دخل سلمان الفارسي رضي الله عنه مرة على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عبدالله بن الزبير قائم في الدهليز ومعه طست يشرب منه , فدخل سلمان ودخل عبدالله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (فرغت)؟ قال: نعم قال سلمان وما ذاك يارسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطيته غسالة محاجمي يهريق ما فيها). قال سلمان: شربها والذي بعئك بالحق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (شربته)؟ قال: نعم قال رسول الله: (لم) قال: أحببت أن يكون دم رسول الله في جوفي فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأس أبن الزبير وقال :(ويل لك من الناس لاتمسك النار إلا تحلة القسم) (1) عبدالله بن الزبير بن العوام أول مولود للمسلمين المهاجرين من مكة إلى المدينة أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما (ذات النطاقين) هاجرت مع قومها وهي حاملة به فولدته بقباء (2) أول مقدمهم المدينة في السنة الأولى للهجرة ,وقد روى كثيراً من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عن أبيه وعمر وعثمان رضي الله عنهم ,وروى عنه كذلك جماعة من التابعين وشهد الجمل مع أبيه وهو صغير وحضر خطبة عمر بالجابية ورواها عنه بطولها , وقدم دمشق لغزو القسطنطية ,ثم قدمها مرة أخرى وبويع بالخلافة أيام معاوية فكان على الحجاز واليمن والعراقين ومصر وخراسان , وسائر البلاد إلا دمشق وتمت له البيعة سنة 64ه . قال أبن عباس رضي الله عنهما في وصف عبدالله بن الزبير:( كان قارئاً لكتاب الله ,متبعاً لسنة رسول الله قانتاً لله ,صالحاً في الهواجر من مخافة الله, ابن حواري رسول الله,وأمه بنت الصديق , وخالته عائشة حبيبة حبيب الله ,زوجة رسول الله , فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله). كان أبن الزبير لاينازع في ثلاث: في العبادة والشجاعة والفصاحة , قال عبدالواحد بن أعين: رأيت على ابن الزبير رداءً يمانياً عدنياً يصلي فيه وكان صيتاً إذا خطب تجاوبه الجبلان أبو قبيس وزروراً. شهد عبدالله بن الزبير مع ابن ابي سرح قتال البربر وكانوا في عشرين ومائة ألف والمسلمون عشرون ألفاً فأحاطوا بهم من كل جانب فما زال عبدالله بن الزبير يحتال حتى ركب في ثلاثين فارساً ,وسار نحو ملك البربر وهو منفرد وراء الجيش وجواريه يظللنه بريش النعام , فساق حتى أنتهى إليه , والناس يظنون أنه ذاهب برسالة إلى الملك ,فلما فهمه الملك ولى مدبراً فلحقه عبدالله فقتله وأحتز رأسه وجعله في رأس رمح وكبر وكبر المسلمون وحملوا على البربر فهزموهم بين أيديهم فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا أموالاً وغنائم كثيرة جداً وبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير فقص على عثمان الخبر وكيف جرى فقال عثمان: إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر قال : نعم فوضعوا ابن الزبير فوق المنبر فخطب الناس وذكرهم كيفية ماجرى قال عبدالله: فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر فلما تبينت وجهه كاد أن يرتج عليٍ في الكلام من هيبته في قلبي فغمزني بعينه وأشار إلي ليخصني فمضيت في الخطبة كما كنت فلما نزلت قال والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يابني. ودخل ابن الزبير على معاوية بن أبي سفيان فأمر ابناً له صغيراً فلطمه لطمة دوخ منها رأسه فلما أفاق بن الزبير قال للصبي: أدن فدنا منه فقال له: الطم معاوية قال الولد: لا أفعل قال: ولم؟ قال: لأنه أبي فرفع ابن الزبير يده فلطم الصبي لطمة جعل يدور منها كم تدور الدوامة , فقال معاوية: تفعل هذا بغلام لم تجر عليه الأحكام ؟ قال عبدالله بن الزبير: إنه والله قد عرف مايضره مما ينفعه فأحببت أن أحسن أدبه). (3) وقيل إن يزيد بن معاوية كتب إلى ابن الزبير يقول: إني قد بعثت إليك بسلسلة من فضة وقيد من ذهب وجامعة من فضة وحلفت لتأتيني في ذلك فأبر بقسمي ولاتشق العصا فلا قرأ كتابه ألقاه من يده وقال: ولا ألين لغير الحق أسأله حتى تلين لضرس الماضغ الحجر فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد من بعده استفحل أمر عبدالله بن الزبير وبويع له بالخلافة في جميع البلاد الإسلامية , وبايع له الضحاك بن قيس بدمشق وأعمالها ولكن عارضة مروان بن الحكم في ذلك وأخذ الشام ومصر من نواب ابن الزبير ثم جهز السرايا إلى العراق ومات , وتولى بعده ابنه عبدالملك بن مروان فقتل مصعب بن الزبير , بالعراق وأخذها ثم بعث إلى الحجاج بن يوسف فحاصر ابن الزبير بمكة قريباً من سبعة أشهر حتى ظفر به في يوم الثلاثاء في 17 جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين. وكان الحجاج قد قدم من الشام في ألفي فارس وانضاف إليه طارق بن عمرو في خمسة آلاف ,وأنه نصب المنجنيق على (أبي قبيس) ليرمي به المسجد الحرام وأنه أمن من خرج إليه من أهل مكة ونادى فيهم بذلك وقال: إنا لم نأت لقتل أحد سوى ابن الزبير وخير ابن الزبير ثلاثاً إما ان يذهب في الأرض حيث يشاء أو يبعثه إلى الشام مقيداً بالحديد أو يقاتل حتى يقتل. فشاور ابن الزبير أمه اسماء بنت أبي بكر فأشارت عليه بالثالث فقط ,فقاتل حتى جاءته آجره من منجنيق الحجاج ففلقت رأسه , فسقط على وجهه إلى الأرض ثم أراد أن ينهض فلم يقدر ,فاتكأ على مرفقه الأيسر وجعل يدافع بالسيف من جاءه ,فأقبل إليه رجل من أهل الشام فضربه فقطع رجله , ثم ثاروا عليه حتى قتلوه واحتزوا رأسه , ثم صلبه الحجاج منكساً عند باب الحجون.(4) أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عقبة بن مكرم عن يعقوب بن اسحاق الحضرمي عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل قال: رأيت عبدالله بن الزبير على ثنية الحجون مصلوباً فجعلت قريش تمر عليه والناس حتى مر عليه عبدالله بن عمر فوقف عليه وقال: السلام عليك أبا خبيب, السلام عليك أبا خبيب , أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا , أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا , أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا , أما والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولاً للرحم , أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير , ثم بعد عبدالله بن عمر فبلغ الحجاج وقوف ابن عمر عليه وقوله ماقال فأرسل إليه فأنزله عن جذعه وألقي في قبور اليهود. ولما قتل عبدالله بن الزبير خرجت إليه أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق حتى وقفت عليه وهي على دابة , فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها , فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رايت نصر الله الحق وأظهره؟ فقالت ربما أديل الباطل على الحق وأهله وإنك بين فرثها والجنة فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت وقد قال الله تعالى (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25. وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم ,فقالت كذبت كان أول مولود في الإسلام بالمدينة وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنكه بيده ,وكبر المسلمون يومئذ حتى أرتجت المدينة فرحاً به ,وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله ,فمن كان فرح يؤمئذ بمولده خير منك ومن أصحابك ,وكان مع ذلك براً بالوالدين , صواماً قواماً بكتاب الله معظماً لحرم الله يبغض من يعصي الله عز وجل أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعته يقول: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير) فانكسر الحجاج وانصرف فبلغ ذلك عبدالملك بن مروان فكتب إليه في مخاطبة أسماء وقال: مالك ولا بنة الرجل الصالح. وقد روي أن أمه قالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ وهي تشير إلى جسد أبنها المصلوب فقال الحجاج: ابنك المنافق فقالت: والله ما كان منافقاً أن كان لصواماً قواماً وصولاً للرحم فقال: انصرفي يا عجوز فإنك قد خرفت , فقالت: والله ماخرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول« يخرج من ثقيف كذاب ومبير فأما الكذاب فقد رأيناه ,وأما المبير فأنت». وقد قال عبدالله بن العباس عن عبدالله بن الزبير كان عفيفاً في الإسلام قارئاً للقرآن صواماً قواماً وأبوه الزبير , وامه اسماء , وجده أبوبكر وعمته خديجة وخالته عائشة ,والله لاحاسبنله بنفسي محاسبة لم أحاسبها لأبي بكر ولا لعمر).* الهوامش: 1 - البداية والنهاية 344/8 2 - قبا: قرية قرب المدينة واسم بئر بها وفيها مسجد التقوى. 3 - البداية والنهاية لابن كثير 4 - الحجون: الجبل المشرف الذي بحذاء مسجد البيعة وفي المسجد الحرام حالياً باب يقال له باب الحجون. * بتصرف عن (المصلوبون في التاريخ) محمد عبدالرحيم63.