أبرز المواد الدستورية التي أعلن أمير ⁧‫الكويت‬⁩ تعطيل العمل بها مع حل مجلس الأمة    مليشيت الحوثي تعلن فتح الطريق بين مارب والبيضاء من هذه الجهة    تعرف على نقاط القوة لدى مليشيا الحوثي أمام الشرعية ولمن تميل الكفة الآن؟    "صحتي تزداد سوءا".. البرلماني أحمد سيف حاشد يناشد بالسماح له للسفر للعلاج ودعوات لإنقاذ حياته وجماعة الحوثي تتجاهل    القبض على مُهرب مُخدرات في عتق: شبوة تُؤكد على سيادة القانون.    الحوثيون يتحركون بخطى ثابتة نحو حرب جديدة: تحشيد وتجنيد وتحصينات مكثفة تكشف نواياهم الخبيث    أنشيلوتي: فينيسيوس قريب من الكرة الذهبية    صباح (غداً ) السبت اختتام دورة المدربين وافتتاح البطولة بعد الظهر بالصالة الرياضية    الليغا .. سقوط جيرونا في فخ التعادل امام الافيس    هل الموت في شهر ذي القعدة من حسن الخاتمة؟.. أسراره وفضله    البدر يلتقي الأمير فيصل بن الحسين وشقيق سلطان بروناي    25 ألف ريال ثمن حياة: مأساة المنصورة في عدن تهز المجتمع!    وثيقة" مجلس القضاء الاعلى يرفع الحصانة عن القاضي قطران بعد 40 يوما من اعتقاله.. فإلى ماذا استند معتقليه..؟    اكلة يمنية تحقق ربح 18 ألف ريال سعودي في اليوم الواحد    مبابي يودع PSG الفرنسي    عملية نوعية تكشف خيوط هجوم إرهابي في أبين والقبض على المتهمين    محاولة اختطاف فاشلة لسفينة شرقي مدينة عدن مميز    وفاة وإصابة أكثر من 70 مواطنا جراء الحوادث خلال الأسبوع الأول من مايو    السلطات المحلية بالحديدة تطالب بتشكيل بعثة أممية للإطلاع على انتهاكات الحوثيين مميز    في رثاء الشيخ عبدالمجيد بن عزيز الزنداني    الذهب يتجه لتحقيق أفضل أداء أسبوعي منذ 5 أبريل    بسمة ربانية تغادرنا    من أقرب أصدقائه علي ناصر ومحمد علي أحمد.. وقت محنته تخلوا عنه    جماعة الحوثي تعلن ايقاف التعامل مع ثاني شركة للصرافة بصنعاء    بسبب والده.. محمد عادل إمام يوجه رسالة للسعودية    أبوظبي اكستريم تعلن عن طرح تذاكر النسخة الرابعة التي ستقام في باريس 18 مايو الجاري    ثلاث محافظات يمنية على موعد مع الظلام الدامس.. وتهديد بقطع الكهرباء عنها    عندما يغدر الملوك    قارورة البيرة اولاً    جزار يرتكب جريمة مروعة بحق مواطن في عدن صباح اليوم    أساليب أرهابية منافية لكل الشرائع    مهام العليمي وبن مبارك في عدن تعطيل الخدمات وإلتقاط الصور    المحطات التاريخية الكبرى تصنعها الإرادة الوطنية الحرة    حرب غزة تنتقل إلى بريطانيا: مخاوف من مواجهات بين إسلاميين ويهود داخل الجامعات    رئيس انتقالي شبوة: المحطة الشمسية الإماراتية بشبوة مشروع استراتيجي سيرى النور قريبا    متصلة ابنها كان يغش في الاختبارات والآن يرفض الوظيفة بالشهادة .. ماذا يفعل؟ ..شاهد شيخ يجيب    الدوري الاوروبي ... نهائي مرتقب بين ليفركوزن وأتالانتا    ولد عام 1949    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    هموم ومعاناة وحرب خدمات واستهداف ممنهج .. #عدن جرح #الجنوب النازف !    باذيب يتفقد سير العمل بالمؤسسة العامة للاتصالات ومشروع عدن نت مميز    دواء السرطان في عدن... العلاج الفاخر للأغنياء والموت المحتم للفقراء ومجاناً في عدن    لعنة الديزل.. تطارد المحطة القطرية    الخارجية الأميركية: خيارات الرد على الحوثيين تتضمن عقوبات    تضرر أكثر من 32 ألف شخص جراء الصراع والكوارث المناخية منذ بداية العام الجاري في اليمن    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    "صحة غزة": ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و904 منذ 7 أكتوبر    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    امتحانات الثانوية في إب.. عنوان لتدمير التعليم وموسم للجبايات الحوثية    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ميونخ ويواجه دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    البدعة و الترفيه    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصائد سعاد الصباح بين النسق الأنثوي وطرافة الترميز
نشر في الجمهورية يوم 23 - 07 - 2010

تفرض قصيدة النثر نفسها على الساحة الأدبية في الخليج بحيث يصعب تجاهلها. وهي تبدو عبر نماذجها الجيدة في حلة قشيبة من الصور الشعرية. ولعل الطرافة مما يسم صياغة صورها الفنية ويعطيها طابعها الخاص وشرعية وجودها إذ إنها تستعيض عن الإيقاع المؤثر بالصورة الحية التي تستفز إحساس القارئ عبر ألفاظها الموحية المعبرة.. وكثيراً ما تأتي الطرافة من غرابة الأجواء التي تكون مهاداً للوحة الشعرية. وإذا ما نجحت الصورة في أن تصهر أطرافاً متباعدة تصب فيها وترفدها بالجديد فإنها تفلح في أن تحفر لها مكاناً في أذهاننا فيصعب علينا نسيانها بل إنها تدهشنا بهيئتها الجديدة غير المتوقعة.
وثمة مفارقة تنطوي عليها هذه الدراسة إذ تتقصى أنماط الصورة البيانية الثلاثة (الصورة التشبيهية والصورة الاستعارية والصورة الكنائية) (1) وهي موصولة بالبيان ذي الجذور المتوغلة في أسلوب التعبير العربي المشرق منعكسة على نمط أدبي لعله يمثل أقصى الجديد في القصيدة العربية لاسيما أن هذه الدراسة تنتقي قصيدتين اثنتين للشاعرة الكويتية سعاد الصباح في مجموعتها الشعرية (امرأة بلا سواحل) حيث لم تلجأ الشاعرة إلى قصيدة النثر إلا من اجل مزيد من التنوّع والاختلاف عن نسق قصائدها القائمة على شعر التفعيلة أو تلك القصائد التي شاءت لها الشاعرة أن تأخذ شكل قصيدة الشطرين. وتنصرف هذه الدراسة إلى أسلوب تشكيل اللوحة البيانية في نسيج القصيدة بحيث يبرز جانب الطرافة قيد الدرس ويفرض حضوره بوصفه علامة فارقة للقصيدتين كلتيهما .
يشي عنوان قصيدة (بصمات) بأكثر من إيحاء وهو لا يفهم على الوجه الذي قصدته الشاعرة إلا بعد قراءة القصيدة كلها . بيد أنها أوحت ومنذُ المقطع الشعري الأول بهذا الاصطراع الحاد بين رغبتين تجتاحان كيان الشاعرة تطالعنا منهما إصرارها على أن تتخلص من هذا الساكن المتغلغل في أعماقها ولكنها وفي سياق بوح داخلي (Monologue)(2) تسترجع من خلاله تاريخ علاقتها مع هذا المعشوق – الذي قد يكون مثلاً أعلى أو قيمة سامية أو رمزاً – إذ تقول:
ماذا أفعل بتراثك العاطفي
المزروع في دمي
كشجرة ياسمين .
ماذا أفعل بصوتك الذي ينقر كالديك وجه شراشفي؟
ماذا افعل ببصمات ذوقك
على أثاث غرفتي؟
بتماثيل السيراميك المبعثرة في الزوايا
باللوحات التي انتقيناها معاً
والكتب التي قرأناها معاً
والتذكارات السياحية
التي لملمناها من مدن العالم
وبالأصداف التي جمعناها
من شواطئ البحر الكاريبي؟
قل لي سيدي:
ماذا أفعل بهذه التركة الثقيلة من الذكريات
التي تركتها على كتفي
وعلى شفتي؟ (3)
يحتضن الاستفهام عنقود الصور البيانية التي تضمنها هذا المقطع الشعري ، ومن شأن الاستفهام أن يوقظ إحساس القارىء لا سيما إذا ما تكرر أربع مرات (ماذا، ماذا، ماذا، ماذا) وقد خرج عن وظيفته الرئيسية وأدى دوراً تعبيرياً يشي بالحيرة فضلاً عن أنه ربط أجزاء المقطع الشعري برباط إيقاعي ودلالي يهيئ لدخول القارىء إلى رحاب التجربة الشعورية في هذه القصيدة . وتطل من خلال الاستفهام استعارتان مكنيتان طريفتان تجسم الأولى (التراث العاطفي) (المستعار له) نباتاً (المستعار منه). وتصير الثانية دم الشاعرة أرضاً وقد أفاض (التراث العاطفي) على اللوحة الاستعارية بدلالات تنم عن تاريخ المشاعر ورصيد الاحساسات عبر حياة الشاعرة.
وتشي القرينة الاستعارية (المزروع) بالتجذر والحيوية لا سيما أن مهاد هذا التراث العاطفي هو النسغ الحي الذي يعني تواصلها مع الحياة (دمي) . تلي هاتين الصورتين البيانيتين صورة تشبيهية مرسلة - تعقد الصلة بين (تراثك العاطفي) (المشبه) و (شجرة الياسمين) (المشبه به) –توحي باللون الناصع والعطر الفواح فضلاً عن الملمس الغض والقدرة على التواصل مع ضوء الشمس ومرور النسيم وحركة الحياة من حولها. وتغدق (شجرة الياسمين) على أرجاء هذه الصورة البيانية معنى رسوخ هذه الزهرة بحيث لا تبدو مجرد زهرة رقيقة يمكن أن تطوح بها الريح بل إنها شجرة قادرة على الوقوف في وجه العواصف والأعاصير . وإذا كانت (شجرة الياسمين) تنطبع بطابع بصري مستوحى من لونها البراق المعبر عن النقاء فإن الصورة التشبيهية المتشكلة من (صوت الحبيب/ الرمز) (المشبه المحسوس – في السطرين الشعريين الرابع والخامس– المقترن ب (نقرات الديك) (المشبه به المحسوس) تأخذ طابعاً سمعياً وهي تمور بحركة تجعل منها صورة تشبيه تمثيلي إذ تفيد مخيلة الشاعرة من اكتناز الفعل المضارع (ينقر) بالحيوية الممتدة من رحم الحاضر إلى أفق المستقبل . وينفتح الباب أمام تأويل القارىء لوجه الشبه الجامع بين طرفي التشبيه فهو قد يكون الإيقاظ أو التجدد المستوحى من صياح الديك وهو يستهل يوماً جديداً بصوته المألوف.
وتكمن طرافة هذه الصورة البيانية من هذا الاقتران بين صوت (المعشوق/ الرمز) و (صوت نقرات الديك) من جانب ومن الجانب الآخر الاستعارة التي احتضنت هذا التشبيه وقد أسبغت على الشراشف (المستعار له) كياناً له (وجه) إشارة إلى اشتمال ذات الشاعرة بهذا الصوت وتسلله إلى منامها ويقظتها على حد سواء. وبذلك فإن مخيلة الشاعرة توحد بوهج الإبداع بين أطراف متباعدة ولكنها لا تبدو كذلك في إطار الخلق الشعري الطريف.
ويخرج لفظ (ذوق)– في السطرين الشعريين السادس والسابع – من ارتباطه بحاسة الذوق إلى معنى آخر متداول يعني المزاج أو الرؤية الجمالية الخاصة وقد تسللت هذه الرؤية إلى (أثاث غرفة الشاعرة) إشارة إلى توغل (الحبيب/ الرمز) إلى مكان هدوئها واطمئنانها . وهذا المعنى يستقى من الغرفة ذلك المكان المغلق الأليف (4) الذي تعانق أشياؤه بصر الشاعرة في كل لحظة طول مكوثها بعيداً عن حركة الناس والأشياء في المحيط الخارجي.
وتشع صورة كنائية من (بصمات ذوقك) مفادها خصوصية تلك البصمات بحيث لا تشبهها أية بصمات أخرى في هذا العالم فهي متفردة تماماً وهذا ما يشي به لفظ (بصمات) وهو يلقي بظلاله على أثاث غرفة الشاعرة وأشيائها الأخرى التي توردها على هيئة اضمامة من الصور الكنائية المعبرة، فتماثيل السيراميك المبعثرة في زوايا ذلك المكان واللوحات والكتب والتذكارات والأصداف… كلها جميعاً هي تفاصيل ذلك التاريخ الزاخر المليء الذي يجمع بين الشاعرة وذلك الحب الكبير وهي تسترسل في إيرادها وتتلذذ بذكرها واستعادتها إشارة إلى أن تلك الذكريات كانت ثماراً فكرية وفنية وحضارية واكتشافات ثرية وذكرى إضافات وتجارب حياة . والشاعرة في غمرة ضيقها تصفها بأنها (تركة ثقيلة) في إطار تشبيه بليغ - انتظم السطر الشعري الخامس عشر– تردفه باستعارة مكنية تجسم تلك الذكريات الزاخرة (المستعار له) إصراً تنوء الشاعرة بحمله وتعود الاستعارة في خاتمة اللوحة الشعرية فتُجسم الذكريات (المستعار له) حديثاً طويلاً متصلاً تلهج به (شفتاها).
وتظهر الثنائية الحادة التي انبثقت من مطلع قصيدة (بصمات) بشكل أكثر وضوحاً في غضون القصيدة ، إذ يقف طرفها الأول شاخصاً مشيراً إلى رغبة الشاعرة في أن تتخلص من هذا الساكن في ثنايا ذاتها المرهفة ولكنها وهي في اندفاعها صوب تحقيق هذه الرغبة تنسج الصور البيانية الطريفة إذ تقول :
حاولتُ أن اقتلعكَ من تراب ذاكرتي
فوجدتُ أنك متشبث بأنسجتي
كنبات بحري
حاولتُ أن اقتلع رائحتك
من مسامات جلدي
فتساقط جلدي
ولم تخرجْ أنتَ !! (5)
تطالعنا صورة استعارية مكنية تصيّر (المعشوق / الرمز) (المستعار له) شجرة راسخة (المستعار منه) تمد جذورها بعيداً في الذاكرة التي تتجسم – تحت ظلال التشبيه البليغ – أرضاً عصيةً على الشاعرة إذ تصر على احتضان تلك الشجرة السحرية بل وتمدها بأسباب الحياة كي تقوى وتزهر. وتشعر القرينة الاستعارية (اقتلعك) عن تصميم حد القسوة من أجل الخلاص من هذا القيد الذي لا مفر منه . وتتقصى الشاعرة أطراف هذه الاستعارة فإذا بجذور تلك الشجرة تتعاشق مع وجود الشاعرة ذاتها وهي بذلك تعزز (تشبثها) بمن تحب.
ويأتي التشبيه المرسل– في السطرين الشعريين الثاني والثالث – الذي يبدو مركباً تنتظمه حركة وحيوية ف (تشبث من تحبه الشاعرة بوجودها [أنسجتي] (المشبه) وهو يقترن ب (النبات البحري) (المشبه به) ووجه الشبه الذي يجمع بين طرفي التشبيه لا يبدو سهل المنال ولكنهُ يصب في مصب الرسوخ في الأرض والتواصل مع الحياة لاسيما أن النبات البحري يغمره الماء ولاسبيل إلى موته فهو دائم الارتواء. وما تزال الشاعرة تعزز هذا المعنى وتشي بتضاد يصطرع في أعماقها بين رغبتين جامحتين ينم عنهما فعل الاجتثاث (اقتلع) المكرر مرتين كي تتوثق رغبتها الأولى التي بدأت بها وهي أن تتخلص من هذا الحب الذي وجدت ذاتها مقيدة بإساره وكما تشير إلى ذلك الاستعارة المكنية –في الأسطر الشعرية الأربعة الأخيرة – وقد جسمت رائحة المعشوق (المستعار له) نباتاً راسخاً (المستعار منه) وبقرينة الفعل المستعار (اقتلع) . وتكون (مسامات جلد) الشاعرة المهاد الذي يحتضن هذا النبات.
وحين تصر الشاعرة على التخلص منه وتكرر محاولاتها الدائبة التي أوحت بها أجواء القصيدة منذ استهلالتها . فإن (المعشوق/ الرمز) لا يتهاوى ولكن الذي يهوى هو جلد الشاعرة ، ويظل من تحب راسخاً في ذاتها . وينطوي لفظ (الجلد) المكرر مرتين (جلدي ، جلدي) على كناية معبرة عن أن هذا الحب يتجاوز حدود الظاهر من ملامح الشاعرة وكيانها الحسي توكيداً لهذا التعاشق الذي يصل حد التوحد ما بين الشاعرة وذلك الحب وبذلك ينتصر الطرف الآخر المناهض لرغبة الشاعرة لأنه معنى يكمن في روحها بل أنه جزء منها .
وتتولى الصورة الكنائية مهمة التعبير عن هذا التناغم بين ذات الشاعرة و(المعشوق / الرمز) إذ تقول :
حاولتُ نفيكَ إلى آخر الدنيا
هيأتُ حقائبك
واشتريتُ بطاقة السفر
وحجزتُ مكاناً لكَ على أول سفينة
وعندما تحركت السفينة
تحركتْ الدمعةُ في عيني
واكتشفتُ وأنا على رصيف المرفأ
أن الذي ذهبَ إلى المنفى
هو أنا لا أنت (6)
وتأتي طرافة اللوحة الكنائية التي انتظمت هذا المقطع الشعري برمته من عنصر المفاجأة الذي يستقر في آخر سطر شعري إذ إن الشاعرة تهيئ القارىء وعبر أسلوب يقترب من السرد القصصي كي يتوثق من عزمها على أن تتخلص من هذا الحب . وهي تضفي حركية على أجزاء لوحتها الكنائية من خلال الأفعال (حاولت ، هيأت، اشتريت، حجزت ) التي تنسبها إلى ذاتها من خلال تكرار ضمير المتكلم (ت) مضفية هالة إيقاعية على المقطع الشعري فضلاً عن البعد الدلالي الذي يعزز رغبتها ومحاولاتها في هذا الاتجاه الذي بدأت به منذ مطلع القصيدة ، وترتبط حركة السفينة بحركة ذاتها المرهفة أقوى ارتباط ، فما أن تقلع السفينة حتى تفيض ذات الشاعرة دموعاً سخينة وهذا ما يستقى من تكرار الفعل (تحركت) مرتين والمشفع بالسفينة مرة وبالدمعة أخرى. ويأتي السطر الشعري السابع مصدّراً بالفعل (اكتشفت) كي يحسم هذه المحاولة الأخيرة باتجاه انتصار هذا الحب الكبير انتصاراً مشهوداً تتراجع إثره الشاعرة وتستسلم وتعود من حيث بدأت إلى عنوان قصيدتها (بصمات) كي تنسج منه خيوط خاتمتها إذ تقول:
كل شيء قابل للمحو يا سيدي
إلا بصماتك المطبوعة على أنوثتي (7)
فيتأكد القارىء من أن علاقة الشاعرة بهذا (المعشوق/ الرمز) علاقة انتماء وهوية حيث تتوحد معه روحاً وجسداً.
وتنتقي الشاعرة عنواناً طريفاً لقصيدتها (القمر والوحش) يشي بتضاد بيّن بين نقيضين ينم أحدهما عن الجمال والوداعة والخير ويوحي الآخر بالقبح والشراسة والشر، وينعكس العنوان على القصيدة حين تتقمص الشاعرة شخصية فتاة عاشقة إذ تقول على لسانها:
أتمزق ألف قطعة
بين حضارتك على الورق
وعدوانيتك على النساء
بين حرائق كلماتك
وصقيع قبلاتك
بين مواقفك الأبوية
ومواقفك النرجسية
بين (ليبيراليتك) التي لا حدود لها
ورجعيتك التي لا حدود لها (8)
تستهل الشاعرة لوحتها الشعرية بكناية - انتظمت السطر الشعري الأول – تنطلق من مهاد حسي يومئ بالتشتت والضياع والحيرة وهي تمهد لإضمامة من الصور البيانية التي تزيح النقاب عن الملامح النفسية لذلك الرجل إذ تردف الشاعرة هذه الكناية بكناية – تنتظم السطرين الشعريين الثاني والثالث– تشير إلى أن حضارة ذلك الرجل هي حضارة قول والاقتصار عليها دون العمل، فضلاً عن أن هذا الرجل قاس إزاء المرأة ولكنه لا يبدو كذلك حينما يسطر الحروف عنها وتمضي الشاعرة في تعزيز سمة التناقض داخل ذلك الرجل مما يشي بازدواجية واضحة، إذ تجمع بين (الحرائق والصقيع) في إطار تشبيهين بليغين صيّر الأول الكلمات (المشبه) حرائق (المشبه به) إفصاحاً عن قوة تأثيرها ، وجعل الثاني القبلات (المشبه) صقيعاً (المشبه به) إشارة إلى برود المشاعر حد الجمود ، ولا ريب في أن التشبيهين كليهما ينطبعان بطابع لمسي يطغى على بقية الحواس من جانب ومن الجانب الآخر فإنهما يشكلان جناحي نمط تشبيه دعاه البلاغيون ب (التشبيه المقرون) (9).
وينسحب هذا التناقض على سمات أخرى في شخصية هذا الرجل إذ تجمع الصورة الكنائية بين (مواقفك الأبوية/ مواقفك النرجسية) و(ليبيراليتك / رجعيتك) تعبيراً عن قدرته على أن يبدو بهيئات متناقضة وتكريساً للازدواجية الحادة التي يعيشها.
وتصوغ الشاعرة لوحة طريفة تعبر من خلالها عن حيرة المرأة من احساساتها إزاء الرجل إذ تقول:
في داخلي
مسيرات نسائية طويلة
تبدأ من طنجة
وتنتهي في حضرموت
وشعارات مكتوبة بأحمر الشفاه
وأعلام مصنوعة
من خيوط جوارب قديمة
واحتجاجات ضد نظام الحزب الواحد
والرجل الواحد
والفراش المتعدد الجنسيات (10)
لا تكمن الطرافة في انطلاق هذه (المسيرات النسائية الطويلة) من ذات الشاعرة كناية عن توحدها مع هموم المرأة العربية أنى كانت في هذا الوطن الكبير الذي كنّت عن سعته بقولها (تبدأ من طنجة وتنتهي في حضرموت) وإنما تصل الطرافة ذروتها في أسلوب هذه المسيرات النسائية وطريقتها في التعبير عن احتجاجاتها. فثمة لافتات (مكتوبة بأحمر الشفاه) كناية عن الرغبة في إثارة الانتباه وجذبه باتجاهها ويتضمن قول الشاعرة (أعلام مصنوعة من خيوط جوارب قديمة) كناية عن الهلهلة والبلى وهما يسمان تلك الأعلام . فهي أعلام لا تخفق سمواً وشموخاً وإنما هي خيوط قديمة متهرئة، جعلتها ال(جوارب) ذات نسيج متناشز يسفر عن فشل تلك المسيرات في عالم يحتفي بالرجل ويدور في فلكه، لذلك تتهافت الأصوات الصاخبة المحتجّة في السطر الشعري الثامن وهي ترفض سلطة الرجل حين يتحول إلى طاغية ويعيش حياة (بوهيمية) متحللة وهذا ما يستشف من الكنايتين اللتين انطوى عليهما السطران الشعريان الأخيران.
ولا تتوغل الشاعرة في تفاصيل هذه التظاهرة الطريفة بل تتركها لخيال القارىء وإضافاته. وسرعان ما تنبئ عن انحسارها ونهايتها إذ تقول:
وعندما تنتهي المظاهرة
وترجع الأمشاط إلى أغمادها
وترجع الخواتم إلى جواريرها
وتعود العطور إلى قواريرها
ارمي لافتاتي
وأنسى احتجاجاتي
وابحث عنك في أي مقهى قريب
لأشرب القهوة معك(11)
وينطبع هذا المقطع الشعري بفشل التظاهرة وخيبة الاحتجاج وليس أدل على ذلك من الكناية التي استوعبت الأسطر الشعرية الأربعة الأولى عبرت عن أن المرأة عزلاء إذ لا أسلحة لها مع الرجل سوى (الأمشاط والخواتم والعطور) فضلاً عن أنها تشي بأن المرأة وفي غمرة انشغالها بالاحتجاج على الرجل لاتنسى أنوثتها إذ لا تستغني عن جمال شعرها ولا عن ألق أناملها المزينة بالخواتم وينسحب هذا على الشذا الفوّاح المقترن بحضورها. ويشكل السطران الشعريان الخامس والسادس قوام كناية ترمز إلى طبيعة المرأة الشرقية المجبولة على التسامح والانصياع إلى الرجل من أجل أن تستمر الحياة وأن تبدو أجمل وأهدأ.
ويحلو للشاعرة أن تختم لوحتها الشعرية بصورة كنائية انتظمت السطرين الشعريين الأخيرين فضحت احساسات المرأة الشرقية إزاء الرجل وحاجتها إليه على الرغم من صورته القاسية التي تثير الصخب حولها وأن ترفضها بكل ما لديها من عنفوان ولكنها سرعان ما تستكين إلى ضعفها وهي تغض الطرف عن مساوئه الكثيرة وقسوته وازدواجية شخصيته وأنانيته لذلك فإنها تبحث عنه وهي متأكدة أنها ستجده ضائعاً في أحد (المقاهي) ولكنها ستستمتع بإعادته إلى عشها ومشاركته حياتها.
ويسهم صوت ال (ها) في (إغمادها، جواريرها، قواريرها) – فضلاً عن الجناس الناقص في (جواريرها ، قواريرها) – في تكريس جوّ الانتهاء من هذه التظاهرة النسائية الطريفة. وتعود الشاعرة إلى ذاتها مستثمرة قافية التاء في (لافتاتي واحتجاجاتي) وإيقاعية تكرار الفعل المضارع (ترجع ، ترجع) حيث تضفي هذه المظاهر الموسيقية نغمية محببة على المقطع الشعري .
وقد تحس الشاعرة بعمق معاناة الأنثى الشرقية فتنسج لوحة معتمة لحضور الرجل مكنية عنه بصوته إذ تقول :
يهاجمني صوتك في وحدتي
كذئب مشتعل العينين
يترك جرحاً في الرقبة
وجرحاً في الذاكرة
وطعنة في خاصرتي
وطعنة في شراشفي (12)
ومن أجل أن تصوغ الشاعرة صورة بيانية طريفة لذلك الصوت الذي حمله السياق الشعري سمات الخوف وإثارة الهلع فإنها تنهل من مهاد تراسلي يجعلنا نرى ذلك الصوت– تحت ظلال التشبيه المرسل– ذئباً ضارياً تمنحه الاستعارة المكنية المنبثقة من (مشتعل العينين) دلالات لونية براقة مستمدة من حمرة الاشتعال ووقده كما تضفي عليه إيحاءات لمسية مستوحاة من وهج اللظى وسعيره توكيداً لأجواء الغدر والشراسة وقد عززها الفعل المستعار (يهاجمني) الذي جعل ذلك الصوت وفي إطار استعاري خصماً (المستعار منه) يتحين الفرص للإيقاع بفريسته التي هي ذات الأنثى المرهفة . ولكي تشي الشاعرة بأن هذا الصوت يصيب مقتلاً فإن آثاره الجارحة تصيب موضع (الرقبة) على وجه الخصوص. وتكني عن امتداد الجرح إلى تاريخها ووعيها وشعورها ب(جرح الذاكرة). وتتعدد مواضع الألم في جسد تلك الأنثى وعالمها تحت براثن ذلك الصوت الذي يسدد لها الطعنة تلو الطعنة وفي ذلك طعنة الخاصرة التي تستحضر أجواء الموت. و(طعنة الشراشف) التي هي قوام صورة كنائية دعاها البلاغيون ب(الكناية عن نسبة) (13) إذا نسبت الطعنة إلى الشراشف وهي مما يلازم الإنسان أثناء رقاده . وهي تفصح عن أجواء الأرق والقلق والترقب.
ويضخّ تكرار اللفظين (جرحاً، وجرحاً) و (طعنة، وطعنة) اللوحة الشعرية بطاقة إيقاعية تتسق ورغبة الشاعرة في تكثيف الحمرة الضمنية المستقاة من تكرار هذين اللفظين توكيداً لتوغل دلالاتهما الموصولة بالدمار والوحشية إلى نسيج الصورة البيانية.
وبعد؛ فإن الشاعرة سعاد الصباح في مجموعتها الشعرية (امرأة بلا سواحل) قد توخت اللوحة الشعرية الطريفة ويبدو هذا جلياً في صورها البيانية التي نهلت من عالم المرأة الشرقية وهمومها. وقد تصدرتها الصورة الكنائية نظراً لقدرتها على استيعاب الرمز والإشارة واكتنازهما بالإيحاء، تليها الصورة الاستعارية بشعبتيها التصريحية والمكنية ولازميتها في التشخيص والتجسيم الاستعاريين، تليهما الصورة التشبيهية التي استثمرت بعض أنماط التشبيه ولاسيما البليغ والمرسل والمقرون.
وقد احتضن اضمامة صورها البيانية إيقاع داخلي مأنوس يسهم في رفدها بتصعيد نغمي محبب فضلاً عن أن بعض صورها البيانية انطبعت بحاسة أو أكثر مما يعزز طاقتها الإيحائية.
الهوامش :
(1): ينظر: حفني شرف ، التصوير البياني ، مكتبة الشباب، ط2، القاهرة 1971، ص 19 . وللاستزادة ينظر: كتابنا، الصورة البيانية في شعر عمر أبي ريشة، دار مكتبة الحياة, بيروت 1997، ص 181. وكتابنا ، نقوش انثوية، قراءة في المتن النسوي، اتحاد الادباء اليمنيين، صنعاء 2003، ص123.
(2): ينظر : مجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان، بيروت 1974.
(3): سعاد الصباح، امرأة بلا سواحل، دار سعاد الصباح، الكويت، 1994، ص 65- ص 67.
(4): ينظر : د. سيزا قاسم ، بناء الرواية، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، دار التنوير، بيروت 1985، ص 100.
(5): سعاد الصباح، ص 73.
(6): نفسه، ص 74.
(7): نفسه، ص 75.
(8): نفسه، ص 88.
(9): ينظر: القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، تحقيق د. عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1980، ص 370. وللاستزادة ينظر: كتابنا: الصورة الاستعارية في الشعر الحديث, المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2002، 65.
(10): سعاد الصباح، ص 89.
(11): نفسه، ص 90 .
(12): نفسه، ص 87 .
(13): ينظر: السكاكي، مفتاح العلوم، تحقيق: اكرم عثمان، دار الرسالة، بغداد، 1981، ص 638. وللاستزادة ينظر: كتابنا: العرش والهدهد، قراءات في القصيدة اليمنية المعاصرة، مؤسسة العفيف، صنعاء 2004.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.