لعل من أصعب الأمور تدريب المستمع على أن يتناول العمل الموسيقي بطريقة ناقدة ذكية ومساعدته على استيعاب تفصيلاته ما لم تكن أجهزته السمعية مختلة في تركيبتها النفسجسمية.. ورغم الاستعداد الطبيعي للاستماع النغمي إلا أنه كبذور الزرع لابد له من شروط خاصة كي ينمو ويثمر ويزدهر، ولقد حسم علماء النفس الجمالي بالتجربة العملية تصنيف المستمعين للموسيقى لثلاثة نماذج تبعاً لمستويات إدراكهم: السامعين عرضاً وبالتعاطف والأذكياء. فالأول بينه وبين الموسيقى ود مفقود. والثاني يحب الموسيقى لكن قدرته في استيعاب ألوانها وتراكيبها وتحولاتها لحناً وإيقاعاً وهارمونياً محدودة فيتجاوب مع الموسيقى السهلة التي ترتبط بذكرياته الذاتية فيبتعد عن التذوق الموسيقي الحقيقي. أما الأذكياء فيترجح أنهم قد تعلموا قدراً كافياً من الموسيقى ومارسوا تدريباً منهجياً على الاستماع الواعي ومعرفة وإدراك واستقبال أشكال الموسيقى المختلفة ومحتوى سياقها وكل تفاصيلها النغمية والتعبيرية. ويمكننا أن نعرف التذوق عامة بأنه القدرة على إعطاء قيمة للشيء وتقديره، أما التذوق الموسيقي فإنه الحساسية والإدراك للقيمة الجمالية للموسيقى والاستمتاع بها، ويرتبط الاستمتاع عادة بالناحية الانفعالية للمستمع، أما الإدراك أو المعرفة فتتضمن عنصر الفهم للمكونات المتضمنة في العمل الموسيقي. ويعتمد التذوق الموسيقي على الاستماع إلى الأعمال الموسيقية المختلفة، وفي هذا الصدد يجب أن نوضح ما يعينه الاستماع؛ فهناك فرق جوهري بين كلمتي (استماع) و(سماع)؛ فالاستماع Listening من وظيفة العقل ويعني السماع مع توافر الهدف، وهذا يتضمن الاستماع إلى الموسيقى للتعرف على جوانبها المختلفة، ويعتبر الاستماع هدف التعليم الموسيقي المنظم. أما السماع Hearing فمن وظيفة الإذن، وهو عبارة عن تلقي المثيرات الصوتية أو الموسيقية دون تأثير فينا ودون اهتمام بها. وبدون الاستماع المركز والمكثف للموسيقى لن يحدث أي نمو موسيقي أو تمييز حقيقي أو تذوق من غناء منفرد وجماعي إلى معزوفات إيقاعية تركز الانتباه على متابعة النغمات وتفاعل الآلات المختلفة وارتباطها بعضها ببعض والحساسية لمختلف صورة الأزمنة والطابع والتلوين الموسيقي. ذاكرة موسيقية قوية يؤكد د.زكريا إبراهيم في مقدمة كتابه الفلسفي (مشكلة الفن): أنه ليس من الطبيعة التذوق الجمالي عامة أن يتولد إثر استماع سريع فلابد لطالب متعة الفن أن يعود كثيراً للعمل الفني يتوقف أمامه طويلاً بالتأمل والتفكير حتى يستشف جوانبه الغامضة. وبما أن فن الموسيقى (زماني) لا (مكاني) وأن الموسيقار يرسم أنغامه على مساحة من الزمن في رؤية هيجل فإن عمليات رصد السامع لمحتوى لحظات التنغيم التي قد تصغر إلى (لحيظات) في أثناء تحركها لحناً وإيقاعاً وهارمونياً سوف تعتمد على مدى توفر ذاكرة موسيقية متمرسة ويقظة في التقاط النغمات أو التفاصيل ومدى صبر السامع وانتباهه في جمعها وتخزينها، ومن هنا يصح الاستمساك بخبرات التذوق الموسيقي وتخصيص ثلاث لقاءات مع العمل الجديد لاستيعابه، وأن يزداد هذا المعدل كلما اتضحت صعوباته. اللقاء الأول: يكتفي بالاستماع العام لسياق كل المقطوعة بدون الاهتمام بالتفاصيل بهدف تلقي روح رسالة الموسيقار. اللقاء الثاني: يتم التركيز على رصد التفاصيل وملاحظة ما تترجمه في النفس من ردود أفعال عاطفية مثلاً وأساليب تعبير الموسيقار عنها وقالبها وآلاتها ونوعية أصوات وطبقات الحناجر. أما اللقاء الثالث: فينتقل فيه من رصد التفاصيل إلى المتابعة السمعية لتدفق مجمل السياق المنطقي للمقطوعة كاملة ليتمكن من استخلاص مدلولها العام، ومن خلال جمعه بين تدفق كل السياق وبين جزئيات مفرداته سيتجسم أمام مخيلته العمل الموسيقي بشكل متكامل. ويرى د.محمد فايد في مرجعه (محاضرات في التربية الموسيقية) أن استخدام جميع وسائل الاستماع الممكنة كالأداء الحي، الأفلام، التسجيلات، الإنترنت، الفضائيات، الإذاعة، تستثير وتكون الأذن الموسيقية كذلك تتم تنمية الدافع للاستماع عن طريق تحليل المحتوى، ودراسة تاريخ الموسيقار، والفترة الزمنية التي أبدع فيها عمله، ومقارنة أعمال موسيقية متشابهة العناصر وذلك من خلال القراءات المتعمقة وتعلم أداء النماذج الموسيقية المختلفة وتكوين قدرة على نقد العمل الموسيقي وفهم المصطلحات واستنتاج المعلومات والتفكير الموسيقي، فالمزيد من سماع وفهم النماذج الموسيقية سيساعد على تذوقه بشرط أن ترتبط بشخصية وأفكار المستمع وأن تكون ذات قيمة ومعنى يعبر عن عالمه، المهم أن تركز عين ذاكرته الموسيقية على الأساسيات التالية ليجعلها في بؤرة مرصوداته التدريبية: 1 طبيعة المقطوعة: غنائية أم موسيقى بحتة أم مختلطة، فإن كانت غنائية ننظر إذا كانت فولكلورية أم لمبدع معروف. أداؤها الصوتي منفرد أم جماعي. بمصاحبة آلات أم لا. مكتوبة لصوت السوبرانو أم الالطو أم التينور أم الباص. من إنتاج المسرح الغنائي كالأوبريت والإسكيتش، أما إذا كانت موسيقى فهل مكتوبة لآلة منفردة أم للأوركسترا. 2 أسلوب الصياغة: كلاسيكياً: سيمفونية، كونشيرتو، سوناتا، سماعي، بشرف، مقام وتشير المراجع إلى أن تذوق هذه القوالب هي المثلى والأرقى تذوقاً أم رومانتيكياً معبراً عن الطبيعة والإنسان وانفعالاته وقومياته أم من عصر الباروك (الإفراط في الزخرفة والحليات) وعصر الركوكو (العناية بالتفاصيل) وعلى كل السامعين الصبر للإحاطة الشاملة بالتركيبات البوليفونية خاصة. 3 فترة الإبداع: معرفة ذلك يدخل في حيثيات الحكم الجمالي للمتذوق في أنضج مستوياته إذا ما كلفت خبرات استماعاته أن يربط كل إنتاج بظروفه ويؤرخ له. 4 الألحان الأساسية: لا يستوعب المستمع مقطوعة ما إلا من تعرف ذاكرته على بنائها لحناً وإيقاعها وأفكار تيسر على الذاكرة مهمة التقاطها وتخزينها وبالتالي لا يتعسر إدراكها المستقبلي مهما تحورت أو تزخرفت أو تدثرت في ألوان أخرى. 5 قدرات المؤلف: حري بالمتذوق أن يراقب ويتصيد المواضع التي يبرع الفنان في استخدامها كأن يتصاعد اللحن أو يهرول أو يترتب فذلك يفتح الشهية للاستماع والاستمتاع. 6 القالب الإبداعي: رغم تنوع الصياغات إلا أن كلها ترجع إلى أصلين أساسيين: قالب الصياغة الثنائية Binary Form في شكل السؤال وقالب الصياغة الثلاثية Ternany from في شكل تجميع المتنوعات في وحدة Unit ويستوي في هذا كل موسيقى تسمع بدءاً من المواويل وانتهاء بالسيمفونيات وبالهندسة التي تتمكن الأذن من تكرار التدريب على معرفة حدود وتضاريس مداخلها ومخارجها. 7 أدوات التوصيل: لرسالة المؤلف النغمية سواء بالآلات أم بالحناجر والمطلوب هنا رصد وتذوق الطعم المعين للوسيط المعين لذا يلزمنا أن نتعرف مسبقاً على مختلف فصائل آلات الأوركسترا ومسمياتها من الوتريات والنحاسيات وكذلك مختلف تقسيمات الحناجر البشرية في الغناء من طبقات نسائية (السوبرانو، نصف السوبرانو، الألطو) ومن طبقات الرجال (التيوز، الباريتون، الباص) ليمكننا بعد ذلك إدراك خصائص الآلات والحناجر وألوانها التعبيرية المختلفة. 8 تقييم مستوى المؤلف: وهذا على أساس أن كل عمل فني يتنفس من شخصية مبدعه لنتمكن من التعرف على مستوى فنية المبدعين من معطياتهم المتميزة بشرط الموضوعية في الإحاطة بظروف وأسلوب الإنتاج واتخاذها أساساً للتعرف على مدى نجاحه أو سقوطه في صوغ وإبلاغ رسالته الإنسانية.