كنت ولا أزال أعتقد أن تحريك جبال من أماكنها أهون ألف مرة من أن تقنع مسلماً بقاعدة فقهية اعتاد العمل بغيرها جهلاً، ولا سيما هيئة الصلاة التي أخذ بها منذ نعومة أظفاره، وأقصد بذلك قبض اليدين بوضعهما على البطن أو الصدر في الصلاة، والتي تحولت في ظروف غامضة إلى سُنة، فيما صار إرسال اليدين بدعة أو هيئة تخص أتباع المالكية والزيدية والشيعة دون غيرهم، وتطور الأمر حديثاً إلى اعتبارها هيئة تكشف الهوية المذهبية للمسلم إن كان سنيا أو شيعيا وفق مقتضيات دائرة الصراع المحتدمة اليوم بين السنة والشيعة . كلنا حرصاء على أن نصلى بالهيئة التي صلاها نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله; لأننا إن لم نلتزم بتلك الهيئة نكون قد عصينا خالقنا الذي قال في محكم تنزيله: “ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم “ . وقال تعالى: “ فاستقم كما أمرت “ وقال سبحانه: “ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين “. وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال للناس: “ صلوا كما رأيتموني أصلي» فكيف صلى نبينا الكريم وهل كان قبض اليدين سنة نبوية أم عمرية؟ وأيهما أصح في هيئة الصلاة بكمالها: القبض أم الإرسال، وهل من أدلة من السنة مرفوعة إلى نبينا بهذا الشأن؟ من الأحاديث المماثلة لحديث المسيء صلاته والتي تدل على أن إرسال اليدين في الصلاة سنة ما أخرجه أبو داود و صححه عن سالم البراد قال: “أتينا عقبة بن عامر فقلنا له : حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله فقام في المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه و جعل أصابعه أسفل من ذلك و جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم كبر ورفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء ففعل ذلك أيضا ، ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الركعة ثم قال: هكذا رأيناه صلى الله عليه وآله وسلم يصلي“. ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الاكتتاف في الصلاة الذي يعني قبض اليدين كما في الحديث الذي أخرجه مسلم والنسائي وأبي داوود وهو بلفظ الثاني “ أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو السرحي من ولد عبد الله بن سعد بن أبي سرح قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أنبأنا عمرو بن الحارث أن بكيرا حدثه أن كريبا مولى ابن عباس حدثه عن عبد الله بن عباس أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه فقام فجعل يحله فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس فقال: ما لك ورأسي قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف”. ومعنى الاكتتاف الوارد في هذا الحديث هو قبض اليدين. "انظر كتاب القول الفصل". أدلة أخرى في الإرسال ثمة أدلة أخرى أوردها العلامة محمد المحفوظ في كتابه “ فتح ذي المنة برجحان السدل من السنة “ ومنها حديث الطبراني في الكبير و لفظه: “ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان في صلاته رفع يديه قبال أذنيه فإذا كبر أرسلها“. ومنها كذلك أن العلماء أثبتوا أن عبدالله بن الزبير كان لا يقبض ولا يرى أحداً قابضاً إلا فك يديه ، ونقل الخطيب في تاريخ بغداد كون عبدالله بن الزبير أخذ صفة الصلاة من جده أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا يظهر منه على هذا القول كون أبي بكر رضي الله عنه كان لا يقبض. ومنها ما نقله ابن أبي شيبة عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب وابن سيرين وسعيد بن جبير فقال: إنهما كانوا لا يقبضون في الصلاة وهم من كبار التابعين الآخذين عن الصحابة رضي الله عنهم ومعترف لهم بالعلم والورع. ومثلهم أبو مجلز وعثمان النهدي وأبو الجوزاء فقد نقل هؤلاء أن القبض خاص بأحبار اليهود وبالمسيحيين، فقد سئل ابن سيرين عن وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة فقال: “ إنما ذلك من أجل الروم، وقال الحسن البصري: قال النبي صلى الله عليه وسلم “كأني أنظر إلى أحبار اليهود واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة “ "نقلاً عن ابن أبي شيبة". المذهب الزيدي أتباع المذهب الزيدي هم الوحيدون في اليمن الذين حافظوا على سنة إرسال اليدين في الصلاة ولمراجع المذهب أدلة كثيرة في مشروعة إرسال اليدين ومن ذلك ما رواه العلامة الحجة مجد الدين المؤيدي والعلامة محمد أحمد محمد الكبسي إلى الإمام محمد المرتضى بن الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) في كتاب المناهي بالإسناد المتصل عن آبائه عن علي (ع)عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى أن يجعل الرجل يده على يده على صدره في الصلاة وقال: ذلك فعل اليهود وأمر أن يرسلهما“ وهذا الحديث صحيح سنداً وسنده متصل من إلى الإمام المرتضى محمد عن آبائه الكرام ومتناً حيث لم يعارض الكتاب ولا السنة المتواترة والمتلقاة بالقبول ولا الأصول المقررة . وفي هذا الحديث حكمان هامان الأول تحريم قبض اليدين في الصلاة والذي دل عليه النهي والتعليل بأنه فعل غير المسلمين والثاني وجوب إرسال اليدين في الصلاة. وكذلك ما رواه الحافظ محمد بن منصور المرادي عن الإمام القاسم الرسي (ع) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا كنت في الصلاة قائماً، فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى ولا اليسرى على اليمنى فإن ذلك تكفير أهل الكتاب ولكن أرسلهما إرسالاً فإنه أحرى أن لا تشغل قلبك عن الصلاة. ويقول المرتضى بن زيد المحطوري أن إرسال اليدين في الصلاة، هو جعل اليدين - عند القيام - بجانب الفخذين، وهو الوضع الطبيعي للإنسان عند القيام وقد ذهب إلى أنه هو المشروع في الصلاة سائر المنتمين إلى خط أهل البيت من زيدية، وإمامية، وإسماعيلية، واختاره الإمام مالك ومن تبعه من المالكية، وذهب إليه سادات التابعين وكبار فقهاء المسلمين، أمثال سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة، وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير فقيها أهل الكوفة، وعطاء بن أبي رباح وعبد الملك بن جريج فقيها أهل مكة، والحسن البصري فقيه أهل البصرة، والليث بن سعد فقيه أهل مصر، وعبد الرحمن الأوزاعي فقيه أهل الشام، وغيرهم. والقائلون بالإرسال المتمسكون بفعله في الصلاة منتشرون على طول البلاد الإسلامية وعرضها، وليسوا قلة شاذة كما يروج متعصبو مخالفيهم، وهم يعتقدون أنهم متمسكون في ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، معتمدين في ذلك على ما عرفوا من صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك ما سنفصله لاحقاً بمشيئة الله تعالى. أقوال الأئمة جوّز الإمام محمد بن أدريس الشافعي قبض اليدين في الصلاة، لكنه قال: إن إرسالهما لا بأس به لمن لا يعبث بيديه ونقل عنه أنه قال: إن القصد من وضع اليمنى على اليسرى هو تسكينهما عن العبث وأن المصلي الذي لا يعبث بهما في الإرسال فليس مطلوبا منه وضع إحداهما على الأخرى وهذا يظهر منه أنه لا يرى القبض من السنة بل لترك العبث بالأيدي أثناء الصلاة . ثم إن الإمام مالك كره قبض اليدين في الفريضة وقال: لا أعرفه في الفريضة بمعنى لا اعرف أحداً من الأئمة الذين تعلموا من التابعين وبعض الصحابة عمل به كما أنه قال بكراهة القبض في المدونة وهي متأخرة عن الموطأ في التأليف وهي موضوعه لبيان الاحكام بخلاف الموطأ. ورد في طبقات الحنابلة الجزء الأول عن عبد الله بن أحمد (بن حنبل) سألت أبي عن حديث إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي معشر قال: يكره التكفير في الصلاة قال أبي: التكفير أن يضع يمينه عند صدره في الصلاة”. يقول العلامة محمد الشنقيطي: “لم ينقل عن علماء المذاهب الأربعة قول بكراهة إرسال اليدين في الصلاة وإنما هو دائر عندهم بين الإباحة و الندب بخلاف القبض فإن فيه قولاً بالكراهة وقول بالمنع معترفاً بهما بجانب القول بندبه و القول بإباحته وعليه فإن الحديث المتفق عليه و هو قوله صلى الله عليه و سلم: ( الحلال بين والحرام بين و بينهما أمور مشتبهات ...الخ ) هذا الحديث يظهر أن قبض اليدين من الأمور المشتبهات التي من تركها أستبرأ لدينه وعرضه ، لأن القبض فيه شبهة التحريم بجانب شبهة الندب و الطلب و قد أوضح ذلك العلامة محمد السنوسي في كتابه “شفاء الصدر باري المسائل العشر “ . خلاصات ثمة قاعدة تقول: “رب حامل فقه ليس بفقيه“، وهذا يقودنا إلى أن الآراء التي يرددها البعض بصفة كونها أحكاماً شرعية كالقاعدة التي تقول: إن الرسول صلى الله عليه وآله “ أرسل يديه في الصلاة وقبضهما “ وهي أقوال باعتقادي ليس لها حجية فالتشريع لا يؤخذ برأي فلان وعلان بل لا بد أن يكون الحكم والفتوى في أي قضية مسنوداً بالدليل من الكتاب والسنة. إن الاضطراب في الأحاديث المروية في شأن قبض اليدين في الصلاة لا يستقيم حالها مع المنهج الذي اعتمده نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله في تعليم أصحابه كل ما يتعلق بأمور دينهم وخصوصاً الصلاة . ومعلوم أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضع قواعد صارمة لحفظ وصيانة السنة من أي دخيل في قول أو عمل فقال “ ألا هل بلغت “ ، “ ألا فليبلغ الشاهد الغائب “ ثم عزز ذلك بلزوم صيانتها من أي دخيل في قول أو عمل ، فقال: “ إن كذباً علي ليس ككذب على غيري، من يكذب علي بني له بيت في النار “ ، “ من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار “ ، “ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ، فهو رد“. علينا أن نقول ونكرر: إن الروايات التي وردت لإثبات رجحان قبض اليدين في الصلاة أكثرها جاء مضطربا وأكثر الأحاديث التي يقدمها بعض الجهلاء دليلاً على رجحان القبض على الإرسال تفتقد إلى شروط الصحة كما أنها ليست حسانا ولا سالمة من الضعف بل إن كلها أما موقوف أو مضطرب أو ضعيف والسنة لا تثبت بمثل هذه الأدلة. وأكثر من ذلك أن أحكام بعض هذه الأحاديث تراوح بين الجواز والاستحباب والوجوب وهذا يدل على ضعف القاعدة التي قامت عليها هذه المرويات في مسألة من أكثر المسائل تكرارا في حياة النبي بل هي أكثر عبادة كررها النبي في حياته وعلمها أصحابه بتفاصيلها. تبين ضعف الروايات التي جاءت في القبض وثبت بالدليل أنه لا تقوم عليها حجة وإن كانت الروايات في هذا الجانب أكيدة وثابتة فلماذا لا يرقى قبض اليدين إلى الوجوب وإنما عده الكثير من العلماء من المستحبات أو السنن. وسنن نبينا الكريم كانت واضحة بل شديدة الوضوح للصحابة الذين عاشوا معه كل صغيرة وكبيرة في الدين والدنيا واعتمدوها تشريعاً لا يقبل الجدل أو التأويل أو الاجتهاد باعتبارها ديناً له حجيته .. ما يجعل أي اجتهادات في المسائل التي كانت واضحة غير بعيد عن دائرة البدعة التي ترد على صاحبها ولا تلزمنا كمسلمين اليوم حتى بعد مضي 1400 سنة . علينا أن نعرف أن السنة لم تؤخذ من كل الصحابة بل اقتصر الأمر على بعضهم خصوصا وأن الثابت أنه كان قد ظهرت خلافات في المبنى والمعنى بين هؤلاء ما دعا الخليفة أبوبكر الصديق إلى منع الناس من ذكر أحاديث تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وقوله المشهور في ذلك أورده الذهبي في تذكرة الحفاظ: “ إن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه“. والاختلاف بين الصحابة كان قضية حظيت باهتمام الباحثين والعلماء قديما، فابن خلدون عرض لهذه في الفصل السابع من الباب الرابع من المقدمة إذ رأى “ أن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن ، العارفين بناسخه ومنسوخه ، ومتشابهه ومحكمه ، وسائر دلالاته ، بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو ممن سمعه منهم وعن عليتهم ، وكانوا يسمون لذلك ( القراء ) لأن العرب كانوا أمة أمية“. صعوبات كالجبال أعرف أنه ليس من السهل إقناع الناس في قضايا صارت نوعاً من المسلمات في مجتمع شديد الانغلاق وفاقد الثقة بقدراته على الاجتهاد وليس يسيراً أن يستجيب من يرون في فروع الدين أصولاً لا تقبل الجدال كما يصعب في وضع سياسي واقتصادي معقد كالذي نعيشه البحث عن الحقيقة فلن يكون يسيراً على الناس أن يحصلوا على مراجع تعينهم في معرفة الحقيقة ومن جانب آخر فان سائر المؤلفات الدينية التي تغرق بها السعودية بلادنا تعبر عن وجهة نظر واحدة وتكاد تكون متشابة ولا مجال لديها للخلافات والاجتهادات وإن قلت بخلاف ما يراه هؤلاء فلن تعدم جمهور المتطوعين الذين لا يترددون في النيل منك بأية وسيلة . تبدو الصعوبة أكبر في أناس ظلوا لسنين في حال سبات فكري مطمئنين إلى وجود مراجع يتناوبون الناس من داخل صوامع عالية محاطة بهالة من القداسة وكلفوا أنفسهم أو كُلفوا ربما بمراقبة الناس وتزويدهم بما يرونه صالحا على مبلغ علمهم وأبعادهم عما يرونه مخالفا . بعد كل هذا: ما الذي يمكن أن يقوله أنصار قبض اليدين في الصلاة؟ وماذا تبقى من حجة لدى أنصار القبض الذين اتبعوا أهواء من سبقوهم وجعلوا من أفعالهم وأهوائهم سنة كانت قديما عمرية وصارت تالياً نبوية افتراء على نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله؟. في آخر هذا البحث المتواضع لا يسعني إلا أن أقول: سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، ترحم من تشاء من عبادك فتوفقه لاتباع السنة وتشرح صدره للإسلام وتهديه .. وتخذل من تشاء وتضله وتربط على قلبه وتعميه "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وزارة وزر أخرى".