حين تغيب الدولة وتحظر جماعة مسلحة بأدوات الحرب، وشعارات الموت، يدفع المحليون العزل ثمن تغول الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون؛ نتيجة غياب سلطة الدولة، ولعل مديريتي كشر وعاهم نموذجٌ لتلك المأساة المتفاقمة بفعل بقاء خطر الألغام التي حصدت وأصابت عشرات من سكان عاهم وكشر، بمحافظة حجة، ويتهم السكان الحوثيين برفض تسليمهم خرائط للأماكن التي زرعها مسلحو الجماعة في مناطقهم أثناء الحرب. محمد سبتان المقرمي قصة موت مفجعة، حيث سقط سبتان قتيلاً بطلق ناري مساء 19 يناير 2012 بمديرية عاهم، ولم يتمكن أقاربه من الوصول إلى جثته بسبب نيران مسلحي مقاتلي الحوثي المتمركزين بمنطقة الجرابي، وفي نهار اليوم التالي ذهب أهله وذووه لأخذ الجثة بحزن لم يسعفهم من أخذ الحيطة والحذر، وما إن وصلوا إلى الجثة (المفخخة) وهموا في إخلائها من المكان لدفنها، انفجر بهم لغم زُرع بالجثة، أودى بحياة: (أحمد قاسم المقري، محمد هادي واقد، أحمد هادي واقد، هايل جبهان، علي عبدالله جبهان) إلى جوار محمد سبتان. عشرات من قصص موت الأبرياء بالألغام الفردية “الحوثية” التي زرعها مسلحون في مديريتي كُشر وعاهم قبل انسحابهم الجزئي منها بناء على صلح قبلي بين الحوثيين وقبائل حجة، لم ينجح في إلزام جماعة الحوثي بتسليم خرائط بالألغام أقدموا على زراعتها في القرى والوديان، ما تسبب في استمرار سقوط الضحايا بالألغام الفردية، كما دفعت بكثير من الأسر إلى ترك منازلهم في مأساة نزوح مستمرة عن ديارهم النائية بمديرية كُشر محافظة حجة شمال غرب البلاد.. لم تتطرق منظمة محلية أو دولية لضحايا الموت والإصابة بالألغام الفردية بمديرية كشر بمحافظة حجة، قبل تقرير ميداني صدر أمس عن مؤسسة وثاق لدعم التوجه (الألغام.. الموت الزاحف نحو الأبرياء)، أكدت نتائجه على سقوط (37) قتيلاً، وإصابة (45) آخرين، بين المصابين 6 أطفال، كُتب عليهم البقاء بين الحياة والموت كشهود على جرائم ضد الإنسانية يقترفها مسلحو جماعة الحوثي ضد مدنيين في مديرية نائية شمال البلاد وبعيدة عن نفوذ الحكومة المركزية بصنعاء. يكشف هذا التقرير عن ضحايا الألغام عن جرائم ضد الإنسانية، يترتب استمرار مأساة النزوح، وبقاء الآلاف من الأسر بعيداً عن ديارهم في ظل تقاعس الدولة عن واجبها بحماية المدنيين أو إلزام جماعة الحوثي بنزع ألغامها المزروعة في مناطق يعيش سكانها تحت طائلة النار والخوف ومخاطر استمرار مغامرات التمدد الحوثي بالمحافظة بقوة السلاح. جاء في تقرير مؤسسة وثاق - تلقت الجمهورية نسخة منه - عدد من قصص الموت والإصابة بالألغام في محافظة حجة، نعيد نشر بعضها في سياق تقريرنا عن هذه القضية الإنسانية. أشلاء بريئة في قرية الحازة بمديرية كشر، وأثناء تواجد لجنة الصلح، شعر الناس بالأمان في القرية الواقعة في مرمى نيران الحوثيين المتوسطة والثقيلة، فهرعوا لجلب بعض حاجياتهم من بينهم محمد يحيى عبده الدعيشي الذي ذهب للوضوء في حمام دار صديقه، لينفجر به لغم زرعه الحوثيون في باب الحمام، محيلاً جسده إلى كومة من أشلاء في 22 مارس 2012. تداعى السكان لجمع الأشلاء المبعثرة من فوق أشجار حوش الدار في مشهد مأساوي يسوده بكاء وذهول من جسد تحول إلى أشلاء لا تحتمل تأخير دفن الجثة، وبدأ ثلاثون شخصاً للملمة أشلاء يحيى الدعيشي دون علمهم بأن زارعي الموت ب(الألغام) لهم بالمرصاد في قراهم وطرقاتهم، وهم ذوو خبرة وتفنن في زراعة الألغام، بحيث لا تخطىء هدفها، يعني بأن زارعي اللغم كانوا قد خططوا مقدماً لاستهداف عدد أكبر من السكان أو غيرهم يعلمون بأنه سيهبون لتجميع أشلاء الضحية. أبناء القرية يتهمون جماعة الحوثي بالحادثة، وزرع لغم آخر على مقربة من الأول ليحصد من يأتون لمهمة إنسانية كمهمة فرق الإخلاء الطبي والهلال الأحمر لأخذ الجثة وحصدهم جميعاً، وهذا ما حدث، انفجر لغم آخر قرب الأول، حاصداً أرواح عشرة أشخاص، لتتناثر أشلاؤهم على أشلاء الجثة التي أتوا لتجميعها، كما أصيب ثمانية عشر آخرين، بعضهم أصيب بإعاقة دائمة. لن ينسى من نجا من هذه الجريمة أشلاء الضحايا: (إسماعيل إبراهيم النصيري، محمد معيض الهندي، خالد حسن قوبع، محمد يحيى قحيم العمري، يحيى محمد قحيم العمري، محمد صالح قروعة، محمد قروعة، علي ياسين العمري، إسماعيل أحمد علي ومحمد جابر ملهي) في ذلك اليوم المروع. قرقوس.. ليته لم يعد ليته لم يعد.. هكذا يقول أقارب وأصدقاء إسماعيل أحمد حزام قرسوس (32) عاماً، أحد المهجرين من قرية البياضة الواقعة شمال غرب سوق عاهم، الذي عاد لحتفه في 13 مارس 2012، حيث أراد أن يعود إلى منزله إثر هدنة بين مسلحي جماعة الحوثي وأبناء قريته الذين رفضوا مغادرة منازلهم بفعل المد المسلح للحوثيين إليها. عاد إسماعيل قرقوس لتفقد منزله بعد منتصف مارس 2012، ولم يكترث بنصائح المهجرين بمخاطر تتهدد حياته يومها، لكن شوّقته عودته إلى منزله بعد معاناة ويلات النزوح عن داره التي ألف ظلاله وأنسامه في “وادي العريض” التي وصل إليه يحمل قلباً مليئاً بحب الأمن والسلام، منطلقه الأمل الكبير في قضاء بقية عمره في منزله بين أهله وأقاربه.. عاد إسماعيل قرسوس إلى داره بأشواق تفوق شوق الغائب لأهله وأحبائه، وما إن وطئت أقدامه عتبة ساحة منزله حتى تبددت الأشواق وانقطعت آماله نتيجة انفجار لغم مزروع في ساحة داره بعد مغادرتها، ليتبعثر جسده إلى أشلاء، قبل الولوج إلى المنزل بعد غياب طويل. ودّع الحياة وأهله وداره بجسد مقطع الأوصال، كما أراد له زارعو الألغام الهاتفون صباحاً ومساء بالموت لأمريكا واسرائيل، لكن الموت لم يغادر إلى هناك بل لازال اليوم يحصد المئات من أهالي صعدة وحجة، وكلما تذكر أهله تلك النهاية يرددون: ليته لم يعد. اغتيال البراءة لم يتجاوز عمره السنوات الخمس خرج الطفل مشتاق هادي عبدالله وأخته رهف التي تكبره بسنتين، خرجا في تاريخ 21 إبريل 2012 إلى مرعى القرية الفسيح - مرعى كان قد اتخذ منه مقاتلو الحوثيين موقعاً عسكرياً - فوقع نظرهما على آلة جديدة على شكل لعبة، أخذاها وهما لا يعلمان بأنها لغم ستودي بحياتهما بمجرد العبث بها. عاد مشتاق منتشياً إلى منزله وبين أحضان أبويه لا يعرف بما تحمله لعبته الفريدة من قسوة وغلظة على حياته، وفي غفلة من أبويه بدأ بتحريك تلك الآلة، معتقداً بأنها لعبة يلهو بها كبقية الأطفال، وفي غمرة فرحته انفجرت الآلة (اللعبة) مبعثرة أمعاءه، ومزقت جسده الغظ، وأصيبت شقيقته بشظايا في ساقها، وتعيش رهف بإعاقة جزئية كشاهدة عيان على توحش زارعي الموت في لعب الأطفال والطرقات والأماكن العامة والمنازل. قبل صلاة الجمعة ضحية أخرى لألغام جماعة الحوثي، نهار الجمعة ذهب الفتى عاصم محمد محمد الغبري مع صديقه محمد مبخوت الزليل إلى سائلة الماء بوادي حيران ليغتسلا ويذهبا لأداء صلاة الجمعة، وهي سائلة كان يذهب كثير من الناس من قبل الحرب إليها للاغتسال كعادة تسود كثير مديريات المحافظة. تقطع لحياة عاصم ومحمد لغم على هيئة دبة غاز مزروع بعناية فائقة، وتحول جسد محمد إلى قطع تصيب ناظرها القشعريرة والسخط وجسد عاصم إلى منخال خدشته المثاقب والسكاكين على قارعة طريق طالما مر بها أناس وعادوا سالمين، لكن عاصم الغبري ومحمد مبخوت الزليل ذهبا سالكين الطريق “كما أرادوا وعادوا كما أراد لهم زارعو الموت” حد قول أقاربهم في إشارة لجماعة الحوثي التي يتهمها السكان بزرع الموت لهم في كل مكان.