أختي مريم، أرجو عدم إهمال رسالتي، لأنني ترددت كثيرا قبل أن أخطها، لأن كل كلمة منها تعيدني إلى ذكريات مؤلمة أحاول أن أنساها، لكن وبما أنني لا أستطيع، قررت أخيرا أن أخبر الجميع عبرك عن معاناتي، وما قاسيته وما أزال أقاسيه مع ذاك الإنسان الكريه الشرير، السكير البشع المستبد القاسي الفارغ من المشاعر والأحاسيس، الذي لا يعرف ربه والذي يسّمى والدي . هكذا بدأ "علي" رسالته، استغربت كلامه الجارح وحقده الدفين على والده، فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله، أكملت رسالته بشغف لأنني كنت واثقة أنني أمام قصة غريبة ومؤلمة . كتب يقول: أنا الولد الخامس لعائلة مؤلفة من اثنتي عشرة فتاة وصبي، حظنا السيئ أرادنا أن نكون حاشية لشخص مزواج، نعيش تحت سقف واحد مع نسائه الأربعة، أنا من زوجته الثانية التي عانت منه الكثير بصمت وأناة، خوفاً على حياتها وحياتنا فلم يكن جسمها النحيل ليحتمل أكثر، لذا كانت تتقوقع وتحضننا عندما يعود، حتى لا نتحرك أو نفعل أي شيء يؤدي إلى إثارة غضبه واستيائه، وفي المساء كانت تضعنا في غرفتنا وتتحضر لخدمته مع الباقيات، فكانت واحدة تحضر له العشاء والأخرى زجاجة الكحول والثلج، وأخرى تدعك قدميه في الماء الحار . أما الرابعة فتقف بجانبه كالجندي المتأهب للأوامر، أما هو فكان يجلس ويضع البطاقة الخاصة ببرامج شاذة مخجلة، ويجبرهن على المشاهدة معه ثم يعيرهنّ بأشكالهن وغبائهن، ومن ثم عندما يبدأ مفعول الكحول يعطي نتائجه تبدأ مأساتنا، فهو تارة يبدأ في الغناء بصوت عالٍ ولسان ثقيل، أو يبدأ بالصراخ عليهن حسب حالته النفسية، وتأثير ما يشربه، فيستغل حجة بسيطة ليحولها إلى مشكلة كبيرة، فيمسك عقاله ويبدأ بضربهن واحدة تلو الأخرى، وإذ لم يشفِ غليله منهن كان يتوجه إلى غرفنا، فيزيح الغطاء الذي نختبئ تحته ونحن نرتجف كالفئران، ويبدأ بضربنا حتى يتعب، فيذهب إلى غرفته لينام وهو يخور . كنا نجتمع كلنا في غرفة واحدة، بعد أن تذهب أمهاتنا المسكينات لتنظيف المجلس، ولملمة عدة السكر والشيشة الملغومة بالمخدرات، و . . ما تبقى من كرامتهن المبعثرة هنا وهناك، يطبطبن على بعضهن، ثم يعالجن من كانت الأذية والضرب قد لحق بها أكثر من غيرها، ستقولين الآن مستحيل أن يفعل كل تلك الأشياء من دون سبب، لك أقول إنه إنسان معقد مريض، لديه انفصام في الشخصية أو مسكون، لا سبب ثالثاً، أما إن تساءلت لماذا لا نشتكي عليه فأقول أيضاً، عندما تحالفت أمهاتنا وقررن أن يشتكين عليه، توجه إلى المركز حيث اجتمع بهن قائلاً، بصوت خافت، إن لم تسحبن الشكوى وتتراجعن عن كلامكن فأنتن تعلمن ماذا سيحدث لكن ولأولادكن . خفن علينا من بطشه وتهديده، وفعلن ما طلبه، لكن الضابط شعر بأنهن خُذِلْنَ، وشعر بحسه المهني بأنهن مظلومات، فأخذ منه تعهداً بعدم الاقتراب منهن، أو محاولة أذيتهن بأي شكل من الأشكال، فضحك وقال: يا حضرة الضابط، أنت تعرف إن النساء كيدهن عظيم، فقد اتفقن علي لأنني عاقبتهن على شيء بسيط لتأديبهن وقد جعلن منه شيئاً كبيراً، إنها مشاكل حريم وغيرتهن فلا عليك منهن، أنا من المستحيل أن أضرب امرأة حاشا وكلا، لكنهن اخترعن هذا الموضوع واتفقن علي، أَتُصِدِّق؟ قال الضابط وهو ينظر إليه بسخرية، وبالطبع لم يصدقه، هكذا يكون الرجل الشهم، لكن أرجوك لا تنس أن هناك تعهداً منك وأتمنى أن تحترم ذلك . خرج من المركز كالمجنون . . خلع غترته وعقاله هو يسير أمامهن، كي يفهمن ماذا ينتظرهن وانطلق بهن إلى المنزل، وهناك لن تصدقي ماذا فعل، لقد جلدهن جميعهن بعقاله وركلهن بقدميه . . كان كالثور الهائج . . أصبح الزبد يخرج من فمه، من كثرة الشتائم واللعنات . . كنا نحن نصرخ ونبكي وهن يتوسلن إليه كي يتوقف، وفجأة تركهن وجلس على الكنبة وهو يلهث . . أشعل سيجارة، وهو ينظر إليهن بغضب عارم، ثم أمسك السيجارة وأخذ يحرقهن بها على شفاههن، وحتى بذلك لم يكتفِ، فقام وأتى بموس الحلاقة وحلق شعرهن . . صدقيني لا أستطيع أن أخبرك عن كل عما فعله، لأنه لن يكون صالحاً للنشر، فهي تحوي أشياء لا يحتملها ذوو القلب الضعيف، صدقيني لقد توقفت عن الكتابة عدة مرات لأمسح دموعي عندما أستعيد ذكريات هذا اليوم الفظيع، انه مريض نفسي هذا الرجل، ولا يملك ذرة من الإنسانية . هنا أيضاً سوف تتساءلين أين أهل الزوجات منه، سأجيبك، إن زوجتيه اللتين كانتا من هنا قد طلقتا منه، فلديهما أهل التجأتا إليهم، لذلك قرر ألا يعود ويتزوج فتاة من هنا . لأبدأ بوالدتي فهي مصرية ومن أسرة فقيرة . . كانت تكلمهم على هاتف الجيران عدة مرات في العام على أمل أن تراهم . . حملت بشقيقتي ثم بي وبأخي الصغير فتقلصت اتصالاتها، ثم أزالت من رأسها نهائياً فكرة السفر إليهم، لأنه قال لها إن أردت الذهاب فافعلي، لكن أولادي سيبقون هنا ولن ترينهم بحياتك فهو يعلم تماما مدى تعلقها بنا، والفقر المدقع عند أهلها فهل تعود إليهم مطلقة وتتركنا؟ الثانية من الهند، والثالثة من باكستان أما الرابعة فكانت من البوسنة . . أما السبب الرئيس لكتابتي هذه الرسالة فهو ما حل بي، فأنا الآن مقعد بسببه، ففي يوم من الأيام، وكنت أبلغ السادسة عشرة، هجمت عليه لأمنعه من إيذاء والدتي، فأخذت أضربه بيدي وأركله بقدمي، انتابتني نوبة من الجنون فقام عنها، والشرر يتطاير من عينيه، استدار صوبي وهجم علي، خفت كثيراً منه، أردت أن أهرب من أمامه فسد علي الطريق، خرجت بسرعة على الشرفة وأنا أفكر ماذا أفعل، فتبعني وعينيه تقدح شررا، أردت أن أدافع عن نفسي هجمت عليه فما كان منه إلا أن دفعني بقوة، فوقعت من على شرفة المنزل المؤلف من ثلاثة طوابق، وأسقط من فوق وأتى ظهري على السور حيث انكسر عمودي الفقري وشللت في ساعتها . نعم أنا شاب أبلغ الثانية والعشرين ليس فقط مقعداً، بل معقدّاً ويائساً وبائساً ومتشائماً وحزيناً أكره الدنيا وأكره نفسي وحياتي، شرس حاقد عليه، أتمنى لو أنني أستطيع الوقوف على قدمي لأقتله وأنهي عذاب كثيرين، لكن إعاقتي تقيدني تقتلني . . تقهرني . . أشعر بغصة كبيرة في قلبي وخوف على والدتي وأشقائي، أصلي كثيراً علني أستطيع أن أزيل هذا الحقد من قلبي، وأنسى أو أسامح لكنني لم أستطع، كيف أستطيع ذلك، هو لا ينظر إلي إلا بطرف عينيه، يتحاشى الاقتراب مني أو النظر إلي، فأنا بصمة عار لأعماله ستظل ماثلة أمامه طوال حياته . عندما أخذوني إلى المستشفى واستيقظت في الطوارئ، سألني الطبيب عما جرى أردت أن أصرخ وأشير إليه وأقول هو السبب لقد دفعني، إلا أن والدتي أسكتتني قائلة لقد تعثر ووقع عن الشرفة، عدت إلى غيبوبتي مجدداً، فرأيت نفسي جالساً على سحابة بيضاء، وأنا أنظر إلى الأرض، فرأيت رجلا يحمل ابنه بين ذراعيه ويقبله، وطفل ينادي بابا ويركض إليه ويرمي نفسه بين أحضانه، لكنني عدت إلى واقعي المرير، حين سمعت صوت والدتي وكأنه يأتي من بعيد وهي تصرخ يا حبيبي يا بني، ليتني كنت أنا مكانك، عندها علمت بأن شيئا خطيرا قد حصل . فقد أخبرها الطبيب بأنني لن أستطيع السير مجدداً، أنا الآن أجلس على كرسي متحرك، أتمنى لو أنني لم أَصْحُ من حلمي الجميل، مع والد محب حنون عطوف، أحبه ويحبني أهتم به ويهتم بي . صدقيني ليس أصعب على الإنسان من أن يكون محروماً من عاطفة الأبوة، فلو أحبك العالم أجمع ولم يحبك أهلك فهذا أقصى وأصعب ما في الحياة، أنا لا أصدقاء عندي ليشاركوني همومي، فممنوع عنا استقبال الناس، منذ أن كنا صغاراً ونذهب إلى المدرسة، لكن أساساً لا أحد في حارتنا يزورنا أو يعرفنا، فنحن بالنسبة للبعض منهم مجرد منزل كبير مسكون، إذ إنهم لا يسمعون سوى صراخ وبكاء، أو أصوات موسيقا وضحك هستيري . وللبعض الآخر نحن مجرد عائلة معقدة من والد مجنون ونساء لم يرهن أحد، فمن سيتجرأ ويقرع بابنا؟ وحده الحارس الهندي الذي يعمل عندنا، هو من يجلس معي ويعطف علي، فأشقائي قد أصبحوا مثل والدي، فهم يجلسون معه ليشاركوه في تناول الخمر، فهو لم يتبدل بل لايزال كما هو إنه وحش آدمي، لا يستحق أن يدعى أباً، لا يزال يعتقد بأنه سيعيش أبداً، لا يفكر في آخرته وعذاب القبر لا يفكر كيف سيقابل وجه ربه، ولا في يوم الحساب، وللأسف أصبح أشقائي مثله يسكرون في الليل وينامون في النهار، وكما يقولون: إن لم يكن ما تريد فرِدْ ما يكون، فهم بعد الذي حصل معي لم يحاولوا الوقوف في وجهه، فخوفهم منه جعلهم يماشونه، وقبلوا بكلمة جبناء على أن تكون لهم كلمة . الله يرحمهم، على كل حال ربما هكذا أفضل لهم، فهم يتمتعون بالأمان والأموال . أما أنا فلا أحد يسأل عني سوى والدتي الحنون، وشقيقتي الرائعة، أكمل دراستي في مدرسة في الخارج بوساطة الإنترنت، كتب كثيرة أقرأها، فأنا أشعر بها تتعاطف معي وهناك قلمي الذي يخط ألمي بحياة قاسية كلها قهر وعذاب . . ألم وجراحات . . مستشفيات وأطباء . . حياة بائسة عشتها سابقاً ولا أزال أعيشها من دون أن أشعر يوماً بالسعادة، لكنني أتمنى أن يكون مستقبلي أفضل من ماضيَّ، فأنا سأعمل يوماً، بإذن الله تعالى، وأستقل بمنزل يضمني ووالدتي وشقيقتي وشقيقي، لن أدعهم ينحرفون كالباقين، سأكون أنا والدهم كي يشعروا يوماً بإحساس الأبوة . . [email protected]