خلقت الكائنات لكي تموت ولكن هناك كائناً واحداً فقط من صنع الإنسان يعيشه ويعايشه سعياً وراء تخفيف متاعبه النفسية هو الكائن الوحيد الذي حينما يموت يولد!!.. هذه حقيقة قد لمسها كل منا في حياته فهي ليست نوعاً من الفوازير ولا ينبغي أن يضرب البعض أخماساً في أسداس، ولكننا بالفعل نقر واقعاً فهذا الكائن قد يعيش لفترة في الخيال، ثم يرحل عنه؛ لكي يولد في الواقع ألا وهو الحلم.. فقد باتت تؤرقني هذه الفكرة عندما نويت مجرد الاقتراب من التفكير لإجراء هذا التحقيق عن أحلام اليقظة التي يحلم بها الكثير وهم في كامل وعيهم وفي حالة تامة من اليقظة. أحلام اليقظة الدكتور أحمد شوقي العقباوي أستاذ الطب النفسي بجامعة صنعاء أجرينا معه هذا الحوار: أحمد: لجوؤنا لأحلام اليقظة يؤكد أن احتياجنا للأشياء أصعب من امتلاكنا لها ما هي قراءتكم لأحلام اليقظة؟ فعلاً لجوؤنا إلى أحلام اليقظة يؤكد بداخلنا أن احتياجنا للأشياء أصعب من امتلاكنا لها فنحن دائماً نمتلك اللحظة التي نعيشها ونظل في حالة احتياج للخطة القادمة؛ لذا نجد أنفسنا نحلم بما لا نملكه؛ لأننا نحب عادة البحث عن حياة أفضل ويعد البطل الحقيقي في حكاية أحلام اليقظة هو الخيال الذي يعتبر بمثابة مخزون من الذخيرة الحية التي ندفع بها عن أنفسنا إحباطات الواقع وإحساسنا بالكبت والفشل المستمر لعدم تحقيقنا لأهدافنا في الحياة.. فأحلام اليقظة أن يحلم الإنسان وهو مستيقظ لتحقيق فكرة معينة فهي بحق حيلة الطامح ومكسور الجناح فكلاهما يحلم ولكل منهما مبرراته فالأول يتخذها وسيلة لتحسين واقعه الملموس والثاني يعتبرها بمثابة طوق نجاة من نحسه المحسوس. أحلام خرافية ويواصل أستاذ علم النفس حديثه: ومن المعروف أن أحلام اليقظة نوعان الأول منها يلجأ إليها الإنسان لتحقيق طموحاته في المستقبل والآخر أشبه بالأحلام الخرافية التي يستغرق فيها البعض فور تعرضه لصدمات الواقع فهو يتعامل معها بمثابة أنها استراحة نفسية له تجعله يبتعد عن مشكلاته و إحباطاته ويعيش من خلالها إحساساً بميلاد أمل جديد وقد تصل درجة معايشة البعض لمثل هذه الأحلام الخرافية إلى الإدمان فتجعله يتعامل مع أحلام اليقظة على أنها نوع من المخدرات التي تحدد ألمه وأوجاعه النفسية وتجعله يعيش شعوراً مريضاً بالسعادة..!! وتعد الشخصية الانطوائية من أكثر الشخصيات التي تستغرق وقتاً طويلاً في أحلام اليقظة؛ لأنها شخصية حساسة تهوى العزلة ولديها عدد محدود من الأصدقاء تميل أكثر إلى القراءة والتأمل الذاتي وتستعيض عن الناس بأحلام اليقظة كونيس لعزلتها؛ لأنها تحقق لها إشباعاً نفسياً. مشاهير أحلام اليقظة ومن أشهر من حلموا بأحلام اليقظة في حياة البشرية كان الفيلسوف اليوناني أفلاطون حينما حلم بوجود المدينة الفاضلة وأحيائها وهذا كان بالطبع مستحيلاً لأن ذلك يتعلق بطبائع البشر المتباينة التي يصعب إصلاحها فكانت ومازالت المدينة الفاضلة من علامات لجوء أفلاطون نفسه إلى أحلام اليقظة..ولا أحد يستطيع أن ينكر أن أحلام اليقظة كانت بمثابة حجر الزاوية في تحقيق نجاحات كل الاختراعات الموجودة الآن حيث كانت وليدة لأحلام اليقظة فالحكم هو استقراء للمستقبل أو بمعنى أدق هو إعداد له وتحفيز لصاحبه على تحقيق المزيد من الإنجازات والنجاحات. مراحل النمو ^^.. هل لك أن توضح لنا كيفية لجوء الإنسان خلال مراحل حياته إلى الكنز الخفي مثلاً في نفوسنا المسمى بأحلام اليقظة؟ يبدأ الإنسان بالمرور في مراحل النمو النفسي والعقلي والجسدي خلال مرحلة الطفولة، ثم يدخل بعد ذلك في مرحلة المراهقة حيث يتعرض لانفجار قنبلة الغريزة الجنسية فيصبح لديه توجه وميول إلى الجنس ويصبح هناك سعار لإشباع هذه الغريزة فبالنسبة للذكور يجب أن يجب أن يكون الشاب قد تخرج وأنهى تعليمه وتكون لديه وظيفة لكي يرتبط بفتاة من أجل الزواج منها على عكس ما كان يحدث في حياة البداوة البسيطة حيث كانوا يزوجون الفتاة والشاب بعد مرور ستة أشهر من بلوغهما الجنس ويعملان سوياً في الزراعة ولا يوجد لديهما أدنى مشكلة في إشباع هذه الغريزة الجنسية، ومن ثم فإن ذلك الشعور جعل لديه احتياجاً لإشباع هذه الحاجات النفسية، ومن ثم تتولد لديه الرغبة في أنه لابد أن يحقق شيئاً ما في حياته ولكن بسرعة فهنا يأتي دور أحلام اليقظة فهذه الأحلام ترتبط بشكل ملحوظ وكبير بمرحلة المراهقة، وكلنا مررنا بهذه المرحلة وعايشنا ما بها من أحلام يقظة التي يلجأ إليها المراهق وعقله البشري لحل مشكلة ما يتعرض لها وتسبب له إحباطا فهو يتحايل على هذا الإحباط في الواقع بأنه يعيش في الأحلام فتجده يؤلف سيناريو لفيلم يجعل نفسه بطلاً له ويظل يعيش بداخل هذا الفيلم أو تلك الحدوته ؛ لكي يتغلب على إحساسه بالفشل والكبت مع الإحباط في تحقيق هدف معين في حياته فتجده يحلم بحبيبته أو بأن يصبح ثرياً أو يكون ذا منصب مهم فيستغرق في هذا الحلم لفترات زمنية معينة. أحلام اليقظة والمرضى يضيف الدكتور أحمد: إن هناك نسبة ضئيلة ممن يلجأون إلى أحلام اليقظة يكونون عرضة للإصابة بالمرض النفسي أو العقلي؛ لأن هؤلاء يدخلون في أحلام اليقظة ولا يستطيعون الخروج منها فيجلسون ساعات طويلة يعيشون حالة من الاستغراق في أحلام اليقظة وتختلف نسبة هؤلاء من مجتمع لآخر، ولكن بشكل عام لا نستطيع القول بأن نسبتهم تتجاوز نسبة 5 % من السكان المعرضين للإصابة بالمرض النفسي والعقلي نتيجة استغراقهم المستمر في أحلام اليقظة. ويؤكد الدكتور أحمد أنه بشكل عام كلما يكبر الإنسان ويتقدم في العمر كلما يبدأ في الانشغال في تحقيق أحلامه من خلال قيامه بأفعال معينة ويبدأ في ترتيب أولوياته فمثلاً بعد أن يتم تعليمه الثانوي يفكر في الالتحاق بالجامعة واختيار الكلية المناسبة له وبالتالي يبدأ بالانشغال بأشياء وأهداف حقيقية في الحياة، ومن ثم يقل الاستغراق في أحلام اليقظة ولجوئه إليها حتى يصل إلى مرحلة تتحول فيها أحلام اليقظة إلى تخطيط لمجريات حياته وبالتالي يبدأ في التفكير في كيفية تحقيق أي حلم يحلم به؟! عادة يختلف حلم اليقظة عن التخطيط أو وضع خطة معينة لتنظيم حياة أي إنسان؛ لأن حلم اليقظة يجعل صاحبه غير مرتبط بقوانين الواقع، ولكنه أكثر ارتباطاً بالخيال البحت، بينما الأمر يختلف عن وضع خطة أو عن التخطيط لتنفيذ شيء معين حيث يلتزم الفرد في هذه الحالة بقوانين الواقع فمثلاً جيلنا كان يحلم بأن يكون مثل مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل كصحفيين مشهورين؛ ولذلك كان يتعين على من يحلم بذلك لكي يتمكن من تحقيق هذا الحلم أن يدرس في كلية الإعلام ولابد أن يثقف نفسه عن طريق الإلمام بالثقافة العامة من قراءة كتب في شتى مجالات الثقافة ثم يخطط لنفسه بعد تخرجه في الجامعة بالانتماء إلى صحيفة معينة لكي يتدرب تحت إشراف أسطوات في العمل الصحفي وبالتالي يجد أن حلم اليقظة تحول من كونه مجرد خيال إلى طموح جعل من صاحبه إنسانا ناجحاً ونافعاً لنفسه ولمجتمعه لأنه حول حياته الطليق من خلال أحلام اليقظة إلى خطط يفكر فيها ويحاول تحقيقها. الهروب من الواقع يقول الدكتور أحمد شوقي العقباوي: بعض الكبار يلجأون إلى أحلام اليقظة كنوع من التعويض العقلي عن إخفاقاتهم في الحياة فيغلب عليهم حالة من السرحان وتجد مثلاً أن أحدهم كان يحلم بأن يصبح مديراً عاماً، ولكنه لم يحصل على هذه الدرجة الوظيفية؛ لأنه فاشل وخايب أو أنه كان يحلم أن يكون أحسن جراح في العالم، لكنه فشل في أن يحصل على درجة الماجستير والدكتوراه...فهؤلاء يبدأون في أن يحلموا ويبنوا قصوراً في الرمال من الوهم. فهم يلجأون إلى أحلام اليقظة كحل مؤقت لإحباطاتهم وللتنفيس عما تعرضوا له من كبت وإحباط؛ ولذلك يجدون في أحلام اليقظة نوعا من الراحة للنفوس إلى حد ما عن الواقع المرير الذي يعيشونه... على عكس ما تلعبه أحلام اليقظة في فترة المراهقة من دور أساس في تنمية طموحات المراهقين وتحفيزهم على تحقيق المزيد من النجاح، وكلنا قد عشنا أحلام اليقظة في مرحلة المراهقة بلا استثناء. مخدرات اليقظة يضيف الدكتور العقباوي: إن من ليس لديه فاصل محدد ما بين حدود الخيال والواقع قد يلجأ إلى أحلام اليقظة ويأخذ”قلماً” في نفسه بأنه من الممكن أن يصبح وزيراً أو رئيساً للجمهورية وهو في الأساس ليس لديه أية إمكانيات وقدرات لكي يعتلي أي منصب من هذه المناصب أو أنه يحلم بأن يكون ممثلاً وهو لا يجيد التمثيل أو أن يكون مطرباً علماً بأن صوته أشبه بأنكر الأصوات فمن يعش في هذه الأوهام بشكل مستمر ويستغرق فيها فإنه يبتعد عن الواقع ويكون عرضة للإصابة بالمرض العقلي وأرى أن أحلام اليقظة تحاول تخفيف آلام الواقع إلى حدٍ ما، لكنها لاتحل مشكلاته فهي أشبه باللجوء إلى تعاطي المخدرات؛ لأن البعض يلجأ إليها لأن لديهم إحباطات فعندما يدخنون سجائر الحشيش فإنهم يعيشون في الوهم بأن مشكلاتهم قد انتهت وإنهم يعيشون في حالة نفسية جيدة جداً وهذا عكس الواقع. لذلك أرى أن هناك تشابهاً ما بين أحلام اليقظة والمخدرات التي تشعر من يتعاطاها بالإحساس بأنه قد تغلب على كل مشكلاته؛ لأنها تجعله يعيش في أحلام اليقظة طوال الوقت فتخدر أحاسيسه في الواقع بشكل مؤقت. الرغبات الشعورية يرى الدكتور عادل مدني أستاذ ورئيس قسم الطب النفسي بكلية الطب جامعة الأزهر أن أحلام اليقظة هي الأفكار التي تطرأ على فكر أي إنسان عن المستقبل وما يرغب أن يفعله وكيفية اختياره لأسلوب حياته ومعيشته..وماذا يرغب في شرائه! فالإنسان يحلم بأحلام اليقظة وهو في تمام يقظته وكمال وعيه وهو “صاح” ولذلك نسميها بأحلام اليقظة التي تختلف عن أحلام النوم حسب رأي “فرويد” حيث تعبر الأخيرة عن الرغبات اللاشعورية المختزنة في العقل الباطن في حين أن أحلام اليقظة تعبر عن الرغبات الشعورية الموجودة الواضحة على مستوى العقل الواعي. ^^.. هل أحلام اليقظة معبرة؟ يجيب الدكتور عادل مدني على هذا السؤال بقوله: إن أحلام اليقظة بصفة عامة ليست مضرة، ولكنها أحلام أو عبارة عن تولد فكرة أو هدف معين داخل عقل الإنسان فهناك من يرغب مثلاً في شراء طائرة وهناك آخر يحلم بامتلاك فيللا وقد تختلف طبيعة أحلام اليقظة من شخص لآخر فهناك مثلاً من يحلم بالعمل في مهنة معينة فنجد من يحلم بأن يعمل في المجال الفني أو نجد من يحلم بالزواج فأي حلم عبارة عن فكرة تتولد لدى أي شخص فهي كحلم ليس فيها أدنى مشكلة، ولكن المشكلة الحقيقية لأحلام اليقظة تكمن في وجود شيئين أحدهما الاستغراق لوقت طويل في هذه الأحلام فقد تجد أن هناك شخصاً يستغرق نهار يومه وليله في أحلام اليقظة حيث يظل يُمنّي نفسه بها فيجد نفسه في نهاية المطاف “محلك سر”. إنه لن يتحرك ولن يتقدم من مكانه.. !! فتعطله هذه الأحلام بهذا الشكل من الاستغراق عن تطوره فيجب عندما يحلم الإنسان مثلاً بشراء فيللا أن يسعى جاهداً للقيام بالمزيد من الأعمال؛ لكي يزيد من دخله حتى يتمكن من شراء مايتمناه. فأحلام اليقظة وظيفتها خلق الدافع والحافز لدى من يحلم بها للتقدم للأمام. الأحلام المستحيلة واستطرد الدكتور عادل يقول: أما المشكلة الأخرى لأحلام اليقظة التي يعاني منها البعض أن هناك من يحلم بأحلام أكبر من طاقاته وقدراته وإمكانياته فمثلاً قد تجد من يحلم بأن يكون وزيراً، ولكنه لايمتلك المؤهلات والقدرات الكافية الخاصة به، لكي تؤهله من أن يصبح وزيراً أو آخر يحلم بأن يكون صاحب شركة كبرى وليس لديه إمكانية لتحقيق هذا الحلم!! وقد يكون الحلم أو الهدف جيداً ونبيلاً، ولكن لايمكن تحقيقه فأحلام اليقظة أشبه أحياناً بالمعادلة الرياضية التي تشير إلى النوع الجيد والمقبول من أحلام اليقظة عندما تكون قدرات الفرد أكبر أو تساوي مع تحقيق حلمه وأحياناً تكون مستحيلة حينما تكون قدرات الفرد أقل من إمكانياته لتحقيق حلمه. الجنون فنون ينفي الدكتور عادل مدني أن أحلام اليقظة قد تصيب البعض بالجنون بصفة عامة أو جنون العظمة “البارانويا” بصفة خاصة، ولكنها قد تصيبه بالكسل وتجعله غير منتج داخل المجتمع؛ لأنه يفضل الحياة داخل صومعة أحلامه بعيداً عن قيامه بالعمل أو فعل أي شيء آخر غير كونه مستسلماً لأحلامه التي تتحول إلى مجرد أوهام، لكن بلا شك أن كل ما في حياتنا من اختراعات وأفكار بناءة كانت في بداية الأمر مجرد أحلام يقظة.