متحف غوغّنهايم بنيويورك يستضيف أعمال عبقري الرّسم الإسباني المعاصر: بابلو بيكاسو.. بالأبيض والأسودغرناطة- من محمّد محمّد الخطابي: منذ شهرتشرين أوّل( أكتوبر) المنصرم وإلى 23كانون ثاني( يناير2013) يستضيف متحف' غوغّنهايم' بنيويورك معرضا كبيرا للفنّان التشكيلي الإسباني المعروف ' بابلو بيكاسو' تحت عنوان ( بيكاسو..أبيض وأسود ) ، يقام هذا المعرض الهام تحت إشراف الخبيرة الإسبانية فى فنون التشكيل'كارمن خيمينيث ' مديرة متحف القرن العشرين الإسباني، التي عهد إليها إختياراللوحات التي رسمها بيكاسو باللونين الأبيض والأسود بشكل خاص لتنظيم هذا التظاهرة الفنية الفريدة ،إنّها تشير فى هذا الشأن : ' أنّ بيكاسو قد إستعمل هاذين اللونين على إمتداد حياته الفنية الطويلة'،كما أنها تؤكّد أنّ رسمه للحرب بل لجميع الحروب طغى عليها اللّونان الأبيض والأسود فى إشارة إلى لوحته الكبرى الشهيرة عن الحرب الأهلية الإسبانية ' غيرنيكا'. غرنيكا إدانة للحروب وويلاتها.يضمّ معرض نيويورك 118 لوحة تمثّل فى الواقع معظم أعمال بيكاسو فى عالم الرسم والتشكيل والنحت والتي أنجزها هذا الفنّان فى التاريخ المتراوح بين 1904 و1972 . يقدّم بيكاسو فى هذه الأعمال نظرته الحالكة والحزينة عن ويلات الحروب وفظائعها ، حيث تتجلّى لنا فى هذه اللوحات المعاناة البشرية فى أعتم وأعنف وأقسى وأبشع صورها، فضلا عن تعابير ومشاعر الخوف والهلع والرّوع والموت والدماروالخراب التي تطبع جميع الحروب ، إلا أن هذه المجموعة الفنية تضمّ كذلك أساليب فنيّة أخرى إشتهر بها الفنان بيكاسومثل أعماله التكعيبية الذائعة الصّيت كذلك، بالإضافة إلى إبداعاته الفنية حول الطبيعة ، والموت، والوجوه ، وبعض الأماكن والأوراش التي كان يرسم فيها هو أو بعض زملائه من الفنّانين الآخرين، وتشير كارمين خيمينيث:' أن بيكاسو إذا أراد وضع عمل فنيّ كبير كان يلجأ إلى إستعمال اللونين الأبيض والأسود ، وهو بارع فى مزج وتوظيف هاذين اللونين بشكل خاص ،وكانت اللوحات المرسومة باللونين المذكورين يحتفظ بها لنفسه وكانت لديها عنده مكانة أثيرة فى نفسه ،كما كان لها معاني وتفاسير خاصة بالنسبة له'. وتضيف الباحثة الإسبانية فى هذا الخصوص : ' أن بيكاسو كان يوثر أستعمال اللونين الأبيض والأسود عندما يتوخّى إنجاز أعمال كبيرة، معقّدة ،متداخلة، ومتشابكة، إذ كان يخشى أن تشغله أو تثنيه الألوان الزاهية عن التفكير بشكل واضح، ويكثر هاذان اللونان عنده فى رسومات نسائه وغوانيه، وكذا عند رسمه للحروب ، فقد عانى بيكاسو الكثير من ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية ، ناهيك عن الحرب الأهلية الإسبانية'. عاشق اللّيل كان بيكاسو يعشق اللّيل ،وكان غالبا ما يرسم فى جنحه وغسقه ، حيث كان الليل يمنحه تصوّرا خافتا خاصّا للأضواء والظلال ، وكان يقترب بذلك من التصوير الفوتوغرافي، وبالتالي كان يدنو من ملامسة الواقع ومعانقته. وتكثر فى هذا المعرض الاعمال النحتية لبيكاسو، ومعظمها من اللون الأبيض لأنه كان اللون المفضّل عنده فى فنّ النحت خاصة رؤوس النساء، وتشير ' الباحثة 'دوري أشتون' فى مقدّمة الكاطلوغ الذي أعدّ خصّيصا لهذا المعرض : أن بيكاسو قال ذات مرّة:' إذا حرت يوما فى إستعمال الألوان فلا تتردّد فى إختيار اللّون الأسود'. إلاّ أنّ مزج هاذين اللونين هو الذي أعطى تميّزا خاصّا للوحاته، فاللّون الرّمادي هو لون إسباني بالدرجة الأولى ، ولقد إكتشفة ' مونيه' عند زيارته لمتحف ' البرادو' بمدريد عام 1865 فى لوحات 'دييغو فيلاسكيس'بشكل خاص(أنظر مراسلتي 'للقدس العربي' حول هذ الفنان الإشبيلي الكبير العدد 7251 الإثنين 8 تشرين الأول(أكتوبر) 2012) . ومن بين أشهر لوحات بيكاسو التي تعرض فى هذا المتحف :'المكوجيّة' (1904) و'السبّاحة'(1934) و'مدفن عظام الموتى'(1944) و' المطبخ' 1948) بالإضافة إلى لوحات أخرى عدّة لا تقل اهميّة عن السابقة . وتشير' كارمن خيمينيث' فى هذا الصدد : ' إلاّ أن هناك غائبا كبيرا عن هذا المعرض وهو لوحته العملاقة 'غيرنيكا 'وقد تعذّر إدراجها ضمن هذا المعرض لإستحالة نقلها لكبرها ،هناك لوحات أخرى أخذت مكانها فى هذه التظاهرة الفنية الكبرى التي يطغى فيها اللون الأبيض والأسود مثل ' صبايا أفينيّون' إلا أن لوحته' غرنيكا' تظل كما تؤكّد الخبيرة الإسبانية هي أحسن وأعظم لوحات بيكاسو فى الأبيض والأسود ، ولقد جعل بيكاسو منها لوحة لكل الأزمان ' وتضيف:' هذه اللوحة العظيمة هي إمتداد للتقليد الإسباني فى فنّ الإبداع التشكيلي عند ' فرانسيسكو دي غويا' فى لوحته الشهيرة كذلك '3 مايو' ولوحة ' السّهام ' لدييغو فيلاسكيس. وتشير 'كارمن خيمينيث' : 'أنّ لوحة غيرنيكا لبيكاسو لا يمكن حصرها فى الحرب الأهلية الإسبانية وحسب بل هي تعبير عن كل حروب العالم مثل الحرب الدائرة فى سورية اليوم أو أي حرب أخرى قد تنشب فى المستقبل ،فهي لوحة إذن صالحة لكل زمان ومكان'. وكان حريّا بالخبيرة الإسبانية أن تضيف إلى مثلها أو عرضها الحروب الجائرة والظالمة التي تختلقها إسرائيل فى غزّة المناضلة . هذه اللوحة على الرّغم من أنها تعكس الحرب وويلاتها ، إلا أنها فى العمق توحي للناظر إليها منذ الوهلة الأولى أنهّا لوحة توحي بالسلام أو تحثّ على السلام، لقد أصبحت هذه اللوحة فى نظر العديد من المتخصّصين جزءا لا يتجزّا من تاريخ إسبانيا المعاصر، ومع مرور الأيام وإنصرام السنين ما زالت لوحة 'غرنيكا' تقدّم للعالم رسالة نبذ الحروب، وإدانة صانعيها ، وفضح العنف ومرتكبيه ، ومهما قدّمت حولها من شروح وتفاسير فإنها ما فتئت تخفي أسرارها وخفاياها وقوّتها وعنفوانها. بيكاسو بين الرّيشة والقلم أضيف إلى الذخيرة الفنية الهائلة لبابلو بيكاسو في عالم التشكيل، ذخيرة من نوع آخر في مجال علم الجمال والإبداع، باعتباره كاتبا إلى جانب كونه رساما بهرت رسوماته العالم في العقد الأخير من القرن المنصرم. و لقد عثر في اسبانيا منذ بضع سنوات عن شذرات و مقطوعات نثرية و شعرية مجهولة من طرف دارسيه و المتتبعين لأعماله، ذلك أن بعض نصوصه الأدبية قد نشرت من قبل في فترات متباعدة، إلا أن نشر كتاباته مجتمعة في باريس في كتاب مستقل (دارغاليمار) في طبعة مزدوجة باللغتين الاسبانية و الفرنسية حسب اللغة التي كتبت بها فرنسية كانت أم اسبانية، قد لفتت أنظار الأوساط الأدبية و الفنية سواء في باريس أو مدريد نحو هذا الحدث الأدبي. إن كتابات بابلو بيكاسو قد أثارت من جانب آخر فضولا كبيرا لدى القرّاء و المتتبعين لفن و حياة هذا الفنان. و قد كشفت هذه الكتابات أنّ ثلثي من مجموع ما كتبه بيكاسو لم يسبق نشره قبل. و ننقل للقارئ فيما يلي من اللغة الاسبانية(من ترجمتي)، بعض النماذج الشعرية أو النثرية لهذا الرسام الكاتب الذي لم يكن يجيد إستعمال الريشة وحسب بل إنه أبدع كذلك فى إستعمال القلم كذلك. لن أرسم بعد اليوم و كتابات بيكاسو في الواقع إنما هي محاولة لترجمة شطحاته في عالم الإبداع التشكيلي، لذا فنحن واجدون في النماذج القصيرة التي نسوقها للقارئ، نوعا من الإفصاح العلني عن غاية كتاباته و أبعادها و مدى تداخلها و إقامة جسر بينها و بين رسوماته، و عليه فانّ كلمات مثل : الرّسم، اللون، الريشة، الليل، الغسق، الأصيل، المصابيح، النار، الدم، الطيور، الحمائم، الشمس، البحر الغاب، الهياكل، الديدان، الدموع، الثيران، الحراب و سواها مما يشكّل مفردات أو مواضيع رسوماته يكثر تداولها في كتاباته سواء كتبت بلغة الشاعر الأصلية الاسبانية أو كتبت باللغة الفرنسية و فيما يلي بعض هذه النماذج: لن أرسم بعد اليوم السّهم الجاعل من قطرة الماء هدفا له المرتعش عند الغسق عندما تصفّر مع الرياح السّاعة المكتوبة التي تتهادى بها الأرجوحة على أنغام ضحكاتها سأعضّ السّبع على خدّه أعطى، أقلع، أعوّج، أقتل، أخترق النيران، و أحرق، ألاطف، ألعق، أقبّل، أنظر، أقرع جميع النواقيس حتى تنزف دما - أرهب الحمائم و أجعلها تطير من فوق أعشاشها و تهوي إلى الأرض ميتة من الإنهاك أغلق جميع النوافذ و الأبواب بالتراب. و بسدائل شعرك سوف أخنق جميع العصافير الصادحة سأقطف جميع الورود، و ألهو بالحمل في يدي و أجعله يلتهم صدري سأغسله بدموع حبوري و همومي سأجعله ينام تحت أنغام عزلتي المشمسة سأحفر بماء النار حقول القمح و القرطمان حتى تموت في مواجهة الشمس و سوف ألفّ الأنهار في ورق الجرائد ،و القي بها من النافذة إلى الجدول و على الرغم من ندمه، إلا انه سيلملم ذنوبه و يمضي جذلا ضاحكا و يضع عشا له في بالوعة سأكتم صوت الموسيقى في الغاب. و أهشّمها على الصخور و أمواج البحر سأعضّ السبع على خدّه، و سأجعل ابن آوى يبكي حنانا أمام لوحة من ماء حيث يترك يده تتساقط فيه من غير إكتراث . (17 أيلول (سبتمبر)1935) عنقود من عنب من حجرة إلى حجرة تسبح هياكل الماء، قطاف عناقيد عنب محركة طبيخها تحت لباب الخبز، و الآلة الراقنة تلد القطط والفئران داخل قفص الذباب المتأرجح لتأجير جحور الديدان، و لسعات تورّد الخدود، تودع صديد قطعة الشمس الميتة والمنسية في ركن، خرقة حليفة و قطيفة الجواهر و تصفيفات الدموع تسرج المصابيح، و توقد مراجل حراب الثيران و رائحة سنبل الطيب. فليحرقوا اللهيب المتخفّي تحت الرسومات، و ليذهبوا به أسيرا خلف لطخات العوسج، ملوّثة الأصبع في صبغة لوز الزعفران، سابحة في مثلث شطّ أطراف اللّحاف الأسود، و السخام المتساقط من الزنارالأخضر يكبّل الزمرة المهتاجة في السّاحة. ولد بيكاسو فى 25 أكتوبر 1881بمالقة إسبانيا، وتوفّي فى 8 أبريل 1973 بفرنسا .