إن (الصورة) بوصفها مصطلحاً نقدياً أدبياً، هي وعي حديث يؤشر بالاسم (الصورة) على أساليب مختلفة عرفتها نصوص الأدب ووصفها البلاغيون منذ القديم مثل (التشبيهات) و (المجازات) و (الاستعارات) و (الكنايات) وما تثيره من قضايا ومشاكل في جهات المعنى واللغة والإبداع والقيمة الجمالية والوظيفة الأدبية. وحداثة التسمية لتلك الأساليب كما لا بد أن نفهم يؤشر بدوره على حداثة الفكر والمعنى الذي ينظر إليها نظرة مغايرة للقديم ومستدعية بالتالي لمصطلح دلالي، قادر على الوفاء بتلك النظرة وإدراج تلك الأساليب في إطاره، والامتداد إلى غيرها من خلال ناظم الدلالة الاصطلاحية للصورة, الذي يجعلها تنطبق، أيضاً، على الصورة الذهنية وعلى الرمز، مثلما يجعل دلالتها متجاوزة الإشارة على المعنى إلى تمثيله وتمثيل المشاعر والعواطف، ومن ثم تجاوز الوعي إلى اللاوعي والمفرد إلى الجمع حيث أنماط الصور وعناقيدها وحيث رموزها التي تشع من وراء حسية تشكيلها اللغوي بالدلالات العميقة وغير المحدودة. ولعل ذلك ما عبر عنه باشلار بقوله: “إن كل ما تحتاجه الصورة هو ومضة من الروح”وما سبقه إليه الرومانتيكيون، حيث كانوا يخلطون مشاعرهم بالصورة الشعرية، فيناظرون بين الطبيعة وحالاتهم النفسية. ويرون في الأشياء أشخاصاً تفكر وتأسى، وتشاركهم عواطفهم. القصيدة نفسها سلسلة من الصور الجزئية المتعاقبة أو المتداخلة، فالقصيدة الجيدة بدورها صورة، والصورة هي التي تكسب الشعر قدرته على التأثير والتجاوز، كما تمنحه ميزة تجاوز محاولات شرحه وتحليله، فضلاً عن إعادة تركيبه بعبارات نثرية وإن حاولت الحفاظ على المعنى فيقبض الشاعر بوساطتها على المعاني الكثيرة، والأسئلة الكبرى، والمساحات التي لا حدَّ لاتساعها في وجدان المتلقي، ويحشدها في بضعة أسطر، فيمتاز الشعر الحديث بأنه يتشكل من أسراب من الصور المتراكبة التي يصعب علينا أن نحكم بنهاية إحداها وبداية الأخرى؛ ويبرر كولردج لذلك بقوله: إن الشاعر يرى أن هدفه الرئيس وأعظم خاصية لفنه هو الصورة الجديدة المؤثرة.. وهو رأي صدق على الشعر فيعصر كولردج ويصدق على الشعر حتى اليوم، لكن للصورة اليوم دوراً أبرز وأهم مما كانت عليه بالأمس، فشاعر العصر الحديث قد وجد نفسه ووعى ذاته، واعتز بكرامة عقله، وفكره ولسانه، فلم يساوم عليها في سوق النفعية والنفاق، فبلغ الذاتية الاجتماعية حين نطق بلسان الجماعة، وتمرد نيابة عنها على الطغيان والنفاق والرق المادي والمعنوي، وضرب لنا مثلاً فذاً رائعاً للالتزام في الأدب، ورسالة الأديب الذي لا يفقد وعيه في دوامة الأبصار، ولايخطئ طريقه في داجي الظلمات، ولاتغفل عينه والناس نيام. وأول دراسة حملت مفهوم الصورة دراسة مصطفى ناصف (الصورة الأدبيّة)، إذ كان مغرماً بإنكار جهود القدماء، ونفى المزية والفضل عنهم؛ فهو ينكر أن يكون العرب قدعرفوا الصورة الفنية ‘بحجة أن النقد العربي القديم لم يعرف الاحتفال بالقوى النفسية ذات الشأن في إنتاج الشعر ( وأنكر اهتمام العرب بالخيال، والحق أن لدينا قراءات أخرى تكشف عن إهمال الخيال في النقد العربي أما الصورة في عرفها بقوله: إنها منهج فوق المنطق لبيان حقيقة الأشياء. وأكد محمد غنيمي هلال على ضرورة دراسة المعاني الجمالية في الصورة الفنية، يجب ضرورة دراستها في معانيها الجمالية، وفي صلتها بالخلق الفني والأصالة، ولا يتيسر ذلك إلا إذا نظرنا لاعتبارات التصوير في العمل الأدبي بوصفه وحدة، وإلى موقف الشاعر في تجربته، وفي هذه الحال لاتتكون طرق التصوير الشعرية وسائل جمال فني مصدره أصالة الكاتب في تجربته وتعمقه في تصويرها، ومظهره في الصور النابعة من داخل العمل الأدبي والمتآزرة معاً على إبراز الفكرة في ثوبها الشعري, ويرى أنّ النظرة القديمة للخيال كانت عائقًا في فهم الصورة؛ لأنّ القدماء لم يفرقوا بين الوهم والخيال. وتناول نصرت عبدالرحمن قضية الصورة، فدرس الصورة الفنية في الشعر الجاهلي من وجهة نظر النقد الحديث، ورأى أنّ الصورة من أشد قضايا النقد الحديث خطورة, وذكر أنواعًا من الصور، وهي: الصورة التقريرية: وهي التي لاتحوي تشبيهاً أو مجازاً. الصورة التشبيهية، وهي الصورة التي يتجسم فيها المعنى على هيئة علاقة بين حدين. الرمز الأيقوني، وهي الصورة التي تدل على صورة مادية بينهما علاقة تشابه. الاستعارة، ويبدو أنها واكبت البشر من الاعتقاد إلى المجاز. ومن أهم الدراسات النقديّة للصورة الفنّية دراسات عبدالقادر الرّباعي، إذ يجد القارئُ العديد من المؤلفاتِ تحمل هذا العنوان، ومن ذلك دراسة الصورة الفنّية في شعر زهير بن أبي سلمى، ودراسة الصورة الفنية في شعر أبي تمام، وغير ذلك من الدراسات التي نشرت في كتبٍ نقديّة أخرى. وأكدّ الرباعي ضرورة الصورة الفنية في العمل الفنّي، يقول: ‘إن القناعة التي تولدت عندي منذ التقيت بالصورة لأول مرة شدتني إلى هذه الوسيلة الفنية الجميلة التي أرى أنها يمكن أن تكون قلب كل عمل فني، ومحور كل نقاش نقدي, وقرن بين الصورة والخيال المتميّز، حيث قال: والصورة ابنة للخيال الشعري الممتاز الذي يتألف عند الشعراء من قوى داخلية تفرق العناصر وتنشر المواد ثم تعيد ترتيبها وتركيبها لتصبها في قالب خاص حين تريد خلق فن جديد متحد منسجم.. والقيمة الكبرى للصورة الشعرية في أنها تعمل على تنظيم التجربة الإنسانية الشاملة للكشف عن المعنى الأعمق للحياة والوجود المتمثل في الخير والجمال من حيث المضمون والمبنى بطريقة إيحائية مخصبة. ولعل غاية الصورة الأساس في الشعر هي التجسيد الذي يمنح الفكرة كياناً يتوقف عنده وعي المتلقي عبر مستوى من التأمل ومحاولة استظهار دلالاته وإيقاظها في الذهن بهيئة تستجيب لها مشاعره وحواسه، لأن الصورة الشعرية كيان لفظي ترسمه المخيلة بما يخرق المألوف لحساب الإبداع وفاعليته. وتتداخل طبيعة الحديث عن الصورة بالحديث عن الخيال الذي تصوره بعض النقاد مرادفاً لها، مع أنه في حقيقته عنصر يندرج فيها، ويضفي عليها فنية التعبير وفضاء التأمل الشاعري، وهو وسيلة لإنجازها، بما يجعلها أقدر على التميز والتأثير من الكلمات المجردة, فضلاً عن أن قوة الخيال هي مجال التميز والإبداع بين شاعر وآخر، لأن خلق الصورة من أي شيء يعتمد على القوة الخيالية لاستجابة الشاعر أولاً، وعلى المدى الذي استوعب به وعي الشاعر هذا المشهد أخيراً.. لقد اغتنت الصورة الشعرية بروح فنية جديدة لدى الشعراء الرومانتيكيين، هي نتاج إعلائهم قيمة الخيال ودوره في القصيدة حتى عدت نظرتهم آلية سمة أساس لاتجاههم الشعري، فهو –طبقاً لرأي وردزورث-أهم موهبة يمتلكها الشاعر. أما كولردج فعنده أن الخيال هو النشاط البالغ الحيوية للعقل, لأنه ذو صلة بالحواس التي تصدر عنها معارفنا الدنيا، ولكنه يستقل عن هذه الحواس في أنه يستطيع وحده أن يكوّن صوراً من دون ضرورة مثول الأشياء الحية أمامه, وقد وجدوا في الطبيعة قوة خلاقة تغني الشعر بصورها وتفتح للمخيلة..