عندما ينهزم أي شعب أمام عدو قاهر، أو يتعرّض لكارثة كبرى تنعكس هذه الهزيمة على أفراده سلباً وتؤثر فيهم، وعند هذه النقطة تفترق الشعوب إلى صنفين رئيسين وبينهما أطياف وأنواع، صنف يقاوم هذه الهزيمة بشتى أنواع المقاومة، ومثل هذا الشعب يمكن أن ينهض من كبوته، وصنف آخر يستسلم للهزيمة، وهذا الصنف تشيع فيه ثقافة الشكوى. وهي ثقافة مدمرة تنتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم، لأن الشكوى سائغة للنفس البشرية، خاصة إذا وافقت هواها وأرادت أن تغطي بها عيوبها وهزيمتها. وثقافة الشكوى هي إلقاء التبعة دائماً, وفي كل الأمور على الآخرين، في الفشل، في الهزيمة، في عدم تحقق الأهداف.. ثقافة الشكوى من وجه آخر هي عدم تحمل المسؤولية، وعدم اتهام النفس بالتقصير. وهي تبدأ بتدمير المجتمع ابتداء من الفرد نفسه، وسترى حينئذ انعدام المبادرة عند الأفراد وعدم تحمل المسؤولية وإلقاء التهم جزافاً على الآخرين.. فالجميع متهم عند الجميع. وستجد كل فرد يتهم الآخرين ويتهم المجتمع بأنهم السبب في فشله في الحياة، وستجد إصراراً غريباً من كل فرد على أنه هو وحده على الحق, وأن كل من سواه أغبياء ولا يفهمون، وأنه مضطهد لأنه ذكي وألمعي، وأن الآخرين يحسدونه ويضعون العراقيل في وجهه. كل هذا وأكثر ستسمعه من المجتمع، الذي يبتلى بثقافة الشكوى، والغريب أن الجميع يتكلمون أو يحملون في سرائرهم مثل هذه الشكوى من الآخر، ولا يقبلون بمجرد التفكير وإعادة النظر في هذه الشكوى أهي حقيقة أم وهم؟ لأنه إذا كان كل فرد في المجتمع يعد نفسه ذكياً وألمعياً ومع هذا لم يعطه المجتمع أو المؤسسة أو الجامعة أو أسرته لم يعطوه الفرصة ولم يضعوه في المكان اللائق.. إذا كانت المسألة هكذا من كل فرد تجاه غيره فمن هو الظالم إذاً؟ النتيجة أن الجميع مظلومون، لأنهم لم ينالوا الفرصة، ولأن الآخرين أغبياء ويحسدونهم، والحق لهم فقط. تخيل مجتمعاً تسود فيه ثقافة الشكوى من الآخر إلى أين سيصل؟ تخيل معي شعباً: - كل فرد فيه متأكد من أنه مظلوم، والآخرون هم الظالمون. - كل فرد ذكي، والآخرون ليسوا بذكائه.. تعبير مؤدب!.. - كل فرد كان يمكن أن يكون ناجحاً، والآخرون وقفوا عائقاً في طريقه.. - كل فرد يعتقد أن الحقيقة معه فقط.. - كل فرد يعتقد أن الله تعالى سيأخذ له بحقه إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة من هذا المجتمع المجرم.. - كل فرد يعتقد أنه هو وحده النظيف والنزيه والآخرون مشبوهون.. تخيل معي شعباً أفراده يفكرون بهذه الطريقة سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات والتجمعات ما الذي سيحصل له في النهاية؟.. النتيجة الطبيعية لهذا المجتمع كالجسم الذي يصاب بالسرطان فتتوحش خلاياه وتؤذي الخلايا المجاورة لها والنهاية موت الجميع.. هكذا سيحصل في المجتمع الذي يحمل ثقافة الشكوى، كل فرد سيتمكن يوماً من سلطة ما سينتقم بطريقة أو أخرى من هذا المجتمع الذي هضمه حقه (كما يعتقد) والنتيجة موت المجتمع سياسياً واجتماعياً وثقافياً وسلوكياً ولن يأمن أحد من أحد. خطورة هذه الثقافة إنها تبدأ بالفرد، وأول التخريب يبدأ بأسرته فهو غير مرتاح لأن أهله هم السبب في... وزوجته هي السبب في... وأولاده هم السبب في... وهذه الأسرة ستكون في مأساة لأن الجيران هم السبب في ... والأقارب هم السبب في ... والموظف غير مرتاح لأن المدير هو السبب في... وزملاءه هم السبب في... والحكومة فاشلة لأن الشعب هو السبب في... والشعب غير مرتاح لأن الحكومة هي السبب في... الكل هو السبب في فشل الكل. ولا يتوقف احد ليسأل نفسه... وأنا أليس لي دور؟ هل أنا بهذه التفاهة لأكون فرداً مسيراً يتلاعب بي الجميع؟ ومن المسؤول عن حياتي أنا أم الآخرون؟ وهل فعلاً يملك الآخرون هذه السلطة ليجعلوا حياتي تمثيلية محزنة، أم أن هذا مجرد وهم لأهرب من حقيقة أني أنا المسؤول وأني لم اتخذ الأسباب الصحيحة وأني كسول وغير مبادر و.. و.. و.. لا تنس أنك خليفة الله في أرضه... لا تنس أن التغيير يبدأ منك... لا تنس أنك ستَقدُمُ على الله فرداً وتحاسب عن حياتك فرداً. فلا تكن من زمرة أهل الشكوى.. احذر من هذه الثقافة أن تصيبك فأنت ستكون أول ضحاياها..