صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كبير التشكيليين اليمنيين هاشم علي: أنا أب فاشل!
نشر في سبأنت يوم 08 - 11 - 2009

في البدء كان الجمال، في البدء كانت الريشة، في اليمن كان هاشم علي مبتدى التشكيل، ومنتهى اللوحة، وبينهما منح اللون حياة، والخط روحا فتجيء أعماله "مؤنسنة" حتى الثُمالة.
نسج قصيدة التشكيل على إيقاع لحن الحياة ليطرب بمعزوفة الفن قلب الواقع، لكنه واقع تجاوز به المقاييس والضوابط الأكاديمية، ليس لكونه فنانا بالفطرة لم يلتحق بفصول التعليم النظامي، وإنما لأن موهبته تجاوزت بخلفيتها الفكرية ورؤيتها البصرية وعي وإدراك المدرسة الواقعية بوظيفة الفن ودور الفنان إزاء الارتقاء الجوهري الإنساني بجمال الواقع.
إنه صاحب "الإلياذة" التشكيلية اليمنية: قائد "الملحمة"، التي انتصر فيها هذا البلد للتشكيل، بعد ما كان المجتمع يرفض هذا الفن ويحرمه ويقصيه، وأستاذ "المُحتَرَف" الذي تخرجت فيه أسماءٌ كبيرة، تُشَّكِل اليوم نخبة الصف الأول والثاني في المشهد التشكيلي اليمني المعاصر.
إنه "هاشم علي"، المغامرة الأولى في مسيرة التشكيل اليمني المعاصر، وقبل ذلك هو الفصل الأول في تاريخ الحركة التشكيلية اليمنية الحديثة.. فعلى الرغم من أن هذا الفنان لم يكن مبتدأ فعل وخط سير هذه الحركة إلا أنه في نظر دارسي ومتناولي تاريخها كان "الفاتحة" في كتاب منجزها، هذا المنجز الذي صعد سريعا بتجربة الفنان لتتقاطع بوعي مع التجارب العالمية لتفردها بمعرفة واعية صادقة بوظيفة الفن امتزجت بوعي معرفي شفيف بقيم الجمال.
في خلفيته الفكرية ورؤيته البصرية تجذّرت قوة الفن كوظيفة يسهم بواسطتها الفنان في صناعة التغيير من خلال سعيه نحو تعزيز التوازن الجمالي الإنساني الداخلي لدى المشاهد، وهو توازن ينعكس تأثيره آليا في إسقاطات هذا المشاهد على واقعه سلبا أو إيجابا، ومثل هذه الوظيفة تستدعي من الفنان صدقا خالصا في تعامله مع حقائق الواقع ووعياً عاليا بماهية الجمال ودأبا يتواصل نحو التجديد من خلال المعرفة والتجريب وصولا إلى تجاوز الذات الفردية الأنانية والتحاما بذات المجموع، ومن ثم الانطلاق كنوع وليس كرقم يخاطب الواقع ويعكس تحولاته من خلال إدراك شفيف لمكامن الجمال وفهم عميق لماهية العلاقة بين القديم والحديث، الجمال والجميل، الشكل والمحتوى بما يتجاوز به نمطية تلك العلاقة في التعامل مع عناصر العمل الفني وصولا إلى صياغة ابتكارية إبداعية تقدّم الحقيقة الواقعية، وإن كانت عناصرها مأخوذة من البيئة الاجتماعية، برؤية حديثة (شكل جديد) تشعر معها كأنها خلق جديد؛ لكنها في حقيقتها هي جوهر تلك الحقيقة البصرية. بمعنى آخر هي الحقيقة الخفيّة في جمال الواقع. من هنا جاءت لوحة (هاشم علي) متجاوزة للحقيقة البصرية الواقعية بقياسات هو الوحيد من يضع محدداتها.
روحٌ تدب في كل شيء في لوحته. ثمة طاقة سردية عالية، تحيل اللوحة من خلال تلك التفاصيل اللونية المحتشدة حول الكتل إلى مسرح تتطور فيه الأحداث وتتصاعد، بديناميكية ضربات الفرشاة واهتزازات اللون والخط، إلى مستويات تنضح فيها هرمونية اللوحة، معلنة بلوغ الحالة الوجدانية أسمى حالاتها. إنه فنان لامس شغاف العلاقة الحسيّة الحميمة بين الإنسان والجماد بعد أن ألغى المسافة الفاصلة بين الجزئي والكلي، الروحي والمادي، حتى إنك كمشاهد تجد نفسك من اللحظات الأولى قد اخترقت برواز اللوحة لتعيش مع شخوص الفنان حكايتهم.. إنها عبقرية هاشم علي.. (حياة في اللون)!
"أنت دمعتها الكبيرة المضيئة، فدعنا –إذن- نتملى ضحكة الدمعة تمشي بيننا؛ كي نبكي علينا! كي نقوى على الصعود إليك، وإذن فمن غيرك يدلنا علينا". كلمات على شاعريتها العالية استنطقت عظمة التجربة ومنحتها اعترافا بمكانتها، كلمات مقتطفة من كلمة قالها صديقه الوزير خالد الرويشان لدى افتتاح معرضه الثامن عشر عام 2004 بصنعاء، هذا الوزير الذي وصفه الفنان هاشم علي ب"عراب المرحلة"، كناية لما يشهده التشكيل اليمني منذ تولى الوزارة من رعاية واهتمام صار معها هذا الفن كأنه يعيش عهدا جديدا.
"هاشم علي" موهبة يمنية كبيرة تم اكتشافها وتحققها الفني. وإن هذه الموهبة -كما يقول الشاعر الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح: "قد منحت من العطاء أكثر مما تستطيع ظروفنا القاسية الجدباء أن تمنحه لذلك، فإن أول ما يفعله الإنسان أمام الوردة التي تنمو في الصحراء هو أن يحني رأسه أمامها احتراما لقدراتها الخارقة على المقاومة والثبات في وجه أقسى الظروف".
هذه الظروف القاسية رافقت رحلة الفنان منذ البداية فهو ولد عام 1945 وتوفي والده عام 1955 مما اضطره لترك دراسته بحثا عن لقمة العيش، انتقل من حضرموت إلى أبين، ومن ثم إلى عدن، وهناك تشكلت معالم هويته وتحققت رغبته بالاحتراف، وانطلقت رحلته في تعليم نفسه وتطوير موهبته ذاتيا، وعقب اندلاع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في شمال اليمن ضد النظام الملكي لاحت له الرغبة بالانتقال إلى هناك، فكانت تعز هي المدينة التي استقر فيها مقامه منذ عام 1963، وحتى اليوم، وما هي إلا فترة قصيرة من استقراره فيها حتى أقام معرضه الشخصي الأول عام 1967، فكان المعرض الأول من نوعه في الشطر الشمالي من اليمن (سابقا). ومن حينها ما تزال تجربته تثري نفسها وتثري الفن في عالمها، نظم إلى اليوم ثمانية عشر معرضا شخصيا، بالإضافة إلى أكثر من 45 مشاركة في معارض جماعية في اليمن وخارجه. فتح مرسمه لتدريس الفن التشكيلي عام 1970، وحصل عام 1971 على منحة تفرّغ كفنان من دولة الجمهورية العربية اليمنية سابقا، وفي العام 1986 ساهم في تأسيس جمعية التشكيليين اليمنيين، وانتخب رئيسا لها، وهو عضو مؤسس لنقابة التشكيليين اليمنيين، وقد حاز وسام صنعاء الذهبي من الدرجة الأولى، كما حاز وسام الدولة للآداب والفنون من الدرجة الأولى عام 1989، وفي عام 2001 حاز الدرع التكريمية لمؤسسة السعيد للثقافة والعلوم.
إنها قصة نجاح طويلة احترنا في تقديمها، كما احترنا في تحديد النقطة التي ينطلق منها حوارنا مع صاحبها. ولأننا ننشد حوارا يقول فيه ما لم يقله في حواراته السابقة رأينا حوارا نقرأ من خلاله ما مضى من تجربته، منطلقين إلى حكاية النجاح من قصة الفشل. فسألناه أولا :
* ما حدود الصراحة لديك؟
- فأجاب بعد لحظات صمت: لا حدود لها، إلا أنها تبقى نسبية أحيانا. إلا أن ما أقوله أكون صادقا فيه ومسؤولا عنه!
* حتى لو كان سؤالي الأول يطرق باب الفشل.. اقصد علاقتك بالفشل، فمثلما لكل إنسان نجاح يميزه هناك فشل يميزه. فأين هي محطة الفشل في حياتك؟ هل ثمة ما تشعر إزاءه بفشل ذريع يؤلمك باستمرار؟
- إنها مغامرة إذن ..
* يبقى لك الرأي والقرار في خوضها
- وما الذي يمنع.. (سكت واطرق صامتا للحظات قال بعدها: بصراحة، ثمة فشل وفشل كبير اعترف به. أنا عائلياً فشلتْ. اعترف بأني فاشل في حياتي العائلية، فحياتي العائلية غير ناجحة. أقصد بهذا حال أولادي (له ثمانية أبناء) فهؤلاء على الرغم من أن بعضهم قد صار عمره في الخامسة والعشرين إلا أن المستوى الذي وصلوا إليه يتعارض تماماً مع ما كنت أحلم به. فلم أجد واحدا منهم ناجحا ا يجعلني اشعر معهم إنني فشلت كأب. اشعر إنني أب غير مؤثر!
* وما الذي كنت تحلم أن يصيروا إليه؟ وما تقصد بأنك لم تجد واحدا منهم ناجحاً؟
- لقد كنت أحلم بأن أراهم عباقرة، ليس بالضرورة في الفن، وإنما في المجالات التي يختاروها لأنفسهم! لكن –للأسف- جاءت النتائج عكسية فلم أجد واحدا منهم ناجحاً! حتى على مستوى النجاح البسيط في الحياة المعتادة، فهو غير موجود.. وشعوري بهذا الفشل إزاءهم يجعلني أشعر بأنني إنسان ضعيف!
* وما تأثير شعورك هذا على عملك الفني؟
- لا أسمح بأن يمتد إليه، بل أنني عند ما اتحد مع شيطان الفن لا يشاركني معه أحد.
* نفهم إذن ألاّ علاقة لأبنائك بالفن؟
- إطلاقا.
* وفي تقديرك ما هي الأسباب؟ هل انشغالك بالفن هو أبرز أسباب هذا الفشل؟
- ربما. لكنني أخصص جزءا من وقتي لمحاورتهم، إلا أنني سرعان ما أعلن يأسي، مقتنعا بعدم جدوى هذه الحوارات.
* وهل تعتبر هذا الفشل ضريبة نجاحك الفني؟
- هذا في حال اتفقت معك في كوني نجحت فنياً أو إنني صرت فنانا ناجحا؛ لأنني لا أعتبر نفسي كذلك، بل إنني لا أعرف إن كنت قد دخلت عالم الفن أم ما زلت بعيدا عنه..
* أنه تواضع الكبار..
- ليس تواضعا لكنها الحقيقة.
* أي حقيقة؟
- حقيقة أن شعور الفنان أو المبدع في أي مجال بأنه قد صار ناجحا، يعني أنه قد وضع حدا لتجربته ومشواره الفني إن لم يكن هو في الأصل مصابا بعاهة في موهبته، تعيقها عن استكمال تطوير علاقتها بالفن وتعيق تجديد أداء وظيفته كفنان؛ فسؤال الفنان: هل قد صرت فنانا أم لا ؟ وشعوره بقصور في عمله يجعله يعيش (قلق النجاح)، ومثل هذا القلق هو المحفّز الذي تشتغل عليه همته ونزعته نحو الأفضل والأجد. نحو إكمال منجزه الفني.
* بالنسبة لمنجزك الفني: ما هو هدفه السامي الذي ما تزال تعمل تحت رايته؟
- الفن من أجل الواقع، من أجل خلق التوازن الإنساني الداخلي، على اعتبار أن هذا التوازن هو بذرة التغيير في الواقع الذي يجب أن يعكس الفن أحواله وتحولاته، ومثل هذه الوظيفة للفن لا تتحقق إلا من خلال الاستلهام الصادق لحقائقه وإعادة تمثل قيمها الجمالية وإعادة صياغة عناصرها برؤية إنسانية قادرة على نسج حوار روحي مع المضمون، مع الجوهر، مع الجمال الحقيقي، حينها يأتي العمل الفني مؤثرا قادرا على ترسيخ التوازن الإنساني الجمالي، إنه جمال الفن الذي اعتبره تجسيدا للواقع الجميل برؤية إنسانية.
* أنت تطرح كلاما كبيرا، فما الذي تحقق منه فيما مضى من تجربتك الطويلة مع الفن التشكيلي، وهي تجربة تصل إلى أكثر من أربعة عقود؟
-أولا: أنا لا أشعر بأني قد قطعت تجربة طويلة مع الفن التشكيلي؛ فما أنجزته حتى اليوم أشعر كأنما بدأت به أمس. فإحساسي بطول المُدة غير موجود. أما ما يخص ما تحقق من منجزي الفني فتحقيق أهدافه وتجسيد طموحاته مهمة لن تتحقق بجهد فردي بل تحتاج إلى تضافر جهود الجميع.
* نفهم أنك راضٍ عمّا حققته فيما مضى من تجربتك؟
- ليس بالرضى التام، لكني أشعر أن الفن قد أعطاني أهم شيء.
* وماذا أعطاك؟
- لقد أعطاني توازني الداخلي، إنسانيا وجماليا. ومثل هذا التوازن هو الذي امتلكت من خلاله عينا ثالثة جعلتني قادرا على الشعور بجمال الواقع وإنسانيته.
* أنت فنان عظيم. يشهد بهذا كل من يسمع لك أو يشاهد أعمالك. فهل ترى نفسك مثلما يصفها الناس؟
- بصراحة بقدر ما يسعدني هذا الكلام ويحفزني لمواصلة تطوير تجربتي حتى أكون عند حسن ظن الناس بي، إلا أنني لا أصدق ما يقوله الجميع عن تجربتي في كثير من الأوقات، وأحيانا تجدني لا أصدق نفسي! وقد يكون هذا ناتجا عن تعودي على سماع عكس هذا الكلام في طفولتي من قبل الآخرين، حيث كانوا يعتبروني ولداً فاشلا! وفعلاً أنا كنت فاشلا في الدراسة، إلا أن كُرهي للدراسة لم يكن لعجز منّي، وإنما لعدم اتفاقي مع أسلوب التدريس، أو أساليب نقل المعلومات من خلال المدارس حينها.
* وهل لهذا السبب تركت المدرسة؟
- نعم، بالإضافة إلى عوامل أخرى، منها: وفاة والدي.
* وهل كانت حينها موهبة الرسم قد أعلنت عن نفسها لديك؟
- نعم؛ فبداياتي مع الرسم ظهرت في طفولتي المبكرة، ومارستها سرا، وتدرّجت في ممارستها من استخدام الفحم إلى استخدام القلم إلى استخدام الفرشاة واستخدام الألوان المائية والزيتية، وهكذا.
* كيف استطعت بجهود ذاتية تطوير موهبتك متجاوزا مزايا التعليم النظامي؟
- أنا لم أتجاوز فوائد التعليم النظامي؛ لأنه مهما جنيته من التعليم الذاتي يبقى التعليم النظامي متميزا، لكن الإصرار والعزيمة على تعويض ثمار التعليم النظامي بجهود ذاتية وصولا إلى تحقيق ذاتي كفنان قد مدني بزاد المشوار. ومصدر ذلك الإصرار هو عشقي للفن ورغبتي في تحقيق ذاتي من خلاله.
* وما هي الروافد التي غذّت قوة الفن في داخلك؟
- تبقى الموهبة هي الأرضية الخصبة التي تثمر فيها كل جهود صاحبها، متى ما صاغ منها مشروعه وأخلص لها جهوده. لكن هذه الموهبة بحاجة إلى صقل والصقل إذا لم يتأتَ بالدراسة النظامية فبالممارسات اليومية والقراءات المفتوحة والمتنوعة والمتواصلة والتجريب الذي لا يتوقف، من كل ذلك تتولد تراكمات معرفية وخبرات عملية ثرية ترتوي منها نفس الشخص وينضج فكره وتتسع رؤيته ويتجلى وعيه وإدراكه لحقيقة دوره وماهية وظيفته. والفن هو المجال الذي يصدق عليه هذا التوصيف أكثر من غيره باعتباره يتعامل مع العقل والروح معا في مخاطبة الجمال بهدف خلق التوازن الإنساني. فمتى ما تجلت هذه الرؤية للفنان فإنه قد امتلك قوة الفن، إنها تجربتي! هكذا أخذت تتشكل في بداياتها من ممارسات يومية تدرجت من اللعب إلى الجد إلى التساؤل إلى السؤال إلى البحث إلى القراءة هنا وهناك. قراءة لم تتوقف عند الفن بل تجاوزته إلى الفلسفة والتاريخ وغير ذلك. قراءات تراكمت منها المعرفة، وممارسات يومية تشكلت منها الخبرات. كل ذلك ساعدني في أن أتلمس معاني الجمال وحقيقة الفن. حيث اتضح لي أن ثمة روحا جمالية تشع من كل شيء في الحياة. هذه الروح الجمالية تخاطبك، أو لنقل أنك أنت كإنسان من يقف وراءها، ولولاك لما كانت موجودة. إذن فأنت مصدر كل هذا الجمال، وأنت كفنان من يمكنه نظم حوار روحي مع هذا الجمال، واستنطاق حقائقه اللا مرئية واستخدامه كأداة من أدوات الخطاب والتغيير.
* نفهم من هذا أنك من بداية مشوارك الفني كنت تعي هذا وتدركه وتسعى إليه؟
- لا؛ فالفنان أي فنان يمر في بداياته بمرحلة تسمى "مرحلة البحث والتقليد"، فيظل يبحث هنا ويقلّد هناك، وصولا إلى اكتشاف ذاته، وهذه تمثل مرحلة لاحقة، لكنها تمثل مرحلة صعبة، وتعد اختبارا مهما للتجربة. فهو إن تجاوزها وأدركت ذاته كنه الجمال وماهية دورها إزاء الواقع تكون قد تجاوزت أنانية الذات الفردية والتحمت بذات المجموع وصارت جزءا من الكل، وهي عندئذ تكون قد نجحت وصار بها صاحبها فنانا كنوع لا كرقم.
* على الرغم من التحولات التي شهدتها تجربتك بقي الواقع مرجعها، لكنه مرجع يتمتع بخصوصية في علاقته مع الفن والجمال والإنسان. ترى ما هي الخلفية التي انتظمت على أساسها هذه العلاقة بخصوصيتها؟
- الواقعية من منظور أكاديمي هي أحد المذاهب الفنية، ومن هذا المذهب تنبثق مذاهب عدة، فهناك واقعية منظورة وهناك واقعية نقدية، كما توجد واقعية اشتراكية، وغير ذلك من المسميات والتعريفات المتضاربة وغير المستقرة في تحديد معناها. وكل هذه المذاهب -للأسف الشديد- تعاني من الضبابية وخلط المفاهيم في تعاطيها مع الجمال لدرجة ساد الاعتقاد بأن الجمال ما تأخذه من الواقع وتنقله، بينما الجمال الحقيقي هو الواقع الذي تصنعه أنت. بمعنى أنك قد تستلهم عناصره من الواقع، لكنك بأسلوبك الابتكاري في إعادة صياغتها تكون بما جئت به من شكل جديد قد صغت مضمونا جديدا، أي الواقع الذي ينبغي أن يكون، أي تمثّل الجمال الذي يكتنزه هذا الواقع. فهذه الرؤية هي المدرسة التي أرى من خلالها. أقصد أن الواقع هو كل ما هو جميل يحيط فيك، والجمال هو ما كان لك دور كإنسان في اكتشاف جوهره وصناعة أهميته. والفنان البصير عند ما يتعامل مع جمال الواقع فإن مهمته لن تكون نقل وتصوير جمال المنظور بقدر ما هي استنطاق جوهر جمال المنظور وتجاوز العالم الواقعي إلى خلق عالم جديد من فعل الإبداع الإنساني، فيتجاوز بتأثيره لحظات المشاهدة إلى حفر معانيه في داخلك لوقت أطول، معززا فيك التوازن الجمالي الإنساني، محفزا إياك نحو الإسهام في خلق ذلك التوازن في واقعك. وأنا هنا لا أنكر تأثري بقراءتي الفلسفية، لكن لا يعني هذا أن هذه ليست وظيفة الفن ودور الفنان إزاء الواقع.
* وماذا عن اهتمامك بالإنسان وكل ما هو إنساني كموضوع لهذا الواقع؟
- أي مبدأ جمالي بالضرورة يرتبط بالإنسان فهو منه وله ومن أجله. ولهذا تجد الإنسان هو من يصنع أهمية جمال أي شيء في الحياة، فهو من صنع أهميّة جمال الفراشات وجمال البحيرات وجمال النخيل وجمال كل شيء، وبالتالي فكل ما هو جميل هو إنساني، وبدون الإنسان لن تستنطق جمالا أو تحاوره أو تصنع من خلاله توازنا جماليا لدى الإنسان. ولا تنسى أنه بقدر ما يكون عليه هذا التوازن الجمالي داخل أي فرد تكون إسقاطاته على البيئة، سواء سلبا أم إيجابا، فالفرد عند ما يستحضر الأشياء القبيحة فهو يعكس وضعه الداخلي ويسقط هذا الوضع على البيئة بشكل آلي.
* منذ التسعينيات شهدت تجربتك الزيتية والجرافيكية مرحلة مختلفة تبلورت فيها رؤيتك وأسلوبك في صياغة لونية وخطية معقّدة تحمل انساقا يمكن القول إنها تخصك وحدك.. بمن تأثرت في هذه التجربة؟ وكيف تأتى لك؟
- على الفنان أن يظل في حالة بحث مستمر لتجاوز قيود النمطيّة المُملة في كل أدواته ووظائفه وحرصا على تجسيد التنوع في إمكاناته حتى يبقى متجاوزا حالات الضعف والتراجع. لكن على الفنان أن يتحلى بقوة ثورية تمكّنه من تحقيق ذلك التجاوز والخروج على النمطية، لكن هذا الخروج يشترط فيه أن يكون مدروسا وقائما على معرفة، ما لم فسيتحول الفنانون إلى مشعوذين. من هنا أوضح إنني ظللت ومازلت أمارس التجريب واكتشاف الطاقات الكامنة في اللون والناتجة عن مزج الألوان، ولعل ما وصلت إليه هو نتاج لذلك التجريب، وذلك التجاوز، لكنه تجاوز مدروس قائم على معرفة بمكونات الألوان وطاقاتها وإمكاناتها التأثيرية ومحصلة ارتباط نفسي حميمي قوي باللون.
* في خضم هذا الاحتفاء اللوني الذي تبتهج به لوحتك يتجلى اهتمامك بالتفاصيل اللونية إلى حد تظهر معه اللوحة كمسرح حكائي. بماذا تفسر حرصك على ملاحقة التفاصيل وحشدها في لوحتك إلى هذا الحد؟
- أحيانا تمثل التفاصيل الدقيقة عناصر أساسية في مكونات الجمال المنظور بما لا يمكن للفنان تجاهلها، كما أنه بدون اللون لن يتمكن الفنان من التعبير عن تلك التفاصيل واستنطاق جوهر جمالها. فمثلا عند ما تريد إبراز القيم الجمالية لمدينة تاريخية فإن الزخارف في مبانيها هي أبرز عناصرها الجمالية، وبالتالي فأنا عند ما أرسم جمال المدينة فأنا أرسم جمال المباني، وعند ما أرسم جمال المباني فأنا أنشده من خلال جمال الزخارف. إذن فيه هنا توافق لا يمكن تجريده. فالتجريد مطلوب في بعض الأوقات، لكن في كثير من الأوقات عند ما تنشد الجوهر الجمالي تبقى التفاصيل هي اللغة، واللون هو ترجمان هذه اللغة.
* ما المراحل التي تمر بها اللوحة لديك حتى تصير عملا فنيا كاملا؟
- يحصل دائما البحث عن إيحاءات موجودة في البيئة الاجتماعية والطبيعية ثم يتم إعادة صياغتها تكوينيا وتشكيليا.
* أجمل لوحة؛ هل رسمتها أم أنك لم ترسمها بعد؟
- هذا سؤال وجيه جدا. وبالنسبة لي لا استطيع الإجابة عليه لأن لي مع جمال اللوحة قصة مختلفة فإنا عند ما انتهي من اللوحة أشعر بسعادة غامرة، لكني بمجرد أن أوقّع عليها أبدأ أفكر بلوحة جديدة لأرسمها، وعند ما انتهي منها أفرح كثيرا، وهكذا.. لا أجد لنفسي لوحة أرى أنها أفضل ما رسمت.
* ألم يئن الأوان لكتابة مذكراتك؟
- لا. ولا أعتقد أنه سيحصل؛ لأن لا وقت لديّ للكتابة، فجُل اهتمامي منصبٌ في الرسم والتجارب.
* رغبتك التي تعلنها عبر "دبي الثقافية"؟
- شاركت بمعارض في عواصم عربية وأجنبية وسمعت وقرأت عن دبي ما يجعلني أتوق إلى أن أضم هذه المدينة إلى قائمة مشاركاتي الخارجية.
صحيفة السياسية + دبي الثقافية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.