لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    نقابة الصحفيين تدعو إلى سرعة إطلاق الصحفي المياحي وتحمل المليشيا مسؤولية حياته    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    السوبرمان اليهودي الذي ينقذ البشرية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النافذة وانزياحاتها في قصائد عبد العزيز المقالح
نشر في نبأ نيوز يوم 03 - 03 - 2006

إن ما يهيمن على انتباهك وأنت تتجول في شوارع صنعاء وحاراتها هو نوافذها الأنيقة المضمخة بعبق التراث. ولا يمكنك أن تتخيل صنعاء دون أن تستحضر نوافذها المطلة عليك من قلب التاريخ، بزخارفها الملونة وأشكالها الهندسية الخاصة!.إن النافذة في هذه المدينة ليست أفقاً تزيينياً يشغل حيزاً مكانياً حسب بل إنهُ رمزٌ من رموز التواصل الحضاري مع الهوية والانتماء، ومثلما اقترنت صنعاء (الواقع) بالنافذة معلماً تراثياً، فإن صنعاء(الحلم) في مجموعة (كتاب صنعاء)(1) الشعرية للشاعر عبدالعزيز المقالح اقترنت دلالياً ب(النافذة)، وإذا كان للنافذة خارج النص مستوى جمالي شكلي مستوحى من هندستها وطريقة بنائها ومن وظيفتها وكونها عتبة توصل بين مكانين (داخل/خارج) فإن لها داخل النص مستوى دلالياً يكمن خلف الشكل الظاهري لها وهو الذي تتولى هذه الدراسة مهمة التوغل فيه وهتك حجبه، بدءاً بلوحة غلاف المجموعة الذي جاء على شكل نافذة يطل من خلالها الرائي على فضاءات صنعاء ونوافذها بخصوصيتها وعبر صوتيها اللذين أنتظما قصائدها الست والخمسين وقد تقاسما الحيّز المكاني لكل قصيدة منها فأما الأول فهو صوت موقع على وفق قصيدة التفعيلة، وجاء الآخر الذي نحن بصدده على هيئة قصيدة النثر وهما صوتان تتوحد نبراتهما في محراب صنعاء (الأم/الحبيبة/الحلم). وتحتفي هذه المجموعة الشعرية ب(النافذة) بوصفها ملفوظاً انزياحياً يحرك مخيال التلقي ويستثير لديه غريزة حب الاستطلاع سواء أكان الناظر عبرها في الداخل ويتوق إلى التواصل مع العالم الخارجي من خلال حيز النافذة أم كان في الخارج ويتلهف إلى أن يطلّع على ما وراء أستارها. ويأتي جمع (النوافذ) و(الشرفات) و(الشبابيك) في القصيدة السابعة شواهد ناطقة دالة على زخم الحياة وحركتها وانبعاثها من عمق التاريخ في لحظة تنفلت من أسار الزمن لِتتجلّى من خلالها أبعاد مشتبكة للمنصرم والراهن والمستشرف في قول الشاعر:
"أين هو؟/أين قصر غمدان ؟/تتساءل عيون الزوار/ولا يأتيهم الجواب إلا في ساعة متأخرة من النهار/أو في ساعة متأخرة من الليل./هو هنا/في المسافات الزرقاء الواقعة بين الأرض والسماء/حين تأتي الأمطار/يخرج على شكل قوس قزح/هذه نوافذه وتلك شرفاته/وهذه طيور بيضاء تحاول الاقتراب/من الستائر الملونة الموشاة بالذهب/شبابيك من الماء/وتماثيل من الضوء".
يعكس استحضار الشاعر أنوات أخرى (الزوار) ضيقه بالآخر الذي يهمش انتماءه وتاريخه كما يفصح حواره مع الزوار عن ثنائيتي (الغياب/الحضور) و( الرواي/المروي لهم). فذلك القصر المطل علينا عبر عتبات الزمن اطلالاً - وقد أكدت غيابه تساؤلات الزوار: أين هو؟ أين قصر غمدان؟ – حاضرُ عبر وعي الشاعر به إذ تحيل اشاراته (هو هنا) (هذه نوافذه)، (تلك شرفاته)، (هذه طيور..) إلى حركة يد الشاعر وإيماءاته المتتالية باتجاه ذلك المكان المسكون بالحياة فهو قرين الخصب (الأمطار) ورديف السمو(المسافات الزرقاء..) وموقد بهجة الماء والشمس معاً (قوس قزح). وتفلح الطيور البيض الرامزة للأجيال المتعلقة بتاريخ هذه البلاد في أن تجتاز أمكنتها الراهنة صوب ذلك المكان الأثيري ولتتماهى مع (أنا) الشاعر في قدرتها على استجلاء ذلك التاريخ العريق. كما توقد حركة الطيور وخفق أجنحتها فضاءات التوقع البصري للمروي لهم (الزوار) – والقارئ على حد سواء – باطلالة مباغتة من وراء تلك الستائر. وقد عزز هذا الحدس عنفوان الحياة الذي انعكس للناظر من خلال تأطير النوافذ لمهرجان الألوان الممتزج ببريق الذهب ونفاسة سطوعه. حين تمتزج تلك النوافذ بالماء – نسغ الحياة – فإنها تجلي تشبيها بليغاً (شبابيك من الماء) إيماءً بصيرورتها (مرايا) تعكس أبعاد المكان وحيويته من جانب ومن جانب آخر فإن هذه المرايا تعكس صورة الشاعر الباحث عن أناه في عمق التاريخ. ويتخذ التشخيص الاستعاري في القصيدة الواحدة والأربعين من (النافذة) زاوية رؤية يطل من خلالها على عطاء فصل الربيع وما يغدقه من سحر مضاف إلى فتنة صنعاء إذ يرد:
"بريئة هي وملتصقة بجمال أزلي/تستيقظ على أصوات العصافير/وتنام على هديل الحمام/وأنغام المزامير القادمة من الضواحي القريبة/شتاؤها خجول دافئ/صيفها بارد وحنون/في مواسم الربيع يفتح الأهالي شبابيك منازلهم/في الصباح الباكر لإستقبال هدايا الورد والنسرين".
يستهل متخيل الاستعارة المكنية هذا المقطع الشعري ببراءة المدينة (المستعار له) التي تؤشر سجيتها البيضاء وفطرتها الخيرة، ولم يجعل الجمال إلا قريناً سرمدياً لها بيد أنه غير منفصل عن كينونتها وهو ما يؤكده اللفظ المستعار (ملتصقة). وينفذ بعد ذلك الى فضائها الزمني (النهار والليل) المستقى من الفعلين المستعارين (تستيقظ وتنام) وهما يكنيان عن عشقها للحياة ب(أصوات العصافير) حيث يشيران إلى ولعها بالسلام ب(هديل الحمام) ويومئان إلى شغفها بالجمال ب(أنغام المزامير) ويتجه الانزياح الاستعاري صوب فصولها الاربعة بدءاً بشتائها المهيب ومروراًٍ بصيفها الشفوق وهما سميان يتآنسان كي يعززا سمة الرحمة وإلالفة بين (المدينة/الأنثى) وطبيعة الزمنين (الشتا/الصيف) اللذين قد يقسوان على مدن الارض الأخرى، بيد أنهما تحت أفق هذه المدنية الفاتنة يتلفعان بدلالات جديدة متعاكسة إذ يكون الصيف (بارداً) والشتاء (دافئاً) تمنح تلك المعشوقة فضاءً زمنياً طريفاً يوقد الدهشة والاثارة. وتحمل النافذة مرجعية تراثية ومعتقدات شعبية يشي بها جميعاً مطلع القصيدة السابعة والثلاثين:
"في شارع الأبهر/تسهو الأقدام عن السير/وتنشغل العيون برؤية/التعاويذ المصورة على الشبابيك/طيور وفراشات/حيوانات وحشية تزين الأقواس".
تطل (الشبابيك) عبر فضاءات سحرية تستدعيها (التعاويذ) التي يتلبث عندها النص وينفذ إلى جزيئاتها الناطقة (طيور، وفراشات، وحيوانات وحشية). ولا ريب في أن تلك الصور المنقوشة على أقواس النوافذ تعكس للمتلقي الاشكال الزخرفية التي يضج بها ذلك المكان العريق ( شارع الأبهر) زد على ذلك أنها تستثير متخيل القارئ باتجاه الابعاد النفسية لتلك النقوش المستمدة من الذاكرة الشعبية الزاخرة بخزين التجارب والذكريات المستقاة من طبيعة تلك (الفراشات والطيور والحيوانات) وما كونه عنها الانسان عبر العصور لتتخلق كناية تومئ إلى المرجعية التراثية –لأنسان هذه البلاد – التي واكبت طفولة الفكر البشري ومعتقداته وطقوسه وبدت منعكسة على زوايا هذا المكان – الذي ربما اشار(الأبهر) إلى بؤرة الاحساسات ومركز المشاعر (القلب) – فيشع ألقاً ينعكس على عيون المارة فإذا ب (الأقدام تسهو عن السير) تحت تأثير السحر المنبعث من هذه الشبابيك وتعاويذها ونقوشها وألوانها. وتكون (النافذة) قسيماً تشبيهياً للوحة فنية ذات هندسة خاصة تزين جدران (المنظر) و(المفرج)(2) في القصيدة الثامنة إذ يرد: "انك لا تستطيع الدخول إلى اللوحة/إنها سطح جميل لا أكثر/أما صنعاء اللوحة الجميلة/فإنك لن تعرفها إلا إذا جاوزت السطح/وتخطيت الجدران والفضاء إلى الداخل/وإلا إذا وقفت في (المنظر)/أو تطلعت إليها من (المفرج)/إذ مشيت بعينيك خلف زجاج النوافذ/وتحسست بالنظر وبالقلب بقية اللوحات/ليس البرق/ولا قوس قزح/ولا ريشة سلفادور دالي/هي من أبدع هذه النوافذ/ولوّن هذه الجدران". يستهل النص بمهاد مكاني محدود يتكئ على اللوحة بطقوسها اللونية وظلالها الموحية وهو ينطلق منها إلى رحاب المهاد المكاني الواسع الذي يستوعب مدينة صنعاء ويأتي الاقتران بين المهادين في غضون صورة تشبيهية تمثيلية تنتمي إلى تجليات المحكي الشعري الذي يتجاوز (السطح والجدران والفضاء)، وهنا يتضافر المهادان في اطار حركة بصرية تتجه من خارج اللوحة إلى داخلها إلا أن هذه الحركة تصطدم بواو العطف والأداة (إلا) لترتد بحضور (المفرج) و(المنظر) حركة الرؤية من داخل تلك الامكنة وعبر نوافذها إلى الخارج ليتمدد النظر أفقياً وعمودياً وهو يستكشف أبعاد اللوحة، ويمنح الفعلان المستعاران في (مشيت بعينيك) و(تحسست بالنظر) الانزياح الاستعاري أبعاداً تراسلية تماهي بين قدرة النظر على الانطلاق وتوق النص في أن تحفر تلك التفاصيل لها مكاناً في الذاكرة، ويكسر حضور (القلب) (المستعار له) توقع القارئ إذ ينفلت هذا اللفظ الرامز للعاطفة الجياشة باللوحة خارج سلطة الحواس لتبقى مستقرة على جدار الروح، فضلاً عن أنه يفتح كوة باتجاه (المسكوت عنه) الذي شاء الشاعر في أن يحفز المتلقي على تشكيل المتن الغائب لا سيما حين يجعل خاتمة هذه القصيدة مفتوحة إذ يوقد الاستدراك ب (ليس) فيضاً من التساؤلات التي تدور حول كينونة ذلك الذي (أبدع هذه النوافذ، ولون هذه الجدران)؟. ‍‍‍‍‍‍‍‍ويشكل (البرق) و(قوس قزح) حركة ضوئية متضادة ففي الوقت الذي يبشر البرق فيه بهطول الغيث، فإن (قوس قزح) ضوء كاشف عن انثيال المطر المتعاشق مع أشعة الشمس، ولكن هذه الثنائية تتواشج في اطار حركة دلالية تتضاد مع ريشة (سلفادور دالي) إذ يكون (البرق) و(قوس قزح) كلاهما قطباً تحتضنه الطبيعة المعطاء في حين تكون ريشة سلفادور دالي – التي تحمل ذاكرة حافلة بحضارة الفن – هي القطب الآخر المضاد بيد أن هذه الثنائية تنسجم في خضم حركة الغاء وتهميش خارج سلطة الذات وتعزز هذا التوجه الايقاعية الدلالية لتكرار النفي (ليس، لا، لا) لتتخلّق كناية كبيرة تشع من عموم القصيدة تؤشر موقع الناظر للوحة صنعاء إذ يتحتم عليه أن يجتاز مستوى السطح كي يتماهى معها روحاً وانتماء وهي كناية تفلح في أن تنتقل ب(نا) (المروي له) من مجال بصري (العين) إلى مجال بصيري (القلب) وفي نسيج شعري يغيب سلطة الزمن لتكون هذه المدينة لوحة باهرة متألقة في كل الازمان وتستوعب (النافذة) في القصيدة الرابعة ثلاثة انعكاسات بصرية إذ يرد في قول الشاعر: "يستطيع الفقرُ أن يكون جميلاً وناصعاً/إذا داومَ النظر إلى وجهة بمرآة النظافة/وأستحوذ عليه ما أبقت القرون/من ترف الذوق وأرصدة الجمال/هذا ما تتحدث به ألوان الطيف/التي تقذف بها النوافذ الزجاجية من البيوت الصنعانية/إلى الشوارع المعتمة/وفي ضوئها تتلألأ الأقدام/وتتصاعد سحابات من البخور". يتمظهر الأول في انعكاس (وجه الفقر على المرآة)، وتتجلّى في إضافة المرآة إلى النظافة صورة تشبيهية بليغة تلمح رغبة النص في أن يخلق مواجهة مباشرة بين الفقر المتأنسن وأناه ليمنحه سانحة الكشف عن وجهة الناصع الجميل المطمور تحت أسمال الفاقة. ويومئ البعد الزمني الممتد في (قرون) إلى استبطان ركائز ذلك الجمال الروحي ومسوغاته الموصولة باستيعاب الإرث المعرفي والثقافي المكنى عنه ب (ترف الذوق) و(أرصدة الجمال)، وتؤكد القرينتان الاستعاريتان (ترف) و(أرصدة) أجواء الثراء النفسي.وأما الانعكاس الثاني فإنه يبلور من (ألوان الطيف التي تقذف بها النوافذ الزجاجية من البيوت الصنعانية إلى الشوارع المعتمة) كناية تومئ إلى أن الفاصل الحسي (زجاج النوافذ) لا يشكل حاجزاً بين الأمكنة المغلقة المضاءة (البيوت) والأمكنة المفتوحة المعتمة (الشوارع) بل أنه يرهص بالانعكاس الثالث والأخير الذي تضمنه (في ضوئها تتلألأ الأقدام) إذ يكشف انعكاس ألوان الطيف على (الأقدام) الرامزة للسعي الدائب والمكابدة عن ثنائية متضادة بين (الضوء/العتمة) بيد أن هذا الاحتدام يفضي إلى انهزام العتمة وخلق حالة اتساق بين ألوان الطيف المنبثقة من زجاج النوافذ والخطوات الموقعة لتلك الأقدام ويشكل التشبيه البليغ الذي استوعبه السطر الأخير حركة دائرية لمعطيات حاستي(البصر) و(الشم) مستقاة من هبوط ألوان الطيف و(تصاعد سحابات من البخور) وقد منحت السحابات (المشبه به)المحكي الشعري دلالاتها المكتنزة بالخصب والخير العميم الذي يغمر(البيوت الصنعانية المضيئة) و(الشوارع المعتمة) على حد سواء.وتلوح نوافذ صنعاء المشرعة على كل الاتجاهات في القصيدة التاسعة التي يقول فيها الشاعر: "تذكروا دائماً/أن أخطاءها الذهبية/أفضل من صوابكم العقيم/ونوافذها المفتوحة على كل الاحتمالات/أقدر على التعبير من أفكاركم الموصدة".
توحي (النوافذ) هنا بالانفتاح على كل الرياح والرؤى ونبذ الإنغلاق الذهني والتعصب الفكري، وهي سجية جبلت عليها صنعاء فصارت سمة من سماتها. وقد لا تطل النوافذ إلا على خواء مرير في القصيدة السادسة والأربعين حيث يرد:"لم تعد الحارات ترقص وتغني/في الفضاء رصاص/على الأرض دمعٌ ودماء/أبواب مخلعة/نوافذ تشكو الفراغ/لغة مجهولة خاوية بلا لون ولا مطر/وجوه غريبة/أشجار نافرة/جنون، إذعان، احتضار/حصان في عينيه حزنٌ عتيق/وأشواق إلى تخوم ملأى بالبروق والنوافذ". تصطرع في فضاء الأمكنة الأليفة (الحارات) حالتان احداهما في رحم الماضي تكشف عن الفرح الشديد وهي حالة تستدعيها مخيلة الشاعر في مقابل الراهن المفزع الذي أفاض النص في رصد تفاصيله. فتلك الحركات المنتشية المموسقة المرموز لها ب (الرقص والغناء) قد تجاوزها زمن النص منذ ملفوظه الأول (لم تعد الحارات..) إذ تداخلت طقوس الغبطة مع حركات الفزع والهلع إزاء الفضاء المتخم بهدير (الرصاص) وإزاء مأساة اغتيال الأرض (دمع ودماء). ولكي يقرب النص الأجواء الكابوسية التي باغتت تلك الحارات فإنه يستحضر (الأبواب والنوافذ) كي تكون شفرات تبوح بالفجيعة إذ تشي كناية ال (ابواب مخلعة) بغياب السكينة إذ لا يكون البيت مكاناً مغلقاً أميناً بل أنهُ مكانٌ قابل للاقتحام والهتك. وتفضح الاستعارة التشخيصية (نوافذ تشكو الفراغ) عن صوت مخنوق يبوح بالعدم والخواء. ولا تكون الاشجار – وفق متخيل استعاري – إلا قسيماً استعارياً لانسان هذه الأرض (المستعار له الغائب) المتجذر في تربتها والمشرئب باغصانه صوب الضوء والخلاص. وقد أفلحت القرينة الاستعارية (نافرة) في اعطاء هذه الاشجار المتكاتفة (المستعار منه الحاضر) هيئة مرتبكة حانقة تتسق مع التصعيد الدرامي للمشهد. وقد صبت القرائن الاستعارية الأخرى (جنون) (اذعان)، (احتضار) في المصب ذاته إذ عزرت هذه المحنة واذكتها. وينبئ حضور (الحصان) وما يفيض به من رموز تستثير الذاكرة العربية عن استشراف للمستقبل الذي يهمش الراهن المتخم ب (الوجوه الغريبة) و(اللغة المجهولة) باتجاه أمكنة مترعة بالخصب والحركة وقد كُني عنها ب (البروق) و(النوافذ). فكما أن البروق هي وعد بالغيث والنماء فإن النوافذ هي وعد ضمني بالغبطة والحياة. وتستعير (النافذة) في القصيدة الخامسة والعشرين من الباب سجاياه في إطار انزياح ترميزي يرصد وطأة الحدث على المدينة الآمنة:"وحين حكمت الكائنات المتحجرة هذه المدينة/وحطمت الهراوات قناديل الفن/أغلقت المنازل نوافذها/حتى لا تطير الألحان". تطل (المدينة) و(منازلها المفتوحة النوافذ) من خارج زمن النص أي قبل لحظة السرد الشعري بيد أن هذه النوافذ توصد بحضور (الكائنات المتحجرة) التي تطبع الامكنة بسماتها المغلقة المستقاة من طبيعة (الحجر) فيزهق حضورها المباغت عنفوان الحياة المرموز له ب (القناديل) و(الألحان)، إذ تتشظى الصورة التشبيهية البليغة (قناديل الفن) ليطبق ليل نفسي لا يومض فيه إلا بريق الهراوات توكيداً لأجواء الانغلاق على الهلع والعتمة. وينجح الانزياح الاستعاري في منح النافذة (المستعار له) دلالات جديدة، فحين لا تكون البيوت إلا أقفاصاً وإلالحان عنادل مكبلة مسلوبة الفضاء، فإن النافذة بدورها تكون بوابة سجن تحول دون تحليق الالحان وانطلاقها وقد أكد الفعلان المستعاران (أغلقت) و(لا تطير) أجواء الكبت والحرمان. وحين تنام المدينة في القصيدة الخامسة والأربعين فان (النافذة) المفتوحة هي الحلم الذي تتوق إليه:"كانت المدينة المسكونة بالخوف/والفقر والجمال/قد رأت في المنام انها تعانق البحر/وان الضوء لم يعد ينتحر على النوافذ".
ثمة ليلٌ نفس يتسلل من النص الغائب ليطبق على تلك (المدينة) مشكلاً فضاءاً دامساً يجثم على تلك الذات المستغيثة بالاحلام جسوراً توصلها إلى مستقبل ينفض الجدب والهلع عن كاهلها بيد انه مستقبل يهمشه الراهن المعاش ولأن متخيل الاستعارة التشخيصية شاء أن يبرز سلطة الليل فان تلك (المدينة) (المستعار له) المسكونة بالجمال تستحيل بحضوره وبغياب (النوافذ) زنزانة مقفلة يكرس عتمتها الراهنة الفعل المستعار (ينتحر) الذي يسلب تلك (النوافذ) ألقها فتغدو مطفأة تماماً كجدران تلك المدينة المسكونة بالخوف والفقر. وخلاصة القول: فإن النافذة قد أطلت عبر قصيدة النثر – التي شاطرت قصيدة التفعيلة خيرها المكاني – في مجموعة (كتاب صنعاء) للشاعر عبدالعزيز المقالح بسمات جديدة اذ غدت في معظم القصائد فضاء انتظار وترقب وتوقع كما أنها جاءت قرينة الحرية والحياة وتغييبها يعني غيابهما. كما أن هذه العتبة الدلالية قد شكلت بؤرة ترميزية تُشرك متخيل المتلقي في صياغة بنية (المسكوت عنه) وما شكلها الظاهر المزدان بالألوان والمزركش والموغل في العراقة إلا مفتاح سحري لفك مغالق النص الغائب إذ أنها تهب فضاء النص قدرة الانطلاق صوب أمكنة جديدة الانفتاح على رؤى زمنية مدهشة سواء أكانت هذه الرؤى راهنة أم أنها تستشرف المستقبل أم تسترجع الماضي القريب أو البعيد معاً. وإذا كانت النافذة موصولة بحاسة البصر خاصة خارج أفق المتخيل الشعري، فإنها في هذه المجموعة قد تراسلت مع بقية الحواس التي انصهرت في بوتقة رؤية النص إزاء الحياة والكون.
-------------------------------------------------
الهوامش
(1): عبد العزيز المقالح، كتاب صنعاء، رياض الريس للكتب والنشر، لندن ، 2000م
(2): تعد المفارج الصنعانية من أجمل المفارج وأكثرها أناقة في اليمن، فالمفرج الصنعاني قد يبنى فوق سطح المنزل أو يكون من غرف الطابق العلوي الواسعة والعالية وتكون نوافذه منخفضة ولها مصاريع يستمتع الجالسون في المفرج عند فتحها بمناظر الأجزاء العلوية للمنازل والجبال المحيطة بمدينة صنعاء. ينظر: شيلاوير، الدلالات الاجتماعية والطقسية لجلسات القات، اليمن كما يراه الآخر، دراسات أنثروبولوجية مترجمة، المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية، صنعاء 1997م ، ص81 وما بعدها.
*د.وجدان الصائغ: كاتبة وأكاديمية عراقية تقيم في اليمن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.