جلس إلى يميني، فتح الحديث عن مشكلة مزمنة يعاني بسببها الكثير من الناس وتسكن البعض في موسم الحج بشكل ملحوظ.. أخذ الحديث مجراه؛ لكن محمد معروف بأنه مستمع بامتياز ومستمع جيد.. قلت وماذا عنك، هل ستتدبر أمرك لتتمكن من الانضمام إلى وفد الرحمن في عام قادم؟ التفت إلي وتدحرجت من عينيه دموع، أيقنت أن أصداءها عند ربه كوقع شلال عظيم.. محمد لم يكمل عقده الرابع ويعمل مساعد مهندس إنشاءات وهو دائم التشوق لزيارة البيت الحرام بمكة وأداء فريضة الحج، اعتاد في مثل هذه الأيام أن يقضي جزءاً من الوقت أمام شاشة التلفزيون منغمساً في لذة الشوق، مستغرقاً في الدعاء أن يرزقه أسباب أداء الفريضة.. يقول المهندس محمد ثابت:كثيراً ما أشتاق وأتألم عندما أشاهد منظر الحجيج وهم يؤدون مناسك الحج وأجد نفسي تفيض بالحنين إلى مكة، وأرسم الخطط وأبدأ؛ لكن مستوى الدخل وضغوط الحياة الأسرية تربكني وتفشل المساعي وتبقي الرغبة متأججة وأجتهد في طلب العون من الله ولا أقف عند حد شرط الاستطاعة، ثقتي بالله كبيرة أنه سيوفقني لأداء فريضة الحج فإن سبق الأجل فلله الحمل والشكر! من الناس من يحاسبون أنفسهم؛ لأن فرصاً مرت عليهم وهم يسوفون ويؤجلون رحلة الحج والعمرة من عام إلى آخر، وهذا العام ساءت أحوالهم ويشعرون أن صعوبة تكوين مدخرات بسبب تدني مستوى الدخل وزيادة الأسعار، وكذا زيادة مطالب أفراد الأسرة باتت قيوداً تعيق حركة الإنسان وتمنع كثيرا من الواجبات من التحقق. أحمد محمد ناصر “موظف” يؤكد الشعور المؤلم بهذه الحالة ويضيف: أظن أن الموظف أكثر حنيناً لأداء فريضة الحج؛ لأنه يغفل عن كون الدين يسرا وليس عسراً بفعل عسر حياته إذا نظرنا إلى زيادة الأعباء الحياتية وتصاعد تأثير الأزمات المعيشية عليه مقابل ثبات الدخل وأجد لنفسي ألف مبرر حينما تغمرها الحسرة عند التأمل في فضائل الحج ولو قلت بأنني أبكي أحياناً وبالذات عند مشاهدة منظر الحجاج في عرفة؛ بل وأشعر أن مثلي كثير يبكون ويبحثون عن حريتهم وعقولهم، فهل يسقط الحج كتكليف إلا عن “العبد المملوك” والمجنون والصبي. عادل أحمد عبدالله (ضابط أمن) يرى أن من حق الإنسان المسلم أن ييسر على نفسه ما أراد الله ذلك، ويعيش بقلبه وعقله وكل جوارحه مع الحجاج ويفرح لهم ويدعو لنفسه ولغيره بالتوفيق والأهم أن يدخل السرور على أهل بيته والأقربين في هذه المناسبة؛ فالحج مرتبط بالاستطاعة؛ أما حالة التشوق لأداء الفريضة فتمثل شيئا إيجابيا ينبغي أن ينعكس في كثير من الأعمال الصالحة وأعمال الخير التي تتطلب من المرء جهداً معنوياً ومن ذلك الدعاء للمسلمين بأن يقيهم الله شر المحن والفقر ويرزقهم مما عنده؛ فلندعوه كما أمرنا وسنجد الإجابة كما وعدنا وبإذنه تعالى سيرزق كل داع مستيقن بالإجابة بما يريد من الخير ودفع للشر. نساء، هن أكثر تشوقاً وحنيناً لزيارة بيت الله الحرام والخشوع فيهن يكاد ينطق حينما تصبح فريضة الحج موضوعاً للحديث؛ ولكن حينما تناقش أعباء ومتطلبات الرحلة تجدهن أكثر ثقة وتجاوزاً لمنطق الظروف لو أن الزوج أو الأب أو الأخ شجع على الاستعداد وعمل في نفس الاتجاه وتقول امرأة في الخمسين من عمرها: إذا سهل الله وقمت بمشاورة الأبناء من أجل بيع جزء من ميراثك والسفر إلى مكة يطلب أحدهم نفس المبلغ ليأتي معك ويعترض الثاني ويصرخ لماذا هو؟ وبعد فترة يأتي أحدهم يترجى كي تكون البيعة لصالحه؛ لأنه في أزمة.. الأبناء يأخذون عمر الآباء والأمهات ولا يبقون لهما شيئاً ورحم الله من نفذ وصية إذا أوقف المتوفى قطعة أرض لمن سيحج له بعد موته؛ إذ يتنازع الأبناء وينسى صاحب الوصية إلا قليلا من الناس وما أقل من يحجون الآن! أمنية زيارة بيت الله الحرام ومسجد رسول صلى الله عليه وسلم تكبر عاماً بعد عام؛ لكن في نفس الوقت تزيد أعباء السفر لأداء مناسك الحج وهنا نقول لمن وفقه الله هذا العام وسابقه حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً ونسأل الله أن ينسينا كل ما يشغلنا عن الاستعداد وطلب العون من الله سبحانه وتعالى لنفوز بالذهاب إلى مكة دون عناء كبير، وأدعو كل من يعاني ضيق الحال ألا يرهق نفسه، وأن يداوم على الدعاء حتى ينعم الله عليه بما يحب ويحمد الله على نعمة الإسلام إذا لم يتمكن، وأن يرزقه الذرية الصالحة لتحقيق أمنيته فكل إنسان مسلم إن سألته عن رغبته وحنينه للحج فسيحدثك عن نقص المال فلا تطيل عليه؛ لأنه حينها يتمزق شوقاً لمكة. اللافت هذا العام تمكن عدد من أهل الشهداء في ثورة مصر وبعض المصابين من تحقيق أمنيتهم بالحج بدعم فلو أن عددا من اليمنيين من ذوي شهداء الثورة في اليمن وجدوا من ييسر عليهم، ويسهل لهم أداء فريضة الحج فليس هناك أروع من لفتة كريمة كهذه إن حصلت لاحقاً.. ويضيف الأستاذ محمد: أظن أن من سبق لهم أداء الفريضة لو أن الرحلة إلى الله سهلة لفعلوا ما بالك بمن بلغ سن الكهولة ولم يستطع الحج وقلبه مأسور ويعتصره الشوق والحنين إلى مكة وهو يحس أن قواه الجسدية لن تساعده بعد حين.. المواصلات سهلة والرغبة جامحة والمال يجيء ويذهب بسرعة وفي مثل هذه الأيام يتضخم أمامك كشف الحساب وأن تسمع “لبيك اللهم لبيك” وكأنك معقد هنا تشعر بأنك لست سيد ما تحصل عليه من مال مادام لك أولاد يكبرون وتزداد مطالبهم؛ بل تحس بأن الأولاد ومطالبهم المتزايدة عن طمع أحياناً وتأثر بالناس المسرفين في الأعياد خاصة تجد نفسك أمام مبرر مقبول للقول: إن أولادك وأسرتك تحولك إلى عبد لها، فيعيش حياة كلها أرقام تراها كبيرة؛ ولكن هيهات أن تساوي خفقة قلب عندما تأسرك مشاهد الحجاج.. الآن نسيت أن لعيد الأضحى معنى آخر غير أنه عبادة لعادات كما يراها المستعبدون الاستهلاكيون، ذات يوم سيشعرون بما نحن فيه ونقول لهم: وفقكم الله وإيانا لأداء فريضة الحج بإذنه تعالى، وليس ذلك على الله بعزيز!!