نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    "استحملت اللى مفيش جبل يستحمله".. نجمة مسلسل جعفر العمدة "جورى بكر" تعلن انفصالها    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    الدكتور محمد قاسم الثور يعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    بن مبارك يبحث مع المعهد الملكي البريطاني "تشاتم هاوس" التطورات المحلية والإقليمية    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    رئيس مجلس القيادة يناقش مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي مستجدات الوضع اليمني مميز    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    مليشيا الحوثي تنظم رحلات لطلاب المراكز الصيفية إلى مواقع عسكرية    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعز هاشم علي .. خصوصية الاختيار وعشق الارتباط
ثلاثة أعوام من التجاهل والنسيان
نشر في الجمهورية يوم 04 - 11 - 2012

حين تنبري المدن اليمنية العريقة بتاريخها الموغل في القدم لخوض غمار المنافسة فيما بينها لتحديد أي هذه المدن يجب أن تنال حق الامتياز والفرادة دون غيرها من المدن الأخرى في مجال الهبات والمزايا الخاصة التي قُدر لكل واحدة منها أن تحظى بها ، سنجد أن مدينة تعز الحالمة الرائعة ، مدينة الثقافة والجمال هي التي سوف يكون لها شرف الحصول على مركز الصدارة دون منافسة تذكر.
كان الفنان التشكيلي هاشم علي مؤسس الفن التشكيلي الحديث في اليمن والأب الروحي له ، ولا يزال وسيظل ، هو الهبة التي صنعت الفرق الكبير لمدينة تعز عن غيرها من المدن بصفة خاصة ، ولليمن أيضاً بصفة عامة .. وإن أبسط تجربة يمكن إجراؤها في ضوء المعطيات الواقعية المنطقية التي تقدمها المقارنة من الناحية النظرية ليس إلا ، ودون الحاجة إلى الناحية التطبيقية سوف تقودنا نتائجها بكل تأكيد إلى إثبات مصداقية هذا الحكم الذي صدر بحق هذا الفنان من قبل كل الفئات المختلفة نقاداً وأدباء وكُتاباً وصحافيين وإعلاميين وفنانين وحتى من الطبقات البسيطة في المجتمع..
إن أهم ما يمكن الوقوف عليه وبيانه في هذا السياق هو القيام بتحليل الحيثيات التي شكلت الخصوصية في الاختيار لدى هذا الفنان ودفعته إلى تجسيد علاقة متينة مترابطة بينه وبين هذه المدينة التي أراد أن تكون مدينته المختارة دون سواها على الرغم من تنقله بين العديد من المدن الأخرى وإقامته فترة من الزمن في بعض منها ، الأمر الذي نجد أنفسنا معه ملزمين بالعودة إلى نقطة البداية التي شكلت المرحلة الأولى من حياة هذا الفنان ، لنرى ما فيها من أحداث كثيرة كان لها الأثر الأكبر في تكوين العالم النفسي والفني والروحي والفكري والاجتماعي الخاص به، وانعكاس ذلك فيما بعد على المراحل الأخرى التي مر بها .. حيث كانت البداية من مسقط رأسه إندونيسيا التي عاش فيها قرابة ثلاثة عشر عاماً من عمره مثلت مرحلة الطفولة التي وجد نفسه فيها منتمياً إلى أسرة تنتهج نهجاً إسلامياً فيه نوع من التشدد الديني المعبر عن امتداد واستمرار رحلة تاريخ عقائدي طويل متمسك بجذوره الفكرية القوية بحكم عراقة وأصالة النسب في الانتماء خاصة من جهة أبيه الذي كان داعية إسلامياً كبيراً يدعو إلى نشر الدين الإسلامي وتعاليمه في هذا البلد ، شأنه في ذلك شأن الدعاة الإسلاميين الآخرين الذين تحملوا تبعات هذه الرسالة في مواجهة المد الإشتراكي الذي تجسد مندفعاً بقوة في تلك الفترة من الزمن .. في هذا الجو نشأ هذا الفنان حيث وجد نفسه ملزماً بالإجبار لا بالاختيار على أن يتقيد بتعاليم النهج الذي تتبناه هذه الأسرة وهو ما زال طفلاً صغيراً، ومع ذلك كانت لديه رغبة جامحة في التعبير عن ذاته وإبراز هويته الشخصية المستقلة الأمر الذي خلق لديه حالة من حالات التمرد الطفولي رفض معها الالتزام المطلق بكل قواعد التقليد المفروضة والانصياع لتنفيذ كل ما يطلب منه . ومن حسن حظ هذا الطفل أن خاله قد أدرك هذه المسألة التي كان عليها ، فطلب من أبيه أن يتبناه ويتعهد بتربيته ورعايته ، وبذا تمكن من الانتقال للعيش في بيت خاله وترك بيت أبيه الذي ظل يتردد عليه بين حين وآخر من باب الزيارة أو الإقامة فيه لبعض الوقت أثناء الإجازات ، وقد شكل هذا التغيير الجديد منعطفاً مهماً ، وأحدث تحولاً كبيراً في حياته ، حيث منحه ذلك قدراً من الحرية الذاتية للتعبير عن ذاته خاصة أن خاله قد عمل على توفير كل المستلزمات والإمكانات المطلوبة له، وقام بإلحاقه بالدراسة في إحدى المدارس الصينية الموجودة هناك ليسلك به مسلكاً آخر في التعليم مخالفاً لما هو معهود ، فأضاف هذا الأمر تمرداً آخر لأنه يعد خروجاً عن نظام التقاليد المفروضة في التعليم الذي تتبعه هذه الأسرة ، والقائم على ضرورة التأهيل الفكري الديني العقائدي بالنسبة لأفرادها بدرجة أساسية .
هذا التناول البسيط قدم صورة مركزية عامة عن طبيعة المرحلة الأولى من حياة هذا الفنان ورسمت الخطوط الرئيسة للمنطلقات التي سيتم من خلالها تحديد مسارات التكوين المستقبلية للشخصية بأشكالها المختلفة ، إلا أن هذه الصورة العامة قد يكون فيها الكثير من الإبهام خاصة بالنسبة للمتلقي الذي لا يمتلك معرفة بالسيرة الذاتية لهذا الفنان بأدق تفاصيلها ، ولإزالة هذا الإبهام فإن الأمر يتطلب القيام بعرض ما تتضمنه هذه الصورة المركزية من أحداث وما تحمله في طياتها من وقائع ثانوية كان لها الأثر المباشر في صناعة هذه الرؤية العامة .
الطفولة في إندونيسيا
هنا نقف للاستماع إلى الفنان هاشم علي وهو يتحدث عن هذه المرحلة من حياته، حيث قال: لقد كانت طفولتي التي عشتها في إندونيسيا أجمل وأروع شيء مررت به في حياتي كلها ، وعندما أقول هذا الكلام فأنا أعني ذلك حقيقة بصدق وبكل ما تحمله الكلمة من معنى ، ولم تستطع أي مرحلة من المراحل الأخرى أن تحقق لي الإشباع الذي يمكن أن يصل إلى الحد الذي يتفوق أو يعادل تلك الحياة التي عشتها في طفولتي قرابة ثلاثة عشر عاماً التي قضيتها هناك على الرغم من بعض التعقيدات التي واجهتني في بدايتها فإنها ما لبثت أن زالت من طريقي حين تعهد خالي بتربيتي ورعايتي وسُمح له بذلك، وهذا لايعني أنني كنت تعيساً أو ما شابه ذلك عندما كنت مقيماً مع أفراد أسرتي في منزل العائلة ، بل على العكس من ذلك ، فقد حظيت بمحبة عظيمة ورائعة من الوالدين والآخرين ، ولم تكن الصعوبات التي واجهتها إلا فيما يتعلق بالنهج الفكري في التربية الذي يجعلك ملزماً باتباع نظم محددة يجب التقيد بها وتنفيذها وهذا ما يركز عليه الأب بصفة خاصة إلا أن سنك وعالمك الطفولي الذي أنت فيه والمحمل بكل متعلقاته الخاصة به يأبيان أحياناً الالتزام بأوضاع وأحوال يرى فيهما تعارضاً مع ما يدور فيه من أفكار سواء كان ذلك بدافع الفهم أو عدمه .
انتقالي للعيش في منزل خالي أتاح لي قدراً كبيراً من الحرية ومنحني الإحساس والشعور بالاستقلال الذاتي وإمكان التعبير عن كل ما أريده ، وقد ساعدني خالي كثيراً في الوصول إلى تحقيق هذا المستوى من الشخصية وكلفه ذلك الشيء الكثير من الناحية المعنوية والمادية فكان من الطبيعي أن أحيا طفولة مستقرة شعرت فيها بالأمان والاطمئنان وبالحظ الوافر من السعادة والمرح وكنت مفعماً بالحيوية والنشاط والحركة وساعدني ذلك في إمكان تحقيق الاكتفاء الروحي والحسي من كل شيء إلى الحد الذي قد يصل إلى الإشباع في كل ما مررت به في تلك الفترة بحيث إنه لا يزال راسخاً في مخيلتي إلى الآن وكأنه قد حدث بالأمس ، وهو دائماً معي لا يفارقني أبداً في كل لحظة أعيشها من لحظات حياتي أرى فيها باستمرار إندونيسيا مسقط رأسي ، ذلك البلد الجميل الرائع بكل ما يحتويه ، ولا سيما ذلك المكان الذي عشت فيه ( مدينتي جاوا ) تلك المدينة التي كانت بالنسبة لي وكأنها انعكاس لصورة الجنة المفقودة ، ذلك الحلم البشري الذي وجدت أنني أعيشه واقعاً ماثلاً بكل ما فيه من خضرة دائمة منقطعة النظير والمياه التي تحيط بك من كل جانب بأنهارها ووديانها وشلالاتها وتلك السماء الماطرة في معظم الأوقات والجبال الشامخة البديعة وحتى الأطعمة التي تتناولها فقد كانت على أصناف وأنواع متعددة وكلها تمتاز بذوق رفيع في الإعداد بحيث لا تدري من منها الأفضل والأجود ، وكذلك البشر وما هم عليه من طيبة ورحمة وغير ذلك الكثير الذي فيه من الجمال والروعة ما لا يوصف .. حتى المدرسة الصينية التي درست فيها إلى الصف السادس أحببتها حباً كبيراً ، ولم أنسَ للحظة واحدة معلمتي تلك الإنسانة الرائعة الباسمة الوجه التي ظلت تدرسني وتشرف على تعليمي بشكل متواصل لست سنوات متتالية من الصف الأول حتى السادس ، وأنا أُكنّ لها في نفسي محبة عظيمة كونها صنعت في داخلي كل مقومات البناء الأساسية لتشكيل الإنسان السليم الذي يستند من بدايته على قاعدة متينة وصلبة غير قابلة للاهتزاز أو التأثر بما يعترضها من ظروف ومحن ، وهذا ساعدني كثيراً في حياتي كلها وجعلني أعرف من أنا وماذا أريد .
مقولة عظيمة
هناك قول لهذه المعلمة لن أنساه أبداً كان بالنسبة لي وكأنها قدمت من خلاله خلاصة لمعنى الإنسان في هذه الحياة حيث قالت لنا ذات مرة : يجب أن تعرفوا أنه لا يوجد معلم باستطاعته القيام بإعطائكم العلم بأكمله أو كله ، وإنما عمل المعلم هو أن يقف بكم على بداية الطريق الصحيحة ويضع بين أيديكم المفاتيح الأساسية للعلوم وعليكم أنتم اكتساب المعرفة التي تمكنكم من التوصل إلى الدراية بكل ما في العلوم ، ومع كل يوم يمر من أيامي اكتسبت فيه معلومة تضاف إلى رصيدي المعرفي في أي مجال من مجالات الثقافة الإنسانية العامة كنت أتاكد فيه من قيمة هذه المقولة العظيمة ، وأدركت بالفعل أن أعظم ما في تلك الدراسة التي تلقيتها أنها وضعت بين يدي مفاتيح كثيرة لمناح شتى في العلوم والأديان والثقافات والفلسفات والحضارات واللغات والآداب والفنون وغير ذلك ، ويبقى أن أسمى ما في تلك الفترة من حياتي هو أنني بدأت بممارسة الرسم باستخدام الوسائل البسيطة كطريقة للتعبير عن إحساسي بكل مكنونات الجمال في هذا العالم الذي كنت أتمتع بالحياة فيه من خلال هذا المكان الذي يحتويني .
قُدر لهذه التجربة الإنسانية الطفولية الرائعة عدم الاستمرار والتواصل على المنوال ذاته الذي كانت سائرة عليه في المكان نفسه الذي الذي وجدت فيه وانتمت إليه ، والسبب في ذلك يعود إلى شيئين ، أولهما : قيام الأسرة بالتدخل في شئون ابنها من أجل تحديد مستقبله واتخاذها القرار بضرورة توقفه عن التعليم في المدرسة الصينية عند هذه المرحلة التي وصل إليها وأن الوقت قد حان لكي يسافر إلى مدينة حضرموت في اليمن من أجل الدراسة في «رباط تريم» ، حتى يتمكن من تعلم القرآن الكريم وعلومه هناك وقد أحدث هذا القرار تحولاً كبيراً في حياة هذا الفنان حيث غادر مدينته الجميلة وترك عالمه الرائع بكل ما فيه وهو لا يعلم بأنه يغادره إلى غير رجعة فلم يستطع حتى زيارته ولو لمرة واحدة في حياته ، ثانيهما : حينما تم اتخاذ القرار من قبل الأسرة بضرورة مغادرة ابنها إلى اليمن كانت هذه المسألة لا تزال بين مد وجزر ولم يتم حسمها بشكل نهائي بعد ، وظلت على هذا الحال فترة ، حتى حدث السبب الثاني والمتمثل في موت الأب مقتولاً من قبل أفراد في الحزب الاشتراكي ، قاموا باغتياله وقد عايش الابن هذه الحادثة بكل ما فيها من وحشية وألم ، فحسم هذا الأمر مسألة مغادرته إلى اليمن بشكل نهائي حيث طلب منه السفر إلى هناك مباشرة بعد قتل أبيه خوفاً عليه من ان يلقى مثل ذلك المصير ، ولكي يتمكن من إكمال دراسته في الوقت نفسه .
كان هذان الحدثان اللذان وقعا في نهاية هذه المرحلة بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير حيث نتجت عنهما ضرورة الامتثال لتنفيذ الحل الوحيد المفروض عليك بالإجبار من قبل الآخرين من أفراد عائلتك الذين نصبوا أنفسهم لاتخاذ القرار المناسب لك كما يرون بذلك ، ولا مجال معهم للمناقشة مهما كانت الأسباب والدوافع الداعية لذلك ، وهذا يعني أنه لا أهمية لأي خيارات أخرى مهما كانت نوعيتها حتى وإن كنت تجد فيها ذاتك وتعبر عما يخصك وما يعنيك . لذا كان لابد من الرحيل الحتمي الذي يجعلك ملزماً بالقيام بمغادرة المكان الذي انت فيه ومنتم إليه ، والانتقال للعيش في مكان آخر .. هنا نكون قد وصلنا إلى نهاية المطاف في عرض الأحداث التي جرت في حياة هذا الفنان وعاشها ضمن تلك الفترة التي مر بها في بدايته.
بين حضرموت وعدن
تلت هذه المرحلة الجوهرية العديد من المراحل الأخرى التي تدرج خلالها هذا الفنان وقد كان لكل واحدة منها طابعها الخاص الذي يميزها ، واحتوى كل منها على العديد من الأحداث التي لا يتسع المجال في هذا السياق إلى ذكرها بياناً وتفصيلاً ، وإنما سنحاول التركيز على أهم ما حدث فيها با ختصار شديد ، حيث كانت البداية من حضرموت خصوصاً مدينة تريم التي جاء إليها قادماً من إندونيسيا ، ومكث فيها فترة من الزمن من أجل تعلم القرآن الكريم وعلومه إلا أن طرق التعليم المتبعة والنظم الموضوعة لذلك لم تجد قبولاً لديه ورأى فيها تعارضاً مع المكنون الداخلي الخاص به والناتج عن التكوين الفكري المسبق الذي يؤمن به . لذا لم يطل به المقام كثيراً في هذا المكان الذي تركه وراح يبحث عن نفسه في شيء آخر وجده عند أستاذه علي علوي الجفري الذي تعلم على يديه فن النحت ، ثم غادر حضرموت وانتقل إلى مدينة أبين وأقام فيها عند أخيه الشاعر والصحفي الكبير المرحوم عبدالله علي عبدالله مولى الدويلة وفيها عمل بالعديد من الأعمال المهنية والحرفية من أهمها النجارة ، كما انصرف إلى الاهتمام بالجانب السياسي بعض الشيء . ثم انتقل بعد ذلك للعيش مع أخيه أيضاً في مدينة عدن ، وفيها أتيحت له الفرصة للتعرف على بعض الفنانين التشكيليين ، منهم الفنان العقيلي الذي تعلم عنده فن الرسم مع العلم أنه كان يمارس الرسم باستمرار منذ بداياته الأولى في إندونيسيا حتى هذه الفترة التي وصل فيها إلى عدن ، كما أنه بدأ في هذا الوقت ببيع اللوحات للأجانب المقيمين في عدن ، ووصل الأمر إلى أن بعض لوحاته بيعت بأسعار أعلى من أسعار لوحات العقيلي ذاته وبمبالغ لا تصدق ، كما زاد نشاطه السياسي وتعمق أكثر من ذي قبل وكان له فيه الكثير من الأحداث إلا أن الحال لم يدم به طويلاً في هذا الجانب ، وأدى به الأمر في نهاية المطاف إلى أن يصاب بصدمة قرر معها التوقف عن العمل السياسي نهائياً ، وإلى الأبد ، وهذا ما حدث بالفعل حيث لم يقم بممارسة أي نشاط سياسي آخر ، ولم ينضم إلى أي حزب من الأحزاب طيلة حياته ، وقراره هذا بالتأكيد لم يكن عشوائياً أو مزاجياً وإنما كان مستنداً إلى مرجعية مبنية على محتوى كبير من الرؤى الفكرية والفلسفية والثقافية .
البحث عن المدينة الأبدية تعز
بعد ذلك غادر مدينة عدن وانتقل منها إلى الشطر الشمالي من اليمن سابقاً ، وتنقل فيه بين العديد من المدن كالحديدة وإب وتعز وغيرها . يقيم في هذه فترة من الزمن ، ثم يغادرها إلى أخرى ، ثم يعود للإقامة في الأولى ، والسبب في ذلك يعود إلى أن هذه الحالة التي كان عليها هذا الفنان إنما تؤكد لنا أنه كان يقوم بعمل دراسة متفحصة ودقيقة لكل محطة من المحطات التي مر بها وتوقف عندها وارتبط معها بتجربة معينة ساعياً من وراء ذلك إلى إمكان التوصل إلى اتخاذ القرار الصحيح الذي يستطيع من خلاله تحديد الاختيار الأفضل للمكان المناسب والملائم له ، والمؤهل في الوقت ذاته بامتلاك العديد من المواصفات والخصائص والسمات التي تعكس صورة معبرة عن درجة كبيرة من التشابه والتوافق مع عالمه الداخلي بكل مكوناته الخاصة به حتى يتمكن من الاستقرار والعيش فيه . وبدون أدنى تردد أو إطالة في التفكير قرر الاختيار بعد أن وجد ضالته المنشودة التي بحث عنها طويلاً منذ لحظة خروجه من مدينة طفولته ، فكانت تعز الحالمة الرائعة الجمال هي المدينة المختارة التي أراد أن تكون مقر إقامته الدائم والأبدي ، وقد تحقق له ذلك حيث عاش مقيماً فيها طيلة حياته إلى أن وافته المنية ، ولكنه لم يفارقها أيضاً لا جسداً ولا روحاً ، كما أن الخلود الذي اكتسبه هذا الفنان ووصل إليه سيبقى سرمداً في ذاكرة التاريخ من خلال اقترانه بالحب الجليل والتوحد مع هذه المدينة المعشوقة .
مدينتان في مدينة واحدة
هذا التناول البسيط الذي استعرضنا من خلاله بشيء من التفصيل يعد جزاءاً يسيراً من حياة هذا الفنان في رحلته منذ بدايته التي كانت حتى النهاية التي وصل إليها يتضمن جزءاً كبيراً من الإجابة عن السؤال الأهم ، وهو لماذا اختار الفنان هاشم علي مدينة تعز دون سواها من المدن الأخرى ؟ وأما ما تبقى من الإجابة فإن الفنان نفسه سوف يجيب عنها ، حيث وجه إليه السؤال نفسه في إحدى المقابلات التي أجريت معه ، فرد على ذلك قائلاً : في تعز ، أشعر بأني طفل ، كل شيء ملكه ، يمكن ان أدخل أي مكان أي بيت ، أعتلي سطح الجيران ، أي شيء وكأنه ملكي ، ليس لدي إحساس بالغربة عن الآخرين والأماكن هنا ، ولا أشعر بالكلفة ، فهي مدينة سهلة ، بسيطة ، تعرفها سريعاً ، وتتوحد معها ، وتأنس بها وتأسرك بمشاعرك ووجدانك ، تعز ليست مجرد مدينة بالنسبة لي إنما أشعر فيها بأني طفل ، أتحرك فيها وكأنها ملكية خاصة بالنسبة لي بناسها ، بمؤسساتها وطبيعتها .. أنا أدرك هذه الميزات ، والآخرون الذين يستغربون إقامتي الدائمة في تعز لا يدركون ما أدركه ، ولا يعرفون ماذا أعيش في تعز ، فأنا أعيش فيها الكون كله ، أنا أمتلك الكون كله من تعز ! لقد عبر هذا الفنان من خلال استخدامه لهذه الجمل القصيرة بكلماتها البسيطة عن المدى العظيم الذي وصلت إليه العلاقة الموحدة القائمة بينه وبين هذه المدينة مجسداً قوة ذلك الارتباط الوثيق بفيض غزير من المشاعر والأحاسيس الحقيقية الصادقة التي صار محملاً بها في فكره ووجدانه تجاه مدينته التي سلبته لبه وسحرته بجمالها الفتان وروحها العذبة النقية بكل ما فيها ، الأمر الذي خلق بينهما أسمى آيات الحب الجليل فصار كلٌ منهما للآخر العاشق والمعشوق في الوقت ذاته ، هكذا كانت تعز بالنسبة للفنان هاشم علي ، مدينته التي تجاوزت كل معانيها الحسية البسيطة لتغدو فيضاً جليلاً مقدساً من التشكل الروحي الذي سرى فيه وسكن كل أعماق روحه فصار هو هي ، وصارت هي هو ، لتكون بهذا المعنى السامي الذي وصلت إليه انبعاثاً جديداً خاصاً بهذا الفنان وحده دون غيره ، وتمكنت بفضل هذه المكانة العالية التي تبوأتها من تجاوز كل الحدود التي وضعت لها منذ البداية على اعتبار أنها دخلت في خصوصية الاختيار الخاص بهذا الفنان كمعادل موضوعي بديل فيه الكثير من صور التشابه والتطابق والتماثل مع مدينة الطفولة التي غادرها مكرهاً وراح يبحث عنها في غيرها حتى تمكن من إيجادها مرة أخرى في الزمان والمكان المناسبين ، ولعل هذا ما كشف عنه الوصف والتوصيف الدقيق والشامل الذي قدمته الإجابة التي تحمل في طياتها الكثير من الأفكار المعبرة عن تكويناته الخاصة المرتبطة بعالمه الداخلي المتعلق بماضيه ، وبتلك المدينة التي فقدها في طفولته وهذا الأمر هو الذي جعل الارتباط وثيقاً ومتوحداً بين مرحلتين مختلفتين في حياته ، لذا فقد أجاب وكأنه يتحدث عن مدينتين قد تم دمجهما في مدينة واحدة أصبحت ملكية خاصة بالنسبة له ، وبهذا يكون قد تفوق على نفسه ، وتغلب على إحساس الفقد الذي ظل يعانيه كثيراً .
وفي هذه المرة لن تستطيع أي قوة مهما كان نوعها إجباره على ترك مدينته التي صنعها بنفسه ، أو تطلب منه مغادرتها ، لذا ظل وسيظل مقيماً فيها دائماً وأبداً لا يفارقها ولن يفارقها ما دامت قد افترشت قلبها لينام فيه نوم سكينته الخالد ، لتدلل بذلك على استمرار رحلة أزلية من الاحتواء المتبادل يبقى فيها هو وحده فقط نبضها السرمدي الذي يمنحها حياة دائمة مفعمة مليئة بالحب والفن والنقاء والجمال .. عند هذا الحد نجد أن تعز هي الأخرى استطاعت أيضاً التفوق على ذاتها ، وسمت بنفسها سمواً عظيماً لم تقبل معه بأن تقوم بلعب دور المعادل البديل المماثل فقط ، وإنما تجاوزت ذلك بالتدريج شيئاً فشيئاً حتى تمكنت من الوصول إلى غايتها المنشودة التي صارت بها متربعة على عرش السيادة في الاحتواء وستبقى كذلك . لذا فمدينة تعز بالنسبة للإنسان الفنان هاشم علي هي المدينة التي جعلته يشعر دائماً بأنه لم يفقد شيئاً أبداً في حياته كلها ، على الرغم من المكانة العظيمة التي حظيت بها مدينة طفولته في نفسه ، إلا أن تعز برهنت بذلك على أنها المدينة التي احتوت وضمت بداخلها كل المدن الآخرى في العالم ، لذا فإنه من السهل عليك وأنت تنعم بالإقامة والحياة فيها أن تعيش الكون كله من تعز ، وأن تمتلك الكون كله أيضاً .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.