بين لحظة الصغر ولحظة الانفجار مساحة قد لانراها بالعين المجردة، لكن حدسنا يقودنا إليها مغمضي العينين، وكذا في العمل الفني فإن حدسنا واحساسنا يقودنا باتجاه «خيانة محكمة...» للفن/ التشكيل، حينما نجد أن الفنان / المبدع وقف في منتصف الطريق.. وظل هناك حائراً، وكأن في فمه ماءً مثبتاً لمسمار أحمق.. لايعرف ماذا يريد.. وأين كان يقصد؟! فالحلم قرار نتخذه في ذواتنا، ونرسمه في مخيلتنا، قبل أن نطبقه في واقعنا، ونزرعه في حاضرنا «الآن». فقد يكون المبدع/ الفنان - كما يظن البعض - وكما يراه المجتمع متردداً في قرارته المعيشية أو الحياتية لكنه في لحظته.. الوجودية «والإبداعية فإنه يكون صريحاً وصادقاً وصارماً مع نفسه قبل غيره وبما يخدم فنه وإبداعه دون النظر لأية اعتبارات أخرى. *خيانة اللوحة.. موت فحينما نتكلم عن الخيانة الأدبية والفنية، فإننا نقصد مدى التزام المبدع/ الفنان بإنسانيته وشفافيتها ومدى اقترابها من مبادىء الحق والخير والجمال.. لا لأنه فنان أو مبدع بل لأنه بالدرجة الأولى إنسان وإنسان فقط.. فانسلاخ الذات الإنسانية وتسربها بعيداً عن الفنان، تحول ذلك الفنان/ المبدع إلى «آلة» عمياء متوحشة قد يسكنها الموت والصدأ قبل أن تكمل لوحتها أو تنهي نشر صباغ ألوانها على قماش اللوحة.. وهنا.. قد يجرنا الحديث عن «اللوحة الخائنة» والنص الخائن.. أو اللون الخائن أو اللحظة الخائنة. فاللوحة الخائنة كما أتصورها هي التي تحتضنك بشغف باتجاه موتك، فالإنجرار وراء «اللوحة التجارية» أو كما يقول البعض ب «متطلبات سوق الفن» كاللوحة السياحية وغيرها.. قد تمنحك المال والبريق الزائف، لكنها تمنحك «شهادة وفاة مؤجلة» فشعور الفنان/ المبدع بأنه صار سلعة في سوق يحتقره في ذاته، يولد لديه شعورًا بالذنب والاحتقار لنفسه تزداد مساحته يوماً بعد يوم، وهذا الشعور بحد ذاته مدمر ومخيف، وتظهر أعراضه المستقبلية بجفاف أو موت الفكرة لدى الفنان أو تكرار الفنان/ المبدع لنفسه وفي أعماله المختلفة.. ومن ثم موته ابداعياً وفنياً. *التشكيل.. والحاجة..! لايمكن الربط بين الفنان التشكيلي وانغماسه وراء اغواء «أو اغراء الحاجة، فالمبدعون والفلاسفة منذ أزمان بعيدة، رفضوا هذا الانجرار وهذا السقوط باتجاه الموت بالنسبة لهم، على اعتبار أن «الحكمة.. وبريق الذهب» لايجتمعان في غرفة واحدة، فالغاية لاتبرر الوسيلة، والفن والإبداع لايمكن الوصول إلى أسراره وأسمى حقائقه بالعلو فوق «زكائب» الذهب والفضة. ولايعني هذا بأن يعيش الفنان / المبدع فقيراً أو على شفا الحاجة، بل ألا يتخذ فن «اللون» أحجيات سحرية، واللوحة وسيلة للوصول للمادة فالفنان حينما يتحول إلى تاجر فإن الإبداع يموت بداخله، حتى وإن تراءى للبعض أنه فن أو إبداع فإن مايجدونه أمامهم سراب كاذب.. وقد يكون «بيكاسو» صورة واضحة للفنان الحقيقي والصادق والذي عاش ومات من أجل فنه، لم تغره المادة ولم يثنه الحب والنساء، ولم يعقه الألم والمجتمع عن تحقيق حلمه ولحظته الإبداعية والمصيرية بالنسبة له. *الفنان.. لايخون لوحته.. وذاته ولد «باينور ويز بيكاسو» عام 1881م في مدينة «ملقا» على الساحل الأندلسي من أسبانيا والتي غادرها وهو في التاسعة عشر من عمره باتجاه «باريس» بصحبة صديقه الرسام «كارلوس كاساجيماس». ثم عاد إليها مرة ثانية في عام 1902م، وأقام فيها مع صديقه «جاكوب» في غرفة وحدة عانا منها معاً الجوع والفقر الشديدين، رغم ذلك لم يلجأ إلى الانكسار والتراجع رغم جثوم حادثة انتحار صديقه «كاساجيماس» على صدره وسيطرتها عليه إلا أنه ترجم ذلك الألم وذلك المصير المحزن بالنسبة له في لوحته الشهيرة «الحياة Lavia» والتي يعتبر مصير صديقه أمراً مركزياً فيها والتي يصنفها البعض في المرحلة الزرقاء من حياة «بيكاسو» الفنية.. وقد تحاشى الفنان العظيم «بيكاسو» أن يقّدم تفسيراً لهذا العمل حين قال: «لستُ أنا الذي أعطي اللوحة هذا العنوان.. فأنا لم أعتزم بالتأكيد أن أرسم رموزاً، كل ماهنالك أنني رسمت صوراً برزت أمام عيني، وللآخرين أن يجدوا ما اختفى فيها من معنى..».. هذه الفجيعة بالنسبة للفنان «بيكاسو» لم تثنه أو تكسره كما قلنا على اعتبار أن الهروب والانكسار خيانة أخرى للإبداع والفن، بل إنها جعلته شعلة ألم وحب لصديقه «كاساجيماس» فأبدع إلى جوار لوحة «Lavia» عملين تشكيليين هما «المفجوعون The Mourners».. والتي يظهر فيها احتشاد أشخاص حول كفن مفتوح، و«استحضار Evocation» والتي يظهر فيها فجيعة أشخاص احتشدوا حول جثة ميت، بينما في أعلى اللوحة حصان أبيض يحمل روح «كاساجيماس». وكان «بيكاسو» كلما ضاقت به الحياة في باريس غادرها إلى أسبانيا، بعيداً عن مرتهنات قد يخبأها القدر له، فهو في حياته الباريسية والتي بدأت تستقر مادياً ونفسياً وعاطفياً، لم ينزلق وراء النساء والحب وبعيداً عن فنه، فهو طوال حياته وفي مراحله الفنية المختلفة الزرقاء أو الوردية،.. والتي كانت تؤرخ بدخول امرأة إلى قلب «بيكاسو» أو خروجها منه، لم يقدم تنازلاً واحداً في سبيل التضحية بفنه وبلوحته، بل كان يعاملهن صديقاته أو زوجاته بكل حب وانسانية، بل إنه ظل صديقاً حميماً لهن حتى بعد أن طلق بعضهن.. وكأنه بتعامله الإنساني معهن حدد معهن الخطوط العريضة لأسلوب التعامل بينه وبينهن، فقد كان «يخلو» بلوحاته في مرسمه مابين ثمان إلى عشر ساعات يومياً، وكان لايحب أن يزعجه أحد حتى أحب حبيباته، وكأنه يقول لهن: «إن اللوحة هي حبيبته وخليلته الوحيدة والأثيرة..». ولوحة «نساء افينو» وماتبعها والتي رسخت للمرحلة «التكعيبية» في الفن الحديث نموذجًا بسيطًا لما كانت تمثله «الأنثى/ المرأة» عند بيكاسو» لا جسد ولذة فقط، بل مصدر ومنبع للإلهام والإبداع وتشكيل الكون. فإذا كان «السرياليون» مالوا إلى استبعاد الشكل الإنساني، والذي برأيهم استنفذ امكاناته، إلا أن «بيكاسو» قد كدَّس نفسه وفنه لهذا الشكل إلى حد لايمكنه التخلي عنه، فهو ليس «فناً شهوانياً».. إذ أنه كثَّف من لحظات استنطاقه للجسد، إذ بدأ بالتعديل والتحوير للأطراف والملامح، وظهور الأعضاء الجنسية الأنثوية، واتخاذها أشكالاً مختلفة، وكانت تلك الأعمال رغم أنها تتضمن أموراً جنسية كما يدعيها البعض إلا أنها ليست عنها، بل إنها الامكانات الأخيرة لرسم الشكل الانساني.. هذا الانطلاق المتوغل بصدق في الذات الانسانية لم يتأت «لبيكاسو» لو أنه خان لحظته الشعورية والإبداعية وظل متوجساً من أحكام الآخرين، وظلت «المحددات» والخطوط الحمراء» هي الطاغية والمسيطرة على تفكيره. هذا الفنان والذي خلف وراءه ثروة فنية انسانية كبيرة، وجعلته الاسم البارز في عالم الفن التشكيلي، ليس لأن لوحاته تباع بأعلى الأسعار، بل لأنه كان إنسانيًا بالدرجة الأولى جاءه وحي الإبداع فأخلص له، فكان صادقاً مع نفسه وغيره وفنه ثم بلغ رسالة فنه للعالم من خلال ألوان ابداعه وتوليده «التكعيبية» والتي لاتذكر إلا به. هذا الفنان لم يولد فنياً إلا في لحظات ايقانه بأن خيانته للوحة للفن خيانة لنفسه وللبشرية جمعاء.. وكأن المثل العربي يلخص حاله.. «وهل يكذب/ يخون الرائد أهله».mothr [email protected]