارُ عنّا ويُنْسَخُ وهنا تتقاطع تجربةُ العيد – هُويّةً وتجلياتٍ – لدى الأميري من جهة وعمر أبي ريشة (ت 15/7/1990م) من جهة أخرى، تقاطعاً يعكس الصَّوْتَ وصداه وإحساساً بما حَلَّ بالقدس من مأساة فادحة، لم تنجح في قطف زهور الأمل من النفوس، فقال: يا عيدُ ما افْتَرَّ ثَغْرُ المجدِ يا عيدُ فكيف تلقاكَ بالبِشْرِ الزغاريدُ يا عيدُ كم في روابي القدسِ من كَبِدٍ لها على الرَّفْرَفِ العُلْوِيِّ تَعْييدُ سينجلي لَيْلُنا عن فَجْرِ مُعْتَرَكٍ ونحنُ في فمه المشْبوبِ تَغْريدُ وللعيد في وجدان الشعراء المنفيين عن أوطانهم – اختياراً أو اضطراراً – أصداء متعددة، وأحاديث ذوات شجون، فالشاعر العراقي الراحل الدكتور السيد مصطفى جمال الدين (ت 1996م) يرصد ما يحمله العيد من حزن وكآبة، من خلال رصد ملمح بسيط ومكتنز – في الوقت ذاته – بالدلالات الثّرة والعميقة، ملمح الأطفال وقد جاءهم العيدُ خالي الوِفاضِ فلا هم سعدوا بمرآه، ولا هم فهموا مغزاه، متخذاً من المفارقة التصويرية أداةً لرصدِ واقعين مختلفين وإحساسين متغايرين، فقال: العيدُ أقبلَ تُسْعِدُ الأطفالَ ما حملتْ يداه لُعَباً وأثواباً وأنغاماً تَضِجُّ بها الشِّفاه وفتاكَ يبحثُ بينَ أسرابِ الطفولةِ عن (نِداه) فيعودُ في أهدابه دَمْعٌ ، وفي شفتيه (آه) ولم يقف إحساسُ الشاعر العراقي عند هذا الحدّ، بل تجاوزه إلى رصد ما يشعر به من اغتراب داخلي وخارجي، فقد جاء العيد دون بشارة لقاءٍ واجتماع، فقال: هذا هو العيدُ ، أينَ الأهلُ والفرحُ ضاقتْ بهِ النَّفْسُ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟! وأينَ أحبابُنا ضاعتْ ملامحُهم مَنْ في البلاد بقي منهم، ومن نزحوا وفي مناخ كهذا يصبح العيد رمزاً لزمنٍ جميل ولَّى ولن يعود، وذكرياتٍ تُثيرُ الأسى ولا تبعث في النفس سلوى، وفي ذلك يقول الشاعر: - يا عيدُ عرِّجْ فقد طالَ الظّما وجَفَتْ تِلكَ السنينُ التي كم أيْنَعَتْ عِنَبا - ما عادَ في الروحِ إلاّ ظامىءٌ ولِهٌ مِنَ العروقِ وإلاّ لاهثٌ تَعِبا - ما عاد في الصّدرِ إلا خافقٌ تَعِبٌ أوهى به الألمُ المدفونُ فاضطربا - يا عيدُ عُدنْا أعِدْنا للذي فرِحَتْ به الصغيراتُ من أحلامنا فخبا - مَنْ غيّبَ الضحكةَ البيضاءَ من غَدِنا مَنْ فَرَّ بالفرحِ السهرانِ مَنْ هَربَا - لم يبقَ من عيدنا إلا الذي تَرَكَتْ لنا يداهُ وما أعطى وما وَهَبا - من ذكرياتٍ أقَمنا العُمرَ نَعصِرُها فما شربنا ولا داعي المُنى شَرِبا - يا عيدُ هَلاّ تَذَكرتَ الذي أخَذَتْ منّا الليالي وما من كأسِنا انسَكَبا - وهل تَذَكَّرتَ أطفالاً مباهِجُهُم يا عيدُ في صُبْحِكَ الآتي إذا اقتربا هَلاّ تَذَكَّرتَ ليلَ الأَمسِ تملؤُهُ بِشْراً إذا جِئْتَ أينَ البِشْرُ.. قد ذَهَبا وإذا كان العيد في وجدان الشاعر العراقي يحمل أمارات وطن شائه وغَدٍ قاتم، فإنَّ العِيدَ والوطنَ لدى سعيدة بنت خاطر يُصبحان ضفيرةً مجدولةَ الأوصالِ، وهنا يصبح الوطن أداة جَذْبٍ لا طَرْد، ووسيلة تأليف لا تشتيت، ويصبح قدوم العيد حاملاً وعْداً وبشارة، فقالت: العِيدُ مزدانٌ بنورِكَ مَوْطني والدَّهْرُ نشوانٌ يُغَنِّي دَيْدَنا وتبسَّمَتْ قممُ الجبالِ سعادةً وتوشَّحَتْ خُضْرُ السهولِ مفاتنا ولئن نجح الشعراء في رَصْدِ فرحهم بقدوم العيد لأنه جاء تتويجاً لما بذلوه من طاعات، فإنَّ ثُلَّةً قليلة جاء سرورها لغاية مغايرة، تجلّت في انكسار كلِّ قَيْدِ حال بينهم وبين ما جُبِلوا عليه من سيىء الأفعال ورذيل العادات، إذ رأوا في رمضان شهر كَبْتِ لرغباتهم وحيلولةٍ دُون ما يشتهون، فقال الأخطل (ت90 ه): ولستُ بصائمٍ رمضانَ طَوْعاً ولستُ بآكلٍ لحمَ الأضاحي ومن مثل ذلك قول بشار بن بُرْد (ت168 ه) مبدياً ضجره من رمضان مستثقلاً إيّاه، متعجّلاً انقضاءه، وقدوم العيد، فقال: قُلْ لشهر الصّيامِ أنْحلتَ جسمي إنّ ميقاتنا طلوعُ الهلالِ اجهد الآنَ كلَّ جَهْدِكَ فينا سترى ما يكون في شوّالِ ويرصد أحمد شوقي (ت 1930م) موقف هذا الفريق من خلال رصد حال مدمن الخمر في زمنين مختلفين (قبل العيد وبعده)، وحالين مختلفين (البعد والقرب) فراح يجسّد الخمر ومدمنها عاشقين قد حِيلَ بينهما، وحانت لحظة الانعتاق، فقال: رمضانُ ولّى هاتِها يا ساقي مشتاقةً تسعى إلى مُشْتاقِ ما كان أكثره على أُلاّفِها وأقلَّهُ في طاعة الخلاّقِ بالأمسِ قد كانا سجينَيْ طاعةٍ واليوم مَنَّ العيدُ بالإطلاقِ ضحكتْ إليَّ من السرور ولم تَزَلْ بنتُ الكرومِ كريمة الأعْراقِ مما سبق يتجلّى لنا أن العيد قد احتلّ مساحة شاسعة في تضاعيف شعرنا العربي وعبر حِقَبٍ زمنية واسعة وسحيقة، وبدا عبر صور متعددة، وأبعاد متباينة.