حضرموت حلم.. واليوم نعيش الحلم شددت الرحال في المرة البكر على أجنحة اليمنية نحو الحلم فكانت سيؤن شبام تريم ونهر من الطين .. وقباب الأولياء... ثم توالت الرحلات، وتجدد الحلم إلى وادي دوعن ووادي عمد وقبر النبي هود.. وحين أعود من وهج حلمي كنت أحكي لكل صديق عن جدار الجبال الطويل، عن غابات النخيل، وعن رقة الإنسان وعظمته. . وحين قررنا الرحيل بشكل جماعي، رحلة على حافلة، كنا أكثر من (30) مشتركاً.. انطلقت بنا الحافلة ذات فجر.. ودعنا ذمار.. اخترقنا صنعاء.. اتجهنا نحو مارب عبر الطريق الطويل.. صافر.. رملة السبعتين.. العبر.. الصيعر.. ولم نكتفِ.. كان الطريق جميلاً والريح تحمل ذرات الرمال ليفتح لنا وادي حضرموت ذراعيه.. تلك الحقول، سندس الضوء، زرنا امرأ القيس، الهجرين.. كان زاد الجميع على ظهر الحافلة.. ما أن ينيخ الليل عيونه حتى نستكين إلى بقعة في العراء.. نطبخ الأكل.. نشعل النار.. نلقي حكاياتنا.. ننام لنستقبل الحلم. يوم جديد.. جبنا روافد الوادي العظيم.. كل شيء يحكي لنا قصة الكون.. قصة أعماق تاريخ لا ينتهي. أنشودة البحر اكتفينا بأسبوع وادي النخيل، ووادي العيون، ووادي.... ووادي... كلها حضرموت النخيل.. اتجهنا عبر الجبال نحو المكلا.. حضرموت البحر.. كنا قد قسمنا أنفسنا على سبع فرق.. كل فرقة تضم خمسة أعضاء.. وكل فرقة تكفلت بيومها من تجهيز الإفطار للجميع إلى إعداد وجبة الغداء.. إلى وجبة العشاء.. وكان معنا دست كبير.. وشولة لهب الغاز.. والكثير من الرز والبصل والطماط.. والثوم و«البسباس».. نعم «البسباس» الفلفل الأخضر. كانت شواطئ بحر العرب تعج بالصيادين.. وما ألذ سمك تلك الشواطئ وما أرخص أسعارها. كانت تلك الفرق تطبخ السبخ لجميع الوجبات.. لقد أتينا من جبال بعيدة ولا يوجد لدينا في تلك الجبال بحر.. والسمك لايأتي إلا وقد تحولت خياشيمه.. أما في حضرموت البحر فشيء مختلف. اننتقلنا من المكلا نحو الشرق بمحاذاة الشاطئ حتى الشحر.. سلمنا وقرأنا الفاتحة على قبر المحضار والتقطنا عدة صور جماعية في حضرته.. ثم وصلنا إلى الديس والحامي وقصيعر.. كان الطقس حاراً.. والحلم يكشف لنا عن أسراره. وحين قررنا العودة.. كان علينا أن نعود إلى المكلا من نفس الطريق.. وصلنا إلى مدينة صغيرة قبل الوصول إلى المكلا.. كان اسمها شحير.. أخبرونا عن مدينة تبعد عدة كيلومترات إلى الداخل باتجاه الشمال، إنها الغيل.. (غيل باوزير) قررنا زيارتها. عجائب الطبيعة لم تطل المسافة حين بدت مآذنها، وقباب أوليائها، ومبانيها البيضاء، وكذلك المبنى الكبير الذي يتوسط المدينة وهذا المبنى هو (المدرسة الوسطى) الذي تم ترميمه بعد أن تعرض للحريق وتحويله إلى مركز ثقافي.. ولهذا المبنى الكبير تاريخ نوجزه فيما يلي: كان هذا المبنى يشغل وظيفة حصن وكان اسمه (حصن الأزهر) وقد تم تحويله إلى مدرسة سميت بالمدرسة الوسطى عام 1944م، فكانت المدرسة هي الأولى في حضرموت، حيث توافد إليها طلبة العلم من كل أنحاء حضرموت.. وكانت بمثابة المدرسة الثانوية، حيث يبتعث من يتخرج منها للدراسة في الجامعات الخارجية. زرنا ذلك المبنى التاريخي.. وطفنا بأحياء (غيل باوزير).. ثم دلّنا أحد الشباب على مزارع التنباك الذي تشتهر بزراعته هذه المدينة في وديانها الفسيحة.. كما زرنا مزارع الحناء الذي يصدر مع منتوج التنباك إلى دول الخليج وبعض دول أفريقيا.. وكانت المفاجأة لنا أن نكتشف في أطراف هذه المدينة عيوناً طبيعية.. لكنها لا تشبه تلك العيون التي عرفناها.. فهذه العيون تنبع من باطن الأرض وفي فجوات ضخمة تحيط بها الصخور من كل جانب والماء يملأ تلك الحفر التي قد يصل محيط اتساعها إلى مائتين أو ثلاثمائة متر.. مملوءة بالمياه التي تنبع من الأعماق. ما أن استقرت بنا الحافلة عند أطرافها.. حتى تقافزنا إلى وسط بحيرة الماء العميقة.. وتنتشر تلك العيون أو البحيرات حول مدينة غيل باوزير وفي وديانها.. وهي تشبه فوهات براكين.. ويسمونها (حومة) وجمعها حَوْمات أو حُوَم.. وهي من عجائب حضرموت التي لا تنسى، ومن تلك الحومات: 1 حومة الفحل (السركال). 2 حومة التولقة. 3 حومة الحرات (الكبش). 4 حومة المخسوسة. 5 حومة العروس. 6 حومة سعد الجديدة. وغيرها من العيون التي تحتوي على مخزون هائل من المياه.. بل إن بعضها لا يستغل لوجود عوائق طبيعية. خيّمنا قرب تلك البحيرات أو العيون «الحومات» يومين نهرب إليها من حر الشمس.. ونتسامر طوال الليالي حولها.. وحين رحلنا من حرها نحو المكلا ثم شبوة عبر أبين نحو ثغر عدن كانت تلك البحيرات قد حفرت ملامحها في عقولنا كإحدى العجائب السياحية في أحلامنا.