سنرحل هذه المرة في أعماق إحدى قصائد الدكتور شهاب غانم وهي بعنوان فجر النواصي يتحدث فيها عن الزمن وماذا يصنع بالإنسان وماهي المفارقات التي تحدث في الحياة وما أكثرها ونبدأ بإيراد المقطع الأول من القصيدة والذي يقول:- أقول لكم ما العمر غير سحابة تمرُّ وإلا في الرياح تذوبُ وإن أماني العيش زيفٌ وإنما يخادعنا برقٌ لهن خلوبُ فمن يجعل الدنيا قصارى مرامه فإن سهام المقصرين تخيبُ فإن كنت أبدو عن سنا الكون مُعرضاً يلبيه من يدعو ولست أجيبُ فإني وجدت الدهر ياقوم قلباً فكم شاه فتان وجفّ رطيبُ وإني رأيت الناس أدهى تقلباً فعند العوادي لا يلوح حبيبُ يريد الشاعر في المقطع السابق من قصيدته أن يثبّت في الأذهان حقيقة ربما يتغافلها بعض الناس وهي أن الزمن فسحة من الوقت تمر سريعاً... فعمر الإنسان يومض كلمح البصر... ومن السذاجة أن ندع سنوات أعمارنا تمر هكذا دون أن نحسن استغلالها فيما هو مجدٍ في الحياة بالعلم والعمل الدؤوب والسعي الحثيث في دروب الحياة وليس بالأماني والأحلام الواهية التي يظل بعض العاجزين يشيّدها ويُحسن بناءها لكنها سرعان ما ترتطم بصخرة الواقع وتتفتت وتذوب. ولذلك فإن شاعرنا هنا قد جعل نفسه – وهو محقٌ في ذلك – في صف آخر وفي جماعة أخرى من البشر.. جماعة البشر الأقوياء بعزائمهم.. العظماء بأفكارهم.. وليس الذين يستكينون إلى الواقع وينكفئون على أنفسهم متشبثين بالحياة المليئة بالأماني والزيف... أو الذين ينأون عن أصدقائهم في الملمات وعوادي الزمن في وقت كان الأجدر بهم الوقوف والمساندة وهذا ما يتطلّبه العُرف الإنساني . في مقطع آخر يقول: يُسائلني صحبي عن الشيب قد بدا على لمّتي كالفجر حين يؤوب وهل أنا إلا مشعلٌ فاض نوره كما فاض مسك بالعبير وطيبُ يبدو أن الشيب قد بدأ ينحت بياضه على لمتي رأس الشاعر مؤذناً بأفول عهد الشباب وبداية منعطف جديد في حياته... مسار آخر تذوب فيه القوة والعنفوان لكن الشاعر يتغزّل بهذا البياض الذي بدأ يجتاح مساحات من شعر رأسه ولا يراه عيباً أو نقيصة – كما قد يتخيل ذلك بعض ناقصي الوعي – بل هو مفخرة وزينة تتجلّى في ملمح آخر من ملامح الجمال والوقار كما يبدو ذلك في البيت التالي. ثم يمضي الشاعر قائلاً: وما الشيبُ إلا بعض ما يدفع الفتى ضريبة نفسٍ في النجوم تجوبُ تمرّست بالأحداث منذ حداثتي فعاث بفودي الهم والتجريبُ غزا الشيب رأسي والشباب مبكرٌ فكيف يكون الفود حين أشيبُ نفهم من المقطع السابق أن الشيب غزا الشاعر مبكراً وحلّ قبل أوانه على ما يبدو.. لكنه يوضح لنا أسباب هذا الهجوم المباغت للشيب.. إن ذلك جزء من ضريبة إجبارية يدفعها الإنسان في حياته إن كانت تتقاذفه الأعاصير وهو ما زال شاباً... جوالاً في دروب الحياة طالباً للعلم في أماكنه القصية والبعيدة لايكاد يحط رحاله في مكان إلا ويتهيأ لسفر جديد في مكان آخر... وكل هذا الترحال والتطواف والاغتراب هو سبب اشتعال الرأس شيباً.. ثم في آخر بيت من هذه القصيدة الرصينة محكمة المعنى والمبنى للدكتور القدير شهاب غانم نرى الشاعر لا يكابر ولا يتمرد على سنن الحياة وقوانينها بل يخلص إلى أن هذه الفترة من العمر ستمر على الجميع أو على أكثرهم لا محالة ولابد من التسليم بها: نُرحّبُ بالفجر الجديد إذا بدا وفجر النواصي للحياة غروبُ