سلسلة مقالات وجدانية للكاتبة والخبيرة في التنمية البشرية المدربة الدولية عائشة الصلاحي عن مؤلفها النوعي الصادر حديثاً (فارس النور)، من إصدارات مجلة نجاح المتخصصة في التنمية البشرية والعلوم الإدارية. يقف المرء مشدوداً أمام ذلك المنظر العجيب.. شجرة خضراء نضرة تخرج من أعماق صخرة صماء قد انفلقت على الرغم من صلابتها وصلادتها.. ترى كم سيلزمك من الوقت لتستوعب أن الحجر الصلد الذي لا تكسره آلات البشر –على ثقلها- إلا بشق الأنفس وقد نحتاج (للديناميت) غالباً للحصول على تفتيت مناسب لها.. هذا الحجر قُهر بكل قوته أمام تلك الفسيلة الفتية التي وجدت طريقها إلى جوف الحجر –عبر شق صغير- منذ زمن على شكل بذرة صغيرة.. ضعيفة. قصة طويلة مشوقة تلك التي تقصها عليك تلك البذرة التي قادها القدر إلى جوف صخرة صماء ليس فيها دفء الأرض ولا نبض الثرى الحنون، بذرتنا هناك وحيدة حائرة تعلم أنه من المستحيل أن تنمو في هذا الحيز الضيق المظلم المقفر.. لكن الأكثر استحالة عليها هو أن تستسلم وستقاتل بأقوى أسلحتها على الإطلاق وهو سلاح (التحدي). وتبدأ بذرتنا المتحدية طريقها الصعب لتتعمق في مسامات تلك الصخرة مستغلة كل شق جديد يظهر فيها وكل قطرة رطوبة تتسلل إلى ذلك الجوف المقفر.. كم هي الليالي طويلة وقاسية عليها؟! لكن عنادها العجيب أن ترى النور كشجرة يافعة جعلها تكابد وتكابد.. موروثاتها الجينية في أعماقها.. ترسم لها طريقاً واضح المعالم. لا.. ثم ألف لا.. للاستسلام.. الحياة أقوى من أن تحدها حدود شق في صخرة، آمالي أكبر من أن تدفنها ظلمات أزمة، وذاتي أغلى من أن أرضَ لها أن تختفي في طيات عقبة أو حنة أو مصيبة.. سنين طويلة شاقة تمر عليها هي ثمن التحدي ووسامه، وفي نهاية المطاف يكون عندنا مشهد فريد وعجيب لفسيلة فتية تخرج من أعماق الجمود.. نابضة بالحياة والدفء إنه ذلك المشهد الذي بهرك والذي قد تراه على جانب الطريق كمنظر طبيعي جميل. لعلك بذرة فتية نابضة بالحياة والأمل.. للتو بدأت مشوار انطلاقتك.. إذن لا بد أن تواجهك العقبات والصعوبات ولا بد أن تجد نفسك في أزمة صعبة أشبه بظلمات الصخور الصماء.. لا بد أن الحياة تعاندك فهي ليست سهلة أبداً ولم تخلق لتكون سهلة بداً.. لا بد أن نصيبك فيها من الكد والتعب كثير.. فهذه سنة الحياة. لكن مع كل هذا تأمل من حولك، فالكل في معركته الخاصة فهذا الفقير يكابد العوز، وذاك مريض أو معاق قد هدته الآلام، وأحدهم قد أضاع نسبه وأصله فشعر كأنه شجرة مقطوعة لا يعترف بها المجتمع ولا ينظر إليها إلا شذراً بسبب خطيئة قديمة، وهذا معه الذكاء ولكن لا يملك فرصة الوصول إلى قاعات الدراسة الأكاديمية، ولعل مشاريعك تصطدم دائماً بنقص المال أو نقص النفوس العاملة المعتنقة لما اعتنقت من آمال.. شعور الغربة يحيط بك.. فلا أحد يتفهم فكرك الراقي.. ولعل زميلك في العمل يضايقك أو لعل مديرك دائم التحطيم لمعنوياتك؟ ألف لكن.. ولكن. تقف أمام سقف أحلامك وطموحاتك. لا تحزن على الرغم من كل هذا وذاك أنت قادر أن تنتصر إن قاتلت ببسالة بسلاحك الأقوى (سلاح التحدي).. تذكر أن لا شيء يمكنه أن يركب ظهرك إن لم تكن منحنياً له، لقد جربت اليأس والاستسلام مرات عديدة فهلا جربت التحدي فإنه مع متاعبه.. وعسرته إلا إنه حلو المذاق وطيب النتيجة. لا تدع صعوباتك تهزمك مهما كانت، فإنما هي عظيمة لأنك عظيم.. فالعقبات تأتي على قدر النيات والطموحات. كن متفائلاً وانظر إلى كل صعوبة وتحدي على إنها فرصة جيدة لاكتشاف طاقتك الكامنة والتي لن تخرج إلا بالمواجهة.. آمن أن كل ضربة تصيبك.. ما هي إلا تدريب قوة للمستقبل فالخبرات لا تأتي إلا من مثل هذه الضربات والضربة التي لا تكسر ظهرك تقويه. راقب سمك السلمون وعش معه حياته الرائعة.. نعم السلمون.. ياله من حيوان عنيد وصعب المراس، ساخراً من تحديات الطبيعة ها هو يقرر أن يعود إلى منابع الأنهار التي ولد فيها ليتزوج وينجب أطفاله هناك حيث مسقط رأسه، وهذا يستلزم قطع مسافات هائلة من الكيلومترات من عرض البحر حيث عاش لسنة أو أكثر إلى أعالي منابع النهر في سباحة مستمرة لا تعرف التباطؤ أو التوقف فهو لا يريد أن يتأخر عن موسم التكاثر المحدد.. والأعجب أن كل هذه المسافة.. يجب أن تقطع عكس تيار ماء النهر الهادر وعبر عقبات طبيعية وعرة وكمجموعة مترابطة!! هل رأيت تحدٍ أكبر من هذا..؟ وتبدأ سمكة السلمون رحلتها القاسية ومقاومتها للتيار الصاخب لا تهمها ضربات الماء القاسية التي ترطمها بالصخور مرات ومرات.. لا تلتفت إلى من يتساقطون خارج المجرى ضحايا قفزهم الخاطئ ويكون الموت خارج الماء مصيرهم المحتوم.. فلا بد أن يكمل البقية الرحلة مهما كانت الخسائر.. لا تتهيب أسماك السلمون من كل هذا ولا من أنياب الدببة التي تكون بالانتظار لها عبر محطات النهر المختلفة.. لا هذا ولا ذاك سيثني عزمها عن ما تريد.. نعم إنها آمالها وقرارها ولا بند عندها للاستسلام مهما كانت الظروف. هذه الرحلة الجماعية تبهرك بوحدة الهدف وصلابة التحدي الذي يمتاز به الجميع فلا مثبطين ولا متهالكين بل إن نداءاتهم لبعضهم البعض تزيد من عزماتهم ليصمدوا أكثر وأكثر على الرغم من قسوة الرحلة وطولها الذي قد يمتد لأسابيع طويلة حسب مكان النبع، تجدهم كلما لاح لهم شلال عالي تقافز الجميع في منظر عجيب يتسابقون لاجتياز الشلال بدون تهيب من السقوط خارج المجرى، بدون استسلام على الرغم من كثرة المحاولات الفاشلة، بدون توقف حتى لا يجرفهم التيار إلى الأسفل، إنه شرف المحاولة المتحدية مهما كانت النتائج، بدافع التحدي الذي لا يُقهر تقفز سمكة السلمون إلى ارتفاع كبير يقارب أحياناً 3,5 متر تقريباً في الهواء لتصل إلى أعلى الشلال المنحدر ثم تكمل مسيرها إلى المنبع. هل أزيدك عجباً..؟ إنها تنذر الصيام منذ بدء الرحلة! فلا وقت للطعام وكأنها تعلن إما الوصول وإما (لا حياة). تصور كم تكون سعادة أسماك السلمون عند الوصول.. لقد انتصرت وانتصر عزمها لما تريد، وتتزاوج وتضع البيوض.. ثم يهدأ قلبها السعيد بإنجازها، وتسكن نبضاته القوية ليعلن نهاية رحلتها ورسالتها وتموت السلمون مطمئنة أنها قد عاشت كما أرادت أي كما غرس الله في داخلها.. والآن بعد هذه الرحلة الفريدة مع السلمون لا بد أن تواجه مشكلتك.. حددها بشجاعة.. تحداها.. تحدى كل شيء حتى نفسك المتهاونة.. فغاندي تحدى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.. وانتصر كمحرر لموطنه الهند.. وجاليليو تحدى من أحرقوه مصمماً أن الأرض كروية ومات مرفوع الرأس حتى دار الزمن ليثبت ما قال، وبيتهوفن لم يستسلم للصمم الذي أصابه بل ألف أفضل معزوفاته وهو لا يسمع، وميلتون أخرج من ظلمة عماه أجمل قصائد الأدب الانجليزي الكلاسيكي. اختر لك مشاهير من المتحدين والمؤكد أن الحياة الزاخرة بالكثير منهم فتأملهم من حولك وتدبر حالهم، كن بذرة عنيدة متحدية ولو في دياجير صخرة قاسية من الأزمات، اثبت ذاتك الغالية وامدد جذورك ببطء وثبات ومثابرة.. ولتكن نفسك تواقة دوماً.. للوصول إلى طموحك الأعلى. حاول.. لا تستسلم أبداً فالاستسلام هو نهاية كل شيء جميل في حياتنا ومستقبلنا.. أنت لها فتحدى وسترى قريباً.. بإذن الله.. أنها ستنفلق.