تتميز مدينة صنعاء القديمة عن غيرها من المدن اليمنية بتعدد أسواقها والتي تصل الى أكثر من أربعين سوقاً وأكثر من ثلاثين سمسرة تمارس فيها مختلف الصناعات الحرفية التي أبدع فيها الإنسان اليمني من خلال ما تتوفر لديه من المواد الخام بحسب طبيعة المنطقة إضافة الى العوامل والمقومات المساعدة الأخرى, والمتمثلة في الموهبة والحس الفني الرفيع لدى الإنسان اليمني الذي أبدع كثيراً في فن الصناعات الحرفية والمشغولات اليدوية, والتي نتج عنها أعمالاً وتحفاً فنية تعتبر في غاية الجمال والإبداع. لذلك كثيراً ما نلاحظ أن هذه الحرف والمشغولات اليدوية تسحر عيون السياح الأجانب والعرب على حد سواء, وكل من زار اليمن, سواء كان بقصد السياحة أوغيرها، وذلك لدقة وجودة هذه المشغولات اليدوية الرائعة كالصناعات الفضية أو النحاسية أوغيرها. ولعل الكم الكبير والهائل من الحرف والمشغولات اليدوية التي رسمتها أنامل الإنسان اليمني الذي توارث حرفة الصناعات اليدوية منذ القدم جيلاً بعد جيل, جعلت منه العامل الأساسي في الحفاظ على هذه الثروة التاريخية والتراثية الشعبية العظيمة بصورتها الأصلية والمتلائمة مع متطلبات حياته، وحتى وقت قريب كما علمنا وشاهدنا كان استخدام هذه الصناعات الحرفية قاصراً على استخدامها كزينة, كتحف على اعتبار أنها جزء من تراثنا وتاريخنا العريق, بعد أن كانت هذه المشغولات والصناعات تعتبر من أهم المستلزمات الضرورية المرتبطة بالحياة اليومية للإنسان اليمني منذ استخدم الإنسان القديم الأحجار في صناعة الأواني الحجرية، وصناعة السلاح والسكاكين وكل ما يحتاج إليه في عصور ما قبل التاريخ. حيث كان لايخلو أي بيت من بيوت صنعاء القديمة من هذه التحف وخصوصاً التحف النحاسية كمرشات العطور والمزاهر النحاسية والكؤوس والقدور والصحون الكبيرة والتي تسمى في صنعاء ب(المعاشر) ودلال القهوة العربية والمكاحل والمباخر والمواقد والمدائع والمحابر وغيرها, وهي صناعات حرفية نحاسية أبدع الحرفي اليمني في صناعتها وزخرفتها بالآيات القرآنية والبيوت الشعرية, وزخرفتها كذلك بالزخارف الهندسية والأشكال النباتية والحيوانية. كما كان أبناء مدينة صنعاء يحرصون كثيراً على اقتناء الصناعات الفضية كالخواتم التي عليها أفصاص العقيق والياقوت وغيرها من الأحجار الكريمة، ويحرصون كذلك على اقتناء الأواني المعدنية من سوق المعدن وعلى شراء مختلف مستلزماتهم الحياتية اليومية من أسواق مدينة صنعاء القديمة المختلفة, وكلها كانت عبارة عن صناعات حرفية يمنية تصنع في تلك الأسواق. لمحة تاريخية تحدثنا كتب التاريخ وتؤكد لنا بأنه ليس هناك بلاد كبلاد اليمن تتوفر بها المواد الخام وخاصة معادن الذهب والفضة والرصاص, وتؤكد كتب التاريخ أيضاً بأنه إلى جانب الذهب والفضة كان اليمنيون يستخرجون معادن الحديد والنحاس والرصاص الأسود, حيث عرف الحديد والرصاص في بلاد نهم وعرف أيضاً في جبل نقم وكانت حمير تصنع من الحديد السيوف الحميرية وكذلك عرف الحديد في بلاد برط أما النحاس والفضة فقد عرف في ذمار والنحاس الأحمر في البيضاء، وكذلك وجدت العديد من المعادن في الكثير من المناطق اليمنية, مما يعني أن الإنسان اليمني قد عرف قديماً مختلف المعادن واستخدمها في الكثير من الصناعات الضرورية. كما أن كتب اليونان والرومان قد تحدثت عما يملكه السبئيون في بلاد اليمن من أثاث وحلي مصنوعة من الذهب والفضة يصعب وصفها, ولعل ما ذكره المؤرخ أبو الحسن الهمداني في كتابه الجوهرتين العتيقتين عن منجم «الرضراض» في منطقة نهم ونتائج الدراسة الأثرية على الكربون المشع والتي أكدت أن المنجم استخدم مابين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، الأمر الذي يؤكد بها لا يدع مجالاً للشك أن اليمنيين هم أول من استخرج الفضة, مما يعني أنهم أيضاً أول من استخدمها وطوعها لخدمة الإنسان. كما أن موقع اليمن الجغرافي المتميز والمطل على طريق التجارة جعل منها سوقاً رئيسياً لتصدير الفضة والأحجار الكريمة وغيرها من المشغولات اليدوية إلى أوروبا وغيرها من أصقاع العالم مما زاد من الإقبال على المصنوعات والمنتجات اليمنية الراقية, ولعل الكتابات الرومانية التي يرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر الميلادي وتتحدث عن مناجم الفضة في اليمن التي تغيب بها النصوص الآشورية واعتبرت الفضة مصدراً للقوة يمكن أن تحل العديد من المشاكل والأزمات الطارئة وخصوصاً عند النساء التي كن يكتنزن الذهب والفضة لارتدائها في المناسبات حتى أصبحت وسيلة هامة لاجتذاب اهتمام الرجال والتفاخر فيما بينهن. تشكو حالها للسياح ولعل من المؤسف أن يكون حال الحرف أو المشغولات اليدوية التقليدية كما هو اليوم حيث نلاحظ أن معظم إن لم نقل كل الصناعات الحرفية الموجودة في أسواق مدينة صنعاء القديمة هي عبارة عن صناعات مستوردة من دول متعددة كالصين وإيران والهند وباكستان وسوريا ومصر الشقيقتين, وما يزيد حسرة في النفس أن الصناعات الفضية والتي اشتهرت اليمن بصناعاتها وبصناعات وتشكيل الأحجار الكريمة كالعقيق اليماني أصبحت اليوم تستورد من الخارج وأصبحت السماسر التي كان يتدرب فيها الحرفيون بالأمس تبيع اليوم مثل هذه المنتجات المستوردة بدلاً من عملها الأساسي المتمثل في التدريب والتأهيل, لأن أرباحها أكبر رغم أنها أقل جودة من الصناعات الحرفية اليمنية. حتى سوق الجنابي أصبح هو الآخر يعج بالأحزمة والعسوب المستوردة, مع أن العسيب والجنبية هو لباس يمني منذ فجر التاريخ, أيضاً حياكة وتطريز الملابس والأزياء الشعبية اليمنية وكذلك صناعة المجسمات الجصية للمنازل الصنعانية أصبحت مستوردة من دول عدة أهمها جمهورية الصين الشعبية, لذلك غابت اللمسة الجمالية اليمنية والتي تدل على تاريخنا وحضارتنا العريقة.. والزائرلأسواق مدينة صنعاء القديمة مثل كبار ضيوف اليمن والسياح وغيرهم للأسف يلاحظون كل ذلك ويلاحظون كذلك مدى إهمالنا لتاريخنا وتراثنا العريق.. يا ترى ماذا يقولون عنا في أنفسهم شعب لا يستحق هذه العراقة وهذا التراث..؟! وكان لاهتمام الإنسان اليمني بالجانب الجمالي وعنايته الفائقة بمظهره وبما يرتديه من أزياء وما تطرز به من نقشات وزخارف جعلت من تلك الأزياء الشعبية مجالاً مفتوحاً وواسعاً للإبداع الفني، فاختلفت أزياء الساحل عن أزياء الجبل والسهل عن الوادي, فظهرت أشكال عديدة وأنواع مختلفة في أشكالها وأنواعها من منطقة إلى أخرى, لكنها في مجملها تتفق طابعها الجمالي اليمني المميز, والتي طرزتها أنامل يمانية لتظهر في أروع لوحة فنية جمعت فيها أجمل وأزهى الألوان الإبداعية, رسم زخارفها وحك نقوشها أنامل الحرفي اليمني في إحدى سماسر أسواق صنعاء القديمة, وجعلت من يحملها على صدره أو يغطي بها جسمه يتأمل حكاية هذه اللوحة مع هذا الصانع, وحكاية الإبداع الفني الذي يرافقه دوماً ولعل ما زاد من روعة وجمال هذه الأزياء الشعبية وخصوصاً أزياء الرجال ذلك العسيب المطرز بالخيوط الذهبية والمنسوجة بطريقة إبداعية وفنية ساحرة والجنبية ذات النصل اليماني الشهير والموسمة بأقراص الذهب أو الفضة والتي أصبحت إحدى العلامات البارزة والمميزة في المجتمع اليمني والتي تلبس بشكل كبير في المناسبات والأعياد الخاصة وتختلف جودة الجنابي من نوع إلى آخر طبقاً لنوع النصل والقرون المستخدمة في صناعة المقبض.. لذلك دائماً ما نشاهد السائح يتباهى بنفسه وكأنه الطاووس عند ارتدائه للعسيب والجنبية. تنوع الصناعات اليدوية الأعمال اليدوية كثيرة ومتنوعة تنوع جبال وسهول اليمن, والحرفيون اليمنيون كثيرون وفي مختلف المناطق اليمنية, ولعل ما يدعو إلى التأمل أن كل نوع من هذه الحرف والصناعات اليدوية والتي تمارس في مختلف المحافظات موجودة في سوق الملح أشهر أسواق صنعاء القديمة.. وهذه الحرف اليدوية تمارسها أسر معينة وبمعنى كل أسرة لها حرفة معينة تشتهر هي بها دون غيرها وتظل تتوارثها جيلاً بعد جيل. كما تشتهر صنعاء وخاصة الروضة شمال صنعاء القديمة بصناعة الفخار والذي مازال يستخدم حتى اليوم, وهناك صناعة المكاييل الخاصة بوزن الحبوب بأقسامها المتعددة, وقد عملت في هذه الحرفة أسرة الوصابي والتي مازالت تعمل حتى يومنا في صناعة المكاييل. ولابد لزائر أسواق المدينة أن ينبهر من العمل الرائع والجميل للحرفيين أثناء عملهم في الصناعات الفضية والتي تشتهر بها صنعاء القديمة وتلقى رواجاً واسعاً في اليمن وخارجها والسبب في ذلك هو العقيق اليماني وقدرة الحرفي على نحته وتشذيبه وتحويله إلى قطع صغيرة ذات أشكال وألوان متعددة تطعم بها الخواتم والأحزمة وغيرها وهناك العديد من الأسواق لهذه الحرف التي تميز بصناعتها الحرفي اليمني كسوق الحدادة وكذلك سوق الجلد, وغيره من الأسواق. ومن سوق إلى آخر تشاهد الكثير مما لا يخطر على البال، كما أن ما يدعو إلى التعجب والاندهاش هي جمال وروعة تلك العقود النصف دائرية والتي تزين بها مباني مدينة صنعاء القديمة، وبالتأكيد لها سوق خاصة بها، وهذه القمرية تصنع من الجص الأبيض بسمك «5» سم تقريباً والتي يحفر بعد أن يجف بأداة حادة حتى تخترق الجهة الخلفية للعقد مرة أخرى وتركه حتى يجف ثم تحفر فتحات موازية للفتحات الأولى وتترك حتى يجف وما تزين بها المنازل من الداخل من رسم بهذه المادة وبتشكيلات فاقت مراحل الإبداع الفني, لتصل إلى مراحل السحر والخيال.