كثير ما يرتبط المبدع التشكيلي بعلاقة متلازمة وعضوية بالقلق .. وجنون السعي الدؤوب للإجابة على أسئلة تستفزه وتثير لديه مشاعر قد يراها البعض متضاربة ومتناقصة ، لكنها في حقيقة الأمر وفي تلك اللحظات تنسق ذاتها حتى تجد كينونتها.. ومن تلك الأسئلة الأزلية .. من أنا ؟ .. ماذا أكون ؟ وماذا أريد ؟ وهل يمكننا تشكيل الواقع وتخليصه من كل أشكال القبح ؟ .. وما هو دور اللون / اللوحة في تنمية التذوق الجمالي في المجتمع ؟ وديناميكية التغيير باتجاه أنسانية الإنسان ؟! أسئلة كتلك وغيرها .. هي الطاقة والروح المتدفقة في شرايين الفن الصادق الجميل.. قلق رائق .. مختلف قفْ مغمض العينين ، تنسم الهواء ببذئ وتلذذ ، رتب الصور والمشاهد الأتية : عصفور ملون يحلّق في سماء زرقاء صافية ، خضيرة تغسل وتكسو الجبل أمام؛ ، وشمس غاربة ترسل شعاعها الأخير ببرتقالية محمرة ، ثم ستارة بيضاء تنشال من السماء تداعبها نسيمات هادئة .. مد ذراعيك وحاول بهدوء تلمس الهواء أمامك وخذ قطفه منه .. خذ نفساً عميقاً وأطلقه كعصفور ببطء شديد .. ثم افتح عينيك لطفل داعبه ضوء النهار، هذا ما يمكن النصح به الكثيرون لتجاوز قلق ما ،، وإعادة الهدوء والسكينة للنفس ، لكن المبدع / الفنان التشكيلي حينما يخاضره القلق أو تحاول الأسئلة خنق ملامح وجهه فإنه يلجأ الى سماء فنه ولوحته وألوانه .. يحاور فكرته .. يجادلها .. يبحث معها وبها بصيص الاجابة . الأمل وتظل تلك الفكرة تتولد وترتب ذواتها على قماش اللوحة ..وفي ذات المبدع التشكيلي ايضاً بنسق متوافق. هذا الإبداع / الخلق القائم على المجاهدة واعتماد الفكرة والبحث والقلق عن الحقيقة هو من يصنع جمال العمل الفني ، ويربطه بالحس الإنساني ، فكل لوحة . عمل فني ويدمن رحم الإبداع وكانت لحظات تكونه وجنينيته صادقة .. قلقة باحثة عن الحق والحقيقة يكون ذلك العمل الفني / اللوحة جميل .. يشعر معها كل متذوق بأنه من رسمها أوأنها وردة نابت من ذاته هو .. أما العمل الفني /اللوحة التي تولد مشوهة لاعلاقة لها بالصدق وقلق الإنسان الأزلي .. فإنها لحظة جارحة للعين ينفصل عنها المتذوق لحظة وقوع نظره عليها كأنه يتبرأ منها كعمل معاق وكسيح .. قلق الفنان المبدع .. قلق الإنسانية .. قلق الإنسان .. قلق جميل ، لاصلة له بالتوتر أو بالنظرة السلبية للمجتمع تجاه «القلق» كمحمول نفسي سيكولوجي مرضي ، بل إنها لحظات بحث في بحر الإبداع والجمال ، لحظة تشكيل هذه الحياة والمشاركة فيها ورفض كل ما هو قبيح فيها. فالمبدعون / التشكيليون هم نهر حب يتدفق في هذه الدنيا وينشر على جانبيه الحياة والجمال ، أما الراكدون فإنهم مياه آسنة إن لم يموتوا فإنهم ينشرون القبح والمرض والموت والعفن حولهم. اللوحة القلقة ... أوجه مختلفة وتظل لحظات القلق لدى المبدع / الفنان متواترة ولاتخبو جذوتها فهي لحظات تجدد وخلق دائم.. ويبقى الفنان التشكيلي في لحظات بحثه وقلقه يريد أن يصل إلى رسم لوحته الكبيرة ، بل إنه كلما أنجز لوحة تشكيلية يتوق إلى أخرى وهكذا حتى آخر لحظة من عمره. وهو يشعر بأن لوحته التي أنجزها للتو وبعد لحظات قليلة لاتزال بحاجة إليه وكأنها لم تكتمل بعد. فالفنان الذي يشعر أن لوحته اكتملت هو في الحقيقة فنان زائف وهش .. فاللوحة حتى وإن اكتملت فنياً فإنها في نظرنا لا تزال بحاجة إلى التفكير وسد الفراغات الفنية التي تحفزك كفنان تشكيلي لرسم لوحة أخرى وهكذا مثلك كمثل الذي يبحث عن الحقيقة في ذاته ، إن ادعى بأنه وجدها فإنه يكتشف بأنه في سراب مطلق فالحقيقة لا يمكن أن يملكها أحد. وإننا في لحظات بحثنا عن الحقيقة نعيد بناء ذواتنا التي خربها الإنسان بنفسه. فإذا كانت للحقيقة أوجه مختلفة فإن للوحة القلقة الصادفة قراءات ورؤى متعددة ومختلفة. جوجان ... الفنان القلق ويمكننا أن نعزو ، تجذر العمل / الفنون في حياة الإنسان نتيجة الارتباط الوثيق بين العمل الفني والقلق والبحث عن أسئلة جوهرية إنسانية .. هذا التلازم هو مايدفع بالفنان التشكيلي للبحث عن رسم لوحته الكبيرة أو خلاصة عطائه التشكيلي. بول جوجان ، (Paul Guguin) (1848ه - 1903م) هذا الفنان العظيم رسم لوحة «من أين نحن ومن نكون وأين نذهب ؟» واعتبرها كثير من الدارسين خلاصة تجاربه والتي وضع فيها كل طاقاته وامكاناته الفنية وهي في نظرهم ذروة انتاجه الفني. وقد جاءت بعد رحلة فنية طويلة لهذا الفنان العظيم والذي تميزت ملامح حياته الفنية بالتمرد والبحث والتجريب. فلم تنقض سنوات على قبول عمله الفني لأول مرة للعرض الرسمي في باريس حتى يقرر «جوجان» الانتقال إلى قرية نائية في منطقة بريتاني (Britaby) وعزمه على هجر الوسط الاجتماعي البورجوازي الذي يحيطه في باريس والعودة إلى الحياة البسيطة البدائية بحثاً عن الذات والإجابة على أسئلة ظل يبحث عنها بقلق لذيذ.. ولم تمض فترة من الزمن حتى عزم على الرحيل إلى جزر (المارتيتك) في بنما بأمريكا الجنوبية وهناك صاغ وأبدع الكثير من أعماله التشكيلية رغم المصاعب المالية والمتاعب والاحباطات التي وجدها هناك. وعند عودته إلى باريس ثانية حمل معه العديد من الأعمال الفنية التي رسمها هناك بشرت بالخروج عن المدرسة التأثيرية والتي ظل مرتبطاً بها لفترة من الزمن. وأظهرت هذه الأعمال أسلوبًا جديدًا تلخص في تبسيط الألوان والمبالغة في إبراز التضاد اللوني مع التحديد الخطي للإشكال ، وابتعد في أسلوبه ذلك عن الطبيعة كاشفاً الستار عن نسق جديد وهو الاعتماد على مخيلة الفنان.. وكان يقول : بأنه على المرء أن يبحث في التصوير (التشكيل) عن الاشارة والايحاء كما في الموسيقى وليس في الوصف والتقرير.. هذا الفنان القلق لم يستقر به المقام في باريس طويلاً حيث رحل ثانية متوجهاً إلى جزر «تاهيتي» والتي آبحر إليها عازماً عدم الرجوع مرة أخرى الى باريس عام 1893م وقال عنها «تاهيتي : فما تبقى لي سوى أن أحفر قبري هناك حيث الصمت وبين الزهور.. وفي مرحلة «تاهيتي» تلك تميزت أعماله التشكيلية بالحيوية وبالثراء اللوني ورسم فيها نساء تلك الجزيرة بحب مفعم بالجمال والحسن الانساني.. وظل هذا الفنان رغم محاولته الانتحار والتي باءت بالفشل ، حتى آخر لحظة من حياته باحثاً عن الحقيقة .. قلقاً .. وصانعاً وخالقاً للجمال من خلال أعماله الفنية التي ابدعها .. حتى وافته المنية بعد أن انتقل إلى جزر (الماركيز) عام 1903م. فاللوحة عنده ظلت مكتنزة بالمعرفة والبحث عن الحقيقة ، مفعمة بالقلق اللذيذ ، سكرى بعشيق النساء الرائعات .. وكأنه قد وجد أن النساء هن صدق القلق والحقيقة الخاصة التي لا يرتوي المرء منها لجلال تلك الحقيقة ... هذا الفنان «بول جوجان» الفجري العصفور منح لوحاته الخلود لأنه عندما لامست الفرشاة قماش لوحته فإنه غمسها في أعماق روحه وقلبه الانساني .. وهو حينما رسمها رسمنا معه وسجل لها حضوراً أزلياً في ذاكرتنا وحياتنا المتعطشة للحب والجمال الانساني الخلاق.. üüü إلى ... رجاء :- « أنا ياضوء أحلامي بسمة شفتيك إن غدرتيني لحظة صرت شبه ريح تعصف بها الامنسات تحت أهداب نهديك ..» (م.ش) * فنان تشكيلي