سلسلة مقالات وجدانية للكاتبة والخبيرة في التنمية البشرية المدربة الدولية عائشة الصلاحي عن مؤلفها النوعي الصادر حديثاً (فارس النور)، من إصدارات مجلة نجاح المتخصصة في التنمية البشرية والعلوم الإدارية. ما أجمل تلك اللآلئ الثمينة التي تملأ كفك، ما أغلى كنزك الذي جمعته بجد ومثابرة، بل ما أشد فرحتنا بأنك أصبحت صياداً رائعاً للآلئ المخبوءة في أصداف محنتك.. استمر.. ستصبح أكثر مهارة يوماً بعد يوم، زد في الثقة، زد في التحدي، وزد في التفاؤل، هذا كل ما تحتاجه لتصبح جامعاً خبيراً باللآلئ مهما ادلهمت الظلمات في دياجير المحن والفتن.. وحير ما يواسيك في هذا الطريق الشاق إنه أفضل وأصوب الطرق وإن كان الكل كادحاً، فكن كادحاً من أجل كنز ثمين يضمن لك حياة وشخصية متميزة، لا بد أن أنوار لآليك ستفتح لك آفاق النجاح في الدنيا والآخرة ولا زلنا في خضم التحدث عن المحن، لا زلنا مع كيفية مواجهة الصعاب، فهكذا هي حياة البشر وخاصة أهل الارتقاء منهم. كم هي خطيرة رياضة تسلق الجبال، النجاح فيها غير مضمون، إنها رياضة المغامرة والمخاطرة، هذا في تسلق جبال الأرض فما بالك في تسلق جبال الحياة والإنجازات، متسلقو الجبال الشاهقة يعزون أنفسهم عند الخطر والتعب بأنهم سيرتاحون كثيراً جداً هناك في القمة وأن المنظر الخلاب لما تحتهم وما حولهم جمال الهواء العليل سيُذهب كل آلامهم وسيُسكت صراخ أعضائهم المنهكة، فتراهم يصبرون على إنهاك عضلاتهم ونقص الأكسجين وزيادة البرودة كلما زاد اقترابهم من القمة الشامخة كما أنهم يصطبرون على جوعهم حتى يصلوا إلى المكان المناسب لنصب المخيم إذ ليس كل محطات الطريق تنفع لإقامة مخيم الاستراحة، إنهم يتحدون خوفهم من السقوط أو الضياع كلما عبروا على قبر أو جثة متسلق ما مات أو فقد هنا أوهناك ويحدثون أنفسهم بأن الأمور ستكون معهم أفضل والنهاية سعيدة، عجيب أمرهم، لكنهم يعشقون القمم على الرغم من كل المخاطر، قد لا نضطر إلى المخاطرة مثلهم، لكننا نعشق قمم العيش والإنجاز ولهذا فلا مفر من احتمال بل والاستمتاع بكل ما نلاقيه في هذا السبيل.. وكما أسلفنا فإننا لا زلنا مع المحن والأزمات وبعد أن قررنا اقتناء (حكم الخير) من وسط أوجاعنا فإن علينا الآن أن نبلغ مرتقى أروع وهو (عطاء الانحناء) ونعني به الكرم في البذل والعطاء لكل ما ومن حولنا على الرغم من آلامنا وعنائنا.. ففي المحن تنحني نفوسنا مثقلة تحت سيف العناء والتعب.. لكن أرواحنا تظل شامخة بالتحدي والتفاؤل والرضا..وأيضاً الكرم. إن على أرواحنا أن تنتصر وتعطي.. أن تنجز وأن تهدي خيراً.. على الرغم من كل سلبيات الواقع وتعب الحياة.. قليلون جداً من يتحدون أزماتهم.. وأقل منهم يتفاءلون في ظلمات الأزمات ويصطادون حكمة الخير وسط علامات الشر الظاهر، واقل من كل هؤلاء أولئك الذين يزدادون بذلاً وعطاء وإنجازاً أثناء بلائهم، ولهذا كان من علامات الصبر الصادق المقبول عند الله أن لا يقل عمل العبد أثناء بلائه عما كان عليه قبل البلاء، أن تسقي الماء للآخرين وأنت ريان.. رائع لكن الأروع والأندر أن تبذل لهم الماء بطيب خاطر ورضا وأنت ظامئ.. إنها قمة لا يبلغها إلا أصحاب الأرواح المحلقة والنفوس التي لا تقهر ولا يتغير طيب معدنها في جهادها للنجاة من هجوم الصقر الكاسر الذي فاجأها.. تطير العصفورة الأم بكل قوة جناحيها لتبتعد عن مخالب مهاجمها المميتة.. ولكن قلبها يُفجع حين تلمح صغيرها الضعيف الذي خرج مفزوعاً مما يحدث حوله، إنه يبدو لقمة سائغة واضحة تجري على الأرض المنبسطة المكشوفة ويلمح الصقر نفس المشهد ويدرك إن هذا الصيد أفضل من طريدته السريعة ويبدأ سباق عجيب فالصقر ينطلق لنيل صيده الأكيد.. والأم الحنونة المتحدية تنطلق لتنقذ طفلها فهي لن تكون فريسة سهلة ولكن لا ترضى أن تدع صغيرها وتتناسى أمومتها مهما كان.. وتبدأ بمناداة صغيرها وحثه على التجلد والجري بكل قوته بشكل متعرج ليبتعد عن المهاجم الكاسر.. منظر مذهل ذلك الذي يحدث أمامك.. فلقد استجاب الصغير وراح يجري مسرعاً دون التفاتة أو تباطؤ وبشكل متعرج رائع ها هنا تنقض الأم على الصقر بشجاعة منقطعة النظير لتوقف انطلاقته الجبارة نحو فلذة كبدها، ها هي قد نجحت.. صحيح لم توقفه تماماً ولكن سرعته الكبيرة تناقصت من أثر الاصطدام ويدور الاثنان في الجو من اثر الصدمة ويستعيد الصقر توازنه أسرع من العصفورة الأم التي بذلت جهداً مضاعفاً حتى لا ترتطم بالأرض بشكل مميت.. ويشتد غضب الجارح الصياد لكنه لن يترك فريسته المؤكدة بمثل هذه الخطة التكتيكية ولهذا فإنه يعاود ملاحقته للصغير الذي ابتعد قليلاً. إنه صراع إرادات مثير يدور بين صلبين متحدين بعضهما.. وما إن يعاود الصقر اندفاعه حتى تعاود الأم هجومها الجريء فها هي تطير بكل سرعتها من فوقه ومن تحته وعن جانبيه في محاولة حثيثة لتشتيت تركيزه.. وبصبر عجيب تتحمل الأم آلامها وجروحها التي صنعتها جولتها الالتحامية بمخالب ومنقار الصقر وأثناء كل هذا لا زال صوتها القوي يحث صغيرها على المتابعة وأن لا يلتفت حتى يتوارى تماماً في جحر أو حفرة آمنة، إنه صراع غير متكافئ القوى يدور بين السماء والأرض.. لكنه غير محكوم بقوة العضلات ولا بحدة المخالب بل بحكمة قوة الإرادة وروعة العطاء وعمق الرغبة في التضحية والبذل.. ترى ماذا تتوقع أن تكون النتيجة؟! تنتصر الأم الضعيفة الجسد!! فلقد نجا صغيرها وها هي تنسحب بسرعة ورشاقة من أمام عدوها الكاسر فلا طاقة لها به وكل ما جرأها على ما فعلت هي عاطفتها الحقيقية في منح ابنها أملاً جديداً في الحياة.. إنها أم رائعة دوماً لكنها أصبحت أروع حين حافظت على عطائها الدافئ على الرغم من الألم والخطر المحدق بها. لا شيء يمنعك من العطاء مهما بلغ الألم.