ودعنا صاحب البذل والعطاء العاطفي ( المُشقر بسحابة) الكلمة الفصيحة ولغة المفردات العامية و( المُشقر بسحابة) المهاجل الشعبية وتلخيص مغازيها ومعانيها.. نعم نقول لهذا الإنسان الذي تركنا نعاني ويلات الصراع والتصارع علي كراسي الحكم والمسئولية، وهو الذي عاش شاعراً كبيراً ومميزاً يُشار إليه ولعطائه ببنان الإعجاب، في لحظة لم يكن يعرف بها أو يجلس على كرسي التفاخر والتعالي على الآخرين، ولم يكن يجلس حتى على الكرسي الثابت قبل أن نقول على الكرسي الدوار وإن كان جلوسه أحياناً على الكرسي الحديدي في ذلك المطعم الشعبي، الذي كان يتناول منه ربما فنجان قهوته الصباحية بجانب (الشُقات) العاديين و(الكوالية) الذين يقومون منذ الصباح الباكر لانتظار من يأتي باحثاً عن (شاقي متفرغ) وإذا ما ساعده القدر وجلس على كرسي حديث، فقد يكون ذلك عندما يُدعى لإقامة محاضرة أو ندوة شعرية، يكون فيها شاعرنا وأديبنا الراحل محمد عبد الباري الفُتيح هو ضيف شرف تلك الندوة أو المشارك فيها، وما عدا ذلك فقد عاش شبابه أولاً متنقلاً بين الدول ومهاجراً عن أهله بحثاً عن لقمة العيش، وبينما كان الآخرون يتزاحمون ويفرضون وصولهم إلى كراسي المسئولية بالقوة، وغالبيتهم لم يفهموا ولا يعرفون أبجديات الوظيفة. هو ذلك الرجُل الفاهم المثقف والشاعر الحصيف وصاحب اللغات المتعددة، كان حلمه وعشقه الأكبر لتلك (القرفصة) على ركبتيه المنثنيتين وفي يده اليمنى مطرقته الصغيرة، وفي اليد اليسرى زاويته الحديدية المثلثة الأركان وأمامه خيط نحيل لتقييم مقياس وضبط صفوف التبليط، فهو الإنسان والرجل الذي كان إذا ما وجد نفسه بعيداً عن أية وظيفة مناسبة له، إذا به يتجه نحو مهنة (البلاط والتبليط) كونه المهندس والفاهم المتمكن بتلك الوظيفة، وكونه يحمل فنوناً وأحاسيس مرهفة لقول الكلمة الشعرية فإنه في الوقت ذاته يحمل الأحاسيس نفسها في ضبط فنون التبليط، وأما وظيفته الأخيرة بالمتحف، والتي خصصت له درجة وظيفية يستحي المرء أن يذكر قيمتها المادية، فلم تأت إليه حباً واحتراما لمكانته، بل ربما إن اللغة التي يحملها هي من كانت سبباً لوصوله إلى متحف تعز. وها هو اليوم شاعرنا الكبير محمد عبد الباري الفُتيح يودعنا الوداع الأخير، ولسان حاله ما يزال يردد بقوله ( راجع أنا لك وا دودحية..... راجع معي لك أغلى هدية .....أُباشر الحول والحوية ....وأهنا بعمري لا يضيع عليً).. بينما نحن نشاهد الواقع أمامنا يقول خلاص أيها المنادي بالرجوع إلى حوية الدار والقرية ودوادح الشجر.. خلاص لم نجد رجوعك إلينا بعد اليوم سوى ذكريات، ومعانٍ وأهازيج غنائية تتردد في مسامعنا وهي تحمل الحبكة الشعرية، التي تحمل علامتك المميزة كلمات أناملك الحساسة، وذهنك المرهف، ولم نجد ما نبادلك به من قول أو وداعية حزينة أكثر مما نقول لك سوى ما قلته أنت سابقاً.. بأبياتك الشعرية: (لين اشتسافر وعندليب ....تذر شبابك ورونقه.... تحي به كم من فلا جديب....ووكرك الوحشة تسحقه.... يستحلفك غصنك الرطيب .....بشبتك لا تفارقه).. وقلناها بشبتك كما قلتها أنت حينها، ولم نقل بشيبتك كما كان حالك عند الفراق.. فلماذا إذاً تركتنا أيه العندليب المغرد خارج سرب الأحياء، وتركت خلفك العزيز الباكي مطر الفُتيح، يندب حظ وحدته وفراقه لك، بعد أن كنت ساعده وسنده وقاعدة استقامته المتينة ومؤنس وحدته.. أنت أيه الفُتيح الراحل من كان لذلك الطفل الوليد يومها راعياً ومربياً.. وأنت من كان له يوم شبته وشبابه الرفيق بالطريق والمعين على وقوفه.. وكنت أنت بالنسبة له بعد أن بلغ الحُلم ودار عليه القلم.. كُنت له الأب المثالي والصديق الصدوق والمستشار الأول، الذي أوصله إلى مرحلة الاكتمال وهجر العزوبية.. وانتظرت حتى جاءك الحفيد، وهناك بدأت شجرة الفُتيح تتفرع وتؤتي ثمارها، فهناك سلمت الراية لحفيدك وقلت لفلذة كبدك مطر.. احذر على محمد من خلفك، كما كنت أنت بالنسبة لي يوم طفولتك.. فكيف إذاً تركته وتركتنا اليوم وودعتنا إلى ما لانهاية ولسان حالك يقول: (الرفافيح في يدي...والجراح في ساعدي.... وأنا شارح موعدي...والبلاد ضاقت بنا....ما بقى غير الرحيل) فكيف لك أيه الوجه المبتسم لصباحيات كل يوم جديد وصاحب الوجه المودع بابتسامة الرضا الحقيقي عند غروب شمس كل يوم راحل.. كيف لك أن ترضى بالوداع النهائي والوداع الأخير، وتعلن لكل محبيك طلبك ورضاك بالرحيل الذي قلت عنه (ما بقى غير الرحيل). كيف لك أن تتخذ قرارك النهائي مع استغفارنا الشديد لله سبحانه وتعالى بالتدخل في أوامره.. نقول كيف اتخذت قرارك النهائي دون سابق إنذار، كأن تقول لنا فُرادى وجماعات.. وداعاً يا أحبتي هاأنذا راحل خاصة وأنت المسافر إلى بعيد.. تعرف.. وتعرف أكثر مرارة الفرقة والغياب، فكيف تسمح وسمحت لنفسك أن تفارقنا وتتركنا بدونك وأنت من قال: ( والغائبين ذوبتنا نار غربتهم.. نهجل نغني لهم نحلم بعودتهم.. ما يوم هب النسيم إلا وقريتهم.. تقول ويلي أنا من طول غيبتهم..). فبماذا تجيب أيه المسافر من بيننا على طيور قريتك عندما تعصر هديلها وأهازيجها بلحون الشجن والحزن إذا ما قربت ساعة الغروب، وبدأت تأوي إلى أوكارها لتبقى وحدها تلك الطيور والنوارس، التي ألفت مجيئك إليها ومجيئها إليك، لا ترضى أن تأوي أو تودع خيوط الشمس المتدلية عند الغروب، إلا إذا كحلت أعينها برؤية هامتك واستمعت للطافة وشجن مهاجلك الحزينة، التي تتغنى بها عند الغروب، مردداً بها مفردات توديع تلك الطيور الأليفة، قبل أن تأوي في أوكارها مردداً لها بقولك: ( يا طير يا جازع...أنا بُكرة راجع ....إلى المرادع...أهجل بحولي ).. إذاً نقول لك أيها المغادر إلى ملكوت رب العالمين من الممكن أن نقنع أنفسنا ونجبر خواطرنا على الاقتناع بأننا بعد اليوم لم نعد نلتقي بك أمامنا، ولم نعد نستمع منك ومن لسانك الملقح بفصاحة الكلمة الشعرية ومفردات اللغة العامية، لم نعد بعد اليوم نستمع مناجاتك الحزينة للطيور، ومحاكاتك بلغة الشجن.. خضر الجداول وهمساتك اللطيفة لنسيمات الفجر وحفيف الشجر.. لكن كيف لنا أن نقنع الطيور التي تعودت أن تأتي مغردة بلحون الحب لتقف أمام شباك نافذتك أو على شجرة السيسبان المتدلية بفروعها الخضراء وأزهارها الملونة داخل حوش منزلك المتواضع.. الطيور التي تأتي عند الغروب لتبادلك وترديد المهاجل المسائية معلنة وداع يوم مضى وغروب شمسه. فكيف لهذه الطيور أن تقتنع أن عاشقها الأكبر وترجمان لغتها العامية هو الآخر قد أفل نجمه في الساعات الأخيرة من عصر يوم الخميس الثالث عشر من يونيو2013م حيث غاب وأفل كما تأفل الأيام والليالي، إلا أن الأيام تعود متجددة من جديد بينما الشاعر الفُتيح لم يعد بعد اليوم كي يقول لطيوره الزائرة: (أنا بُكره راجع ...إلى المرادع) كون الرجوع هنا بات مستحيلاً بعد الممات. إذاً أية مفردات حزينة وباكية سوف تطاوعنا وتستجيب لتوسلاتنا، كي نكتب بحروفها الدامية والمتوجعة رثاءنا الحزين في وداعك أيه المشقر بسحابة الشعر؟؟.. وأية صفحة من الصفحات سوف تقبل أن تزيح عن وجهها الرداء الأسود بعد أن توشحت وغطت عليه بخمار الحزن الأسود، لكي تتيح لنا أن نكتب بدماء قلوبنا رثاء الحزن بوداعك، يأبى مطر وأنت الإنسان الذي كنت بعاطفتك وحنينك تحاكي أحجار ورمال السوائل وأنت من رثيت ذات مرة الخروف المحبوب يوم أن مات حيث قلت ( نم مستريح البال قرير الأعيان .....واهنأ بتكريم “مالقوش” إنسان ...صلت على روحك صرور وغربان ) .. أما أنت إيه الشاعر الزاهد وصاحب القلب الرحيم نقول لك إن رحيلك وغيابك عنا لم يترك لعقولنا أفكاراً تتحرك وتتوجس وتحكي كلمات أو ترتب أبيات رثائية، ولم تعد أناملنا تقوى على ملامسة الأقلام، وتتحرك مع الحروف يمنة ويسرى، أو تضع نقاط الدموع على حروف المراثي كون رحيلك المفاجئ قيد كل حركات حواسنا، فلم نجد ما نختم به هذه المرثية سوى كلماتك التي قلت فيها: وابن الزبير بات بالجنة مع الأبرار الله رضي له عشق حوله وصان الدار.. عاش للسلى لو سمع ضربة فؤاده طار يسقي ترابه ترك لأفراحنا أسرار.. لكنك بالأخير لم تترك سوى عيون باكية ودموع تسقي الوجن، فوداعاً أيه المشقر بالسحابة، ونم قرير العين في الفردوس الأعلى.