في مسرح متواضع في شارع (لاله زار) الطهراني كان الناس يتدافعون للاستمتاع ببرامجه الترفيهية وفقراته المرحة، وخاصة فقرة الفنان والبلياتشو صابر آتشين وابنته الصغيرة الموهوبة فائقة، التي جمعت بين الجمال والقرب من القلب وعذوبة الصوت، وفي كل ليلة كان عدد الجمهور يتزايد وهم يتهامسون عن مواهب الفنانة الصغيرة، ولكن لا أحد كان يتوقع بأن هذه الطفلة ستصبح أشهر مطربة إيرانية على الإطلاق، وستغير اسمها من فائقة إلى كوكوش وهو الاسم الذي أطلقته عليها مربية أرمينية تولت تربيتها عقب رحيل والدتها عن المنزل، ولدت فائقة صابر آتشين في 5 مايو 1950، وفي عمر السنتين انفصل صابر عن زوجته نسرين وحصل على حق الحضانة، فكان يأخذ طفلته إلى المسارح والملاهي منذ أن كانت في الخامسة من عمرها، وفي سن المراهقة كانت قد أصبحت اسما معروفا إلى حد ما تغني في الحفلات العامة، أما شهرتها الصاروخية فقد كانت في 1966 حينما غنت للملحن (براويز مقصدي) والشاعر الغنائي (إيراج جاناتي عطاي). تجاوزت شهرة كوكوش حدود إيران لتدخل (ديو) مع كبار نجوم تلك الفترة أمثال: راي تشارلز وتينا تيرنر ورومينا باور وآجدة بيكان، كما قدمت أغانيها على أشهر مسارح العالم في فرنساوإيطاليا وغيرها، وكانت أول مطربة إيرانية تتعاقد مع شركات موسيقية أوروبية، كما غنت بالانجليزية والإيطالية والفرنسية والأسبانية، فحينما شاركت كوكوش في مهرجان سان ريمو في إيطاليا تم إصدار شريط يحتوي على أنجح الأغاني في المهرجان في الختام وقد تم اختيار 6 أغاني لكوكوش ليتضمنها الشريط الذي يحتوي على 14 أغنية وهو ما لم تسبقها أي مطربة أو مطرب، مثلت كوكوش أيضا في 25 فيلماً ومنها (دار امتداد شاب) أحد أنجح الأفلام الإيرانية على الإطلاق، كما نالت عن دورها في فيلم (بيتا) جائزة (سيباس) أعرق الجوائز السينمائية في إيران بجانب جوائز عالمية أخرى، تجيد كوكوش أشكالاً موسيقية متعددة مثل: الروك والغناء الشعبي والقصيدة الكلاسيكية المغناة. أما أشهر أغانيها التي لاقت نجاحاً كبيراً في العالم العربي ومازالت مطلوبة حتى الآن هي أغنية (من آمده آم) والتي تقول فيها (أنا مقبلة – ويحي- على انتفاضة الحب) وقد صورتها وهي متربعة على الأرض بفستان أبيض وشعرها (الكاريه) مصفف بعناية في تسريحة شبيهة بتلك الخاصة بالمغنية الفرنسية (ميراي ماتيو)، وكانت كوكوش تنتقل من نجاح إلى آخر دون توقف وهي ترسم معايير جديدة للنجومية والنجاح، ولكن 1979 كان يحمل مفاجأة غير سارة للفن الإيراني، فبعد قيام الثورة وانتقال إيران من تحت حكم الشاه الديكتاتوري إلى حكم ملالي قمعي، وما لحق ذلك من إغلاق المسارح ودور السينما و المتاحف وإحراق أغلب أرشيف التلفزيون الإيراني، بالإضافة إلى إجبار الفنانات على ارتداء الحجاب و الاعتزال، وأول قرار تلقته كوكوش من السلطة الجديدة هو حكم بالسجن بتهمة العيش - كما قيل- مع صديقها (هومايون مصداقي) دون عقد زواج – أرجو ملاحظة أن الحكم صدر بحقها فقط ولم يشمل مصداقي - وبعدها توقفت كوكوش عن الفن والتزمت البيت ولم يسمع عنها أحد أي شيء، ولكن الإيرانيين كانوا يتداولون أغانيها في السوق السوداء وكان المراهقون يعلقون صورها الآسرة في حجراتهم، وأشيع وقتها أيضا بأنها أّجبرت على الزواج من أحد (الملالي) المقربين من السلطة ولم يتم نفي أو تأكيد هذه المعلومة من قبلها. وفي عام 2000 أنتج المخرج الإيراني/الأمريكي فرهد زماني فيلماً وثائقياً حول النجمة الإيرانية بعنوان كوكوش: ابنة إيران يتحدث فيه عن حياتها وتاريخها الفني الحافل والاستثنائي، وفي ذات العام وبعد 21 عاماً من الانقطاع القسري عن الفن، استطاعت كوكوش أن تسافر إلى كندا بعد أن وعدت زوجها آنذاك مسعود كيميائي أن تعطيه 10 ملايين دولار من عائد حفلاتها هناك ليطلقها ويمنحها حريتها، وفي العالم الجديد استأنفت كوكوش نشاطها الفني وقامت بعدد من الجولات الغنائية حول العالم في لاس فيجاس ودبي وتونس وتورنتو وسيدني وستوكهولم وكوالا لامبور ولندن وأربيل واسطنبول، وحضر حفلاتها مئات الآلاف من المعجبات والمعجبين الذين تتراوح أعمارهم من سن المراهقة وحتى عمر السبعين، وفي فترة وجيزة استعادت كوكوش بريقها الفني خصوصاً أنها لازالت محتفظة بقوة صوتها وجمال طلتها حتى الآن. وفي 2008 تفاجأ محبو الفنانة الشهيرة بأكثر خطواتها الفنية جرأة، حيث صورت كوكوش أغنية (أنا أشك) من إخراج سيروس كردواني، وتنتقد الأغنية الأنظمة الدينية ورجال الدين، تقول كلمات الأغنية كما وردت في مقال للكاتب الكويتي أحمد الصراف:«...طالما شككت بهؤلاء الدمى (تقصد رجال الدين)، وشككت في مقاصدهم. لقد اشمأزت نفسي من ملائكة الخداع، كم أتمنى أن أشي بهم لمن هو أعلى منهم، ولست بخائفة على فعل ذلك بعد أن فقدت كل شيء، والشيطان يقول بأن الحاكم مدين لي بالكثير، وأنا سعيدة لأني قادرة على تقديم الخير الوفير». كما كانت كوكوش صوتاً مؤثراً في حركة الاحتجاجات التي اندلعت عقب فوز أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية في 2009 حيث ألقت كلمة مميزة قالت فيها: أريد أن أكون صوت الأمهات المكلومات اللاتي فقدن أبناءهن في هذه الاحتجاجات السلمية، كما تم التقاط صور لها وهي تحمل لافتة عليها أسماء 600 شخص من الذين شاركوا في الاحتجاجات ومازالوا يقبعون في السجون الإيرانية وتم كتابة الذين قتلوا منهم باللون الأحمر. تحتفل كوكوش هذا العام بعيد ميلادها الثاني والستين، وفي كل مرة تظهر فيها على المسرح تبدو وكأنها الطفلة الشقية فائقة آشتين التي كانت تملأ المسرح بهجة وانشراحاً، غير أن لا صوت على الأرض بعد الآن يستطيع أن يوقف الحنجرة الذهبية عن الغناء، ولا أن يسدل (الشادور) على وجه إيران الجميل الذي لا يشيخ.