إن لمعركة حصار صنعاء أهمية استراتيجية غير عادية تتعدى دون شك الساحة المحلية التي احتدم الصراع على أديمها، لما لها من مدلولات لا تخفى على خبير بشؤون علم التاريخ العسكري وعلى الأخص ما يتعلق بتكتيكات الدفاع المسلح عن مدينة محاصرة. وهي مسألة استحوذت على اهتمامات الكتاب للتاريخ عبر العصور, سيما إذا كان للمدينة المحاصرة ذلك القدر من الأهمية كمدينة صنعاء التي لابد وأن تترتب على الانتصار أو الانكسار في ساحتها نتائج سياسية بالغة الخطورة إلى الحد الذي تكون حاسمة على طبيعة ومصير أي صراع على السلطة باعتبارها قبل كل شيء عاصمة للدولة, وهي بهذا المعنى رمز لشرعية الاعتراف من قبل المجتمع الدولي الذي تعارف بصورة عامة على منح الاعتراف للطرف السياسي الذي يسيطر على عاصمة الدولة المعنية حتى وإن افتقر إلى الحد الأدنى من النفوذ على بقية مناطق البلاد، ولقد ظلت هذه القاعدة أساساً لتعامل(الأممالمتحدة) مع المتغيرات السياسية في العالم عدا حالات قليلة. وتبرهن وقائع التاريخ السياسي لليمن أن السيطرة على صنعاء كانت تمثل على الدوام ثقلاً معنوياً هاماً على صعيد الولاء السياسي للمواطنين في حالة تنازع الشرعية لا بسبب قيمتها التاريخية فحسب, بل ولكونها مركز البلاد الرئيس سياسياً واقتصادياً وعلى صعيد التوجيه الإداري أيضاً. ولا ريب بأن هذه الأبعاد جمعاء كانت مستوعبة بالكامل لدى طرفي الصراع من أجل صنعاء في حرب السبعين يوماً, فكانت معركتها لذلك بالغة العنف والسرعة, وكان للزمن قيمة كبيرة حيث لم يدخر أي جانب وسيلة لحشد واستخدام كامل قواه في لحظة كان الجميع يدرك أنها لن تتكرر ثانية. وتقدم معركة حصار صنعاء مثالاً نادراً يتكرر منذ الحرب العالمية الثانية لمعركة قصيرة استطاعت بكثافتها أن تحسم نهائياً حرباً ظلت مستعرة على مدى سنوات خمس, كما قدمت نموذجاً لإمكانية نجاح عدد محدود من المقاتلين في تغيير مجرى الأحداث والتغلب على عدو متفوق عدداً وعدة, ويحظى بميزات استراتيجية يفتقر إليها خصمه, وعلى نحو مغاير تماماً لكل التوقعات التي بنيت على استقراء مجرد للعناصر المادية وحدها دون إدراك بأن هذه العناصر وإن كانت ضرورية في أي حرب فليست حاسمة بصورة إطلاقية. ومن ناحية أخرى فإن بعضاً من وقائع التاريخ المعاصرة تقدم تفسيراً للأسباب التي جعلت الملكيين يخسرون الحرب تماماً بمجرد فشلهم مرة واحدة فقط في كسب معركة العاصمة برغم أنهم لبثوا خارجها يخوضون الحرب نحو أكثر من خمس سنوات قبل الحصار دون أن يعتبروا مهزومين, وتقدم بهذا الصدد وقائع الحرب العالمية الثانية مثالين متناقضين ولكنهما يصبان في نفس المجرى من حيث الدلالة. ففي إحدى الحالات اعتبرت فرنسا مهزومة بمجرد دخول جيش ألمانيا النازية إلى العاصمة باريس واحتلالها برغم أن مساحات واسعة من الأراضي الفرنسية وفيها مدن كبيرة كانت ماتزال خارج سيطرة الجيش الألماني، ولكن معنوية القيادات الفرنسية بعد سقوط العاصمة لم تعد كافية لرفض الاستسلام وإعلان المقاومة بصرف النظر عن الموقف الوطني الذي اتخذه (ديجول) وسائر أنصار المقاومة, بعد ذلك وما حدث في فرنسا حدث في بلدان أوروبية أخرى. وفي الحالة الثانية حدث تطور آخر مناقض، وذلك على مسرح الحرب التي شنها هتلر ضد الاتحاد السوفييتي، والتي كانت تشكل الجبهة الرئيسة في معارك الحرب العالمية الثانية ومحور الجهد الحربي الرئيس للعسكرية الألمانية. حيث كان من أولى مهام خطة الهجوم الألماني الصاعق على روسيا, الوصول إلى العاصمة السوفيتية “موسكو” واحتلالها بعد تدمير الجيش الأحمر، ولكن ذلك الهدف لم يتحقق كما هو معروف, مثلما أخفق الألمان كذلك في إرغام مدينة “لينينغراد” على الاستسلام برغم طول مدة الحصار والدمار الشامل الذي ألحق بالمدن السوفيتية وما بذله القادة الألمان من جهد مضنٍ وما حشدوا من قوة متفوقة. وهكذا فإن فشل النازيين في السيطرة على العاصمة السوفيتية كان إيذاناً بحدوث تحول نوعي في مجرى الحرب العالمية الثانية بأسرها برغم احتفاظ الألمان وسيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي السوفيتية بل وجمهوريات بكاملها وتمتعهم بإمكانات عسكرية واقتصادية هائلة, جراء سيطرتهم على معظم القارة الأوروبية، بيد أن التأثير المعنوي لصمود المدافعين كان حاسماً في تغيير مجرى الحرب وانتقالها إلى منعطف آخر مثل بداية التراجع الألماني حتى توقيع وثيقة الاستسلام غير المشروط. وهكذا نرى فإن المثالين السابقين على اختلافهما كوقائع, يبينان مدى الأهمية التي ترتديها أي عاصمة سياسية محاصرة, وما يترتب على ذلك الصراع من نتائج في حالتي نجاح المقاومة أو فشلها، وفي هذه الزاوية فلقد كان أمراً طبيعياً ومفهوماً أن يتقهقر المهاجمون على صنعاء إلى الخلف وبدون قتال أحياناً بعد أن فشلوا في اقتحامها. ومع أنه ليس هناك تماثل بين طبيعة حرب حصار صنعاء وحروب هتلر ضد شعوب أوروبا, كما وأن التاريخ لا يكرر نفسه بالضبط, فإن وقائعه يعاد تمثيلها على مسرح الحياة وتكون متشابهة في بعض الأسباب والنتائج، ولعل من أهمها أن الذي يهاجم في حرب غير عادلة يصاب بحالة من التداعي السيكولوجي تفقده زمام السيطرة الذاتية لدى تعرضه لأول نكسة جدية كأن يفشل ولو مرة واحدة في الظفر بتحقيق هدف رئيس كاحتلال العاصمة مثلاً. لذلك فليس من الغرابة بمكان أن يكون مصير خطة “الجنادل” مماثلاً (لخطة بارباروسا) برغم اختلاف الظروف والأحوال. ومن المؤكد أن لو أتيح لمجموعة من كتاب التاريخ العسكري المتخصصين والمحللين الاستراتيجيين فرصة لاستقراء وقائع حرب السبعين يوماً واستخلاص دروسها لأمكن التوصل إلى معطيات عسكرية وفنية جديدة يصعب على غير المختصين تبينها, ولكان من شأن ذلك رفد علم الاستراتيجية بطائفة لا محدودة من الخبرات الميدانية التي تمخضت عن تجربة متميزة صنعت في واقع متميز. ومع التقدير لكل ما كتب حتى الآن عن الحصار فإنه غير كاف بالمرة وليس بمستوى ضخامة الحدث، ناهيك عن كونه اقتصر على مجرد السرد المكرر لعدد من الوقائع المعروفة والنأي عن بذل أي جهد تحليلي متعمق لاستغوار الحدث بصورة شاملة على الصعيدين السياسي والعسكري, وربما تكمن الأسباب في ضآلة المعلومات المنشورة, وصعوبة الحصول عليها وعجزنا عن تعريف العالم بما كان يجري لتخلف وسائل الإعلام والنشر في بلادنا. ومهما كانت مبررات الآخرين فإن مسؤولية الاضطلاع بأعباء هذه المهمة- مهمة درس وتحليل معركة السبعين يوماً والتعريف بأبطالها- تقع أولاً وأخيراً على كاهل الأدباء والكتاب اليمنيين في شطري البلاد مثلما كانت الحرب فعلاً مسؤولية يمنية محضة. ولعل ما بدأ به مركز البحوث في صنعاء من نشاط وما تقوم به مجلة (الحكمة) عن طريق تكريس أعداد خاصة بالمناسبات تعتبر خطوات في الاتجاه الصحيح. وغنيٌّ عن القول: إن من أهم الشروط التي ستوفر فرص النجاح في استكمال هذا المشروع غير العادي الذي يؤرخ لأحداث غير عادية, أن تتاح الفرصة أمام كل الذين شهدوا المعركة للإدلاء بشهاداتهم عن الحرب أياً كانت مواقعهم ومكان إقامتهم وبعيداً عن أي اعتبارات سياسية قد تحول دون اكتشاف كامل الحقائق التي لم تعلم بعد. ولاشك بأن المثقف اليمني الذي لعب دوراً قيادياً في اجتراح معجزة الانتصار على أبواب صنعاء يدرك تماماً مدى مسؤوليته في هذا الشأن من حيث أنه يعرف أكثر من غيره ما تنطوي عليه نتائج حرب السبعين من أهمية تاريخية ومستقبلية فائقة الأهمية بالنسبة لكفاح الشعب اليمني المتواصل من أجل صنع اليمن الموحد والمتحرر. فنحن ندرك أنها كانت بالإضافة إلى حفاظها على النظام الجمهوري, التي هانت في سبيل بقائه كل التضحيات قد أعادت الاعتبار إلى عاصمة بلادنا بعدما حل بها من هزيمة مستبيحة إثر فشل انتفاضة الدستور عام 48م. والأهم من ذلك أن اليمنيين قدموا بواسطتها برهاناً ملموساً على أنهم شعب يعشق الحياة وغير قابل للإذلال. وهي بعد ذلك كله دحض عملي على أرض الواقع لما اصطلح على تسميته ب(العقدة اليزنية) التي تقدم كحجة يستدل بها على كون الشعب اليمني جُبل تاريخياً على الاستعانة بالعون الأجنبي كيما يتحرر من غزو أو نفوذ محتل آخر. وطبعاً فإن انتصار عام 67- 68م على حرب التدخل الرجعية الامبريالية التي أعلنت على الثورة منذ أول لحظة قيامها ليس البرهان الأول والوحيد على بطلان مقولة (العقدة اليزنية) وصفحات التاريخ مليئة بالعديد من الوقائع التي تحمل نفس الدلالة. وأعتقد أن الوقت قد حان إن لم يكن قد تأخر بعض الشيء لكي يتوجه الباحثون اليمنيون بتركيز أكثر من ذي قبل نحو تسجيل وقائع تلك الأحداث بدقائقها لا من أجل راحة ضمائر صناع مجد السبعين الذين قضوا في سبيلها، إنما لتقول لأجيال ما بعد سبتمبر بكل موضوعية وأمانة علمية، ما الذي حدث بالضبط ؟ وأي ثمن استخلصت تلك الثورة ؟ وما الذي يتعين عليهم أن يفعلوا لا لمجر الاحتفال عند حلول ذكراها وإنما من أجل إعادة الروح الثورية إلى مبادئها الستة كي تنبض بالحياة من جديد مثلما كانت عند الميلاد الأول؟. وبرغم أن عشرات الآلاف من شبيبة اليمن قد تخطوا عتبة الحياة ونضجوا في سنوات ما بعد ثورة سبتمبر دون أن يشاهدوا عن كثب ملحمة الدفاع عنها، فإن من الحقائق التي لا تخطئها عين أنهم يتفاعلون بشكل خاص ومتميز مع كل موضوع يكتب عنها كما يتغنون بشغف بكل أنشودة وكل كلمة نسجت حروفها وسط لهيب المعركة التي استعرت على مدى سنوات سبع. وسيكون هذا شأن كل الأجيال المتعاقبة على اعتبار أن دلالات بطولات السبعين تتعدى مجرد الإشباع العاطفي لتتجسد فيها ذاتية الشعب اليمني الحقيقية التي تصبو دائماً نحو الاستقلال والحرية ومناهضة كل طغيان خارجي كان أو داخلي منذ أن استوى على هذه الأرض عبر آلاف السنين. ولا جرم بأنه كلما انصرمت السنون وألفينا أنفسنا بعيداً عن تلك الأحداث الكبرى كلما تعاظم إحساس جماهير شعبنا بضرورة أن يقول ويبدع المبدعون ما كان ينبغي وقبل أن يفوت الأوان. وما كان لمعارك الشعوب الكبرى أن تظل حية في أفئدة ومشاعر الأجيال التالية لو لم يوظف مفكروها طاقاتهم الإبداعية الخلاقة من أجل نقل وقائعها حية إلى الأجيال التالية مثلما كانت على أرض الواقع. فلولا إلياذة (هوميروس) لما كان لمعركة (طروادة) ذلك الشأن العظيم الذي ملأ أسماع الدنيا وشغل مجلدات بأكملها ليغدو فيما بعد حصة مدرسية إجبارية في جامعات ومدارس الشرق والغرب على السواء، بل لولا ذلك لما عرف الناس شيئاً عن أمجاد الإغريق الأُوَل في المجالات العلمية والسياسية ولظلت (طروادة) مجرد رقعة صغيرة من الأرض على شاطئ بحر (إيجة) لا يعلم أحد من أمرها شيئاً، فهل يستكثر على صنعاء التي أصليت بنيران أحداث أسلحة القرن العشرين ثم صمدت وانتصرت عليهم (إلياذة) أو (أوديسة)؟ والسؤال موجه إلى أرباب القلم..