عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفتيح ، الديلمي ، الأسودي »
التجلّيات الوطنية في شعر الثالوث اليمني
نشر في الجمهورية يوم 12 - 09 - 2013

الوطن .. ذلك الغالي الذي يسكن النفوس ويعيش بعطائه الفيّاض في جنبات أرواحنا ويسمو بنا وبهذه الأرض التي تقلّنا إلى عالم رحب من الحُب تتراءى لنا من خلاله معاني الارتباط الوثيق الذي يمدّنا به إيماننا العميق بأن ليس هناك أطيب من تراب بلادنا ، ولا أسكن للنفوس من هوائها العابق بأريج المودة والمحبة.. عندما نتحدث عن الوطن مباشرة يأخذنا الزمن إلى السنوات التي قضيناها في رحابه وتقلّبنا بين حبّات ترابه ، وتلسعنا هزّة شوق إلى الماضي الجميل الذي ترعرعنا فيه ، وشكّل لنا من مهد الصبا مشروعاً مازال للوطن فضله الكبير علينا ، الأمر الذي جعل أبا الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري يجود بأزكى دمه شكراً وعرفاناً لهذا الوطن الذي جاد بسخاء لكل أبنائه بالخير والأمل الواعد بالعطاء.. فقال وهو يتنبأ باستشهاده:
بحثت عن هبة أحبوك ياوطني
فلم أجد لك إلا قلبي الدامي
ولمّاكان حب الأوطان من الإيمان كان لزاماً علينا أن نكون على قدر المسؤولية وعند مستوى هذا الحب حيث المطلوب منا العمل من أجله بكل أمانة وإخلاص وبذل المزيد من الجهود في سبيل نهضته وتنميته استشعاراً للمسؤولية ،وعملاً بالواجب وتكريساً لمفهوم المواطنة الصالحة الكفيلة في جعل الأفراد نماذج للصلاح والخير وحب الأوطان يتأسّى بها من سيأتي بعدها نظراً لما للوطن في نفوس أبنائه من الوشائج مايجعله متوهجاً أبداً في القلوب، وقد انبري الشعراء الوطنيون منهم لترجمة ذلك التوهج شعراً ومشاعر ، ومن أبرزهم محمد عبدالباري الفتيح، عباس الديلمي، وعبدالفتاح الأسودي، جمعناهم في هذه الدراسة النقدية لما بين الثلاثة من وشائج فنية ،ومشتركات لغوية ،وعلائق أدبية ،فظهرت التجليات مشبوبة بما راق من الأحاسيس الوطنية في شعر هذا الثالوث «الفتيح، الديلمي ، الأسودي » الذي استطاع ان يصوّر الوطن عبرتحليقه في العوالم الرحبة، والطيران في الأجواء الفسيحة من ربوعه الغالية على قلوب أبنائه ولقد كانت مهمة هذا الثالوث المبدع صعبة للغاية عظمت معها المسئولية نظراً لأن الوطن الذي سكبوا فيه شعرهم وطن توحّد بعد عناء التفرّق ،واجتمع شمله بعد وبال التشرذم ،وأصبح حلقة واحدة أينما يممت وجهاً رأيت قطعة عزيزة من وطنك وكأنها قطعة من جسدك تشعر بها بين جنبيك وحنايا قلبك.
سكبوا شعرهم مع إدراكهم أن أطهر الدماء قد سالت في رحابه ، وتجندلت على ساح الوغى والبطولة والشرف أكرم الشخصيات حين سقطوا على ترابه ،وذهب إلى الله فداءً للوطن أفذاذه المخلصون الذين تجشّموا عناء النضال وواجهوا المصائب والمحن حتى وصل إلينا هذا الوطن بجغرافيته التي تصل جنوبه بشماله وتربط شرقه بغربه في أبهى ولاء لله وأسمى معاهدة مع الله على عدم الانفصال ،حال تتجلّى فيه روعة التوحد والاجتماع ، وجمال الأرض محفوفة بأبنائها وقد جعلوا من الوطن مزاراً يتمسّحون بأعواد أعتابه حباً وإخلاصاً وعطاءً وولاءً وصدقاً يصنعه الصادقون العاملون ، ويحصده كل أبنائه الباذلون، في شعر هؤلاء ومن خلال ما سنختاره بعناية ودقة سنجد كم ان شعرهم قد جاء معبّراً عن أحاسيسهم التي لم يستطيعوا كبتها أوالتواري بها خلف حبهم وولائهم لوطنهم، إن الصيغة التقريرية التي قام عليها الموضوع تجرّنا إلى استجلاء ثلاث وظائف ألحّ عليها المعطى، يمكن أن نجملها في الوظيفة التعبيرية والتصويرية والتحريضية ،وهذه الوظائف هي المبحث الذي سنشتغل عليه خلال تحليلنا.
أما فيما يخص الوظيفة التعبيرية فإنها تتجلّى في مظاهر شتى ،سنقف عندها بشيء من الاستقراء نبدأه بمقطع للشاعر الفتيح ، الشاعر الذي يعد من أوائل الشعراء والمبدعين الذين أثروا بإبداعاتهم وعطاءاتهم الساحة الوطنية.والشاعر الفتيح يمثّل علماً من أعلام الشعر الشعبي ، وإن كان يكتب أيضاً الشعر الفصيح ، لكنه يصنّف كواحد من أبرز كتّاب القصيدة العامية؛ويكتب القصيدة الوطنية والعاطفية بمهارة واقتدار الأمر الذي جعلني أختاره ضمن هذا الثالوث للمكانة الرفيعة التي يحتلها شعره بين ما كُتب عن الوطن شعراً.
وما يتميّز به الفتيح في الموقف من الوحدة كما يقرّر ذلك الناقد فتحي الشرماني في دراسة قام بها عنوانها(جماليات الرؤية الوطنية في شعر «الفتيح») إنه لا يسلّم رؤيته الشعرية للعاطفة والهوس الرومانتيكي بالمعشوق الجميل (الوحدة)، وإنما يتخذ من هذه القضية قلقًا شعريًا جعله يتراوح بين الرجاء والخوف، بين الانشغال بصناعة الحاضر واستشراف المستقبل، وهي رؤية وطنية عميقة يظهر فيها الفتيح السياسي والفتيح النقابي والفتيح الإنساني الذي يهيم بالحقيقة ويقرأ في ضوئها مستقبل الوحدة الذي ينبغي أن يكون، ولذلك نجده يهتم بالأساس الذي تقوم عليه الوحدة الراسخة ليكتب لها الخلود، وكأنه كان يدرك ما سيؤول إليه حال اليمنيين في هذه الأيام، ولننظر في قصيدة (إلى شمسان الأشم) التي ألقاها في الملتقى الأول لشعراء العامية في مطلع الثمانينيات، فهو يقول:
عدتُ يا شمسان عاشق
عدتُ عاشق مش مخاتل
ومع سرب الحمائم والعنادل والبلابل
عدت والعودة لعاشق ذاب
ما فيها غرابة
عدت لك عازف ربابة
جئت لم أشتي لفولاذي صلابة
آه لو تحضن نقم في يوم تكونوا
عاشق ومعشوق
وأنا والشعر والشعراء بينكم ننبض صبابة
سلمت للكون شماريخك
مجللة بالمهابة
جاك (هنس) وراح (تريفيليان)
وأنت اليوم ما أروعك
شامخ مشقّسر بالسحابة.
فالفتيح في فكره الوحدوي لا يريد تحقيق الوحدة فقط، ولكنه يريد نموذجيتها أيضًا، وهذا الهدف جعله يحرص على علاقة ندية بين شطري الوطن على أساس من الصفاء والحب (عازف ربابة/مش مخاتل)، بعيدًا عن هيمنة شطر على الآخر، ففي تشخيص جبل(شمسان) ومحاورته نجده يرمز بنفسه إلى إنسان الشمال، وبشمسان إلى إنسان الجنوب، وجعل الأول يتحدث إلى الثاني بنكران ذات، في حين جرى التركيز على الإقرار بعظمة إنسان الجنوب ونبله وسمو مكانته، وقد رسم لجبل شمسان صورة سريالية (مشقّر بالسحابة) توحي بالمجد والشموخ والعزة كما توحي بالجمال وندرة المكون الطبيعي في تعانق الجبل مع الغيوم .
أما الشاعر عباس الديلمي فعشقه لوطنه وإعلانه عن حبّه لبلده اليمن وتعلّقه به تعلّق العابد بمحرابه ،فإذا بالعلاقة بينهماعلاقة عشق وهيام تتجاوز حدود الاعتراف بالوجود فيه إلى الوجد به ،يقول شاعرنا في قصيدته الشهيرة، التي غنتها أمل عرفه:
دمت للتاريخ محراباً مُهاباً
يمناً تزهو به العرب انتساباً
يفتدي طهرك ماءاً وتراباً
فتية إن أمروا المجد استجابا
من دم جاد به أكرمنا
شرب الضوء شموساً فجرنا
ومضت نحو العلا أفواجنا
تنشر الخير وتحمل موطناً
وحدتي من رام منها أن ينالا
خاسر خاسر يطلب خسراً وزوالا
فهذا المعجم التقريري ينفتح بنا إذن على عالم رحب من المشاعر والأحاسيس الراقية التي بوأت الديلمي مكانة مخصوصة في مدونة الشعر اليمني المعاصر، وأجزم أن الشعور الوطني عند الديلمي تماماً كما هو عند الفتيح حاد يصل إلى حد الذوبان والانصهار في الرمز الوطني الأوفى “لفظ وحدتي”فتقوم بين الشاعر ورمز عاطفته علاقات من الحب والإخلاص ثم النضال، فالفداء.
سنجد بين ثنايا هذه الدراسة كم أن الشعر الوطني وتجلّياته عند الديلمي وزميليه على هذا النحو يعد وسيلة فنية اتخذوها مسلكاً إلى النضال لا يقل أثراً في النفوس عن الفعل النضالي المباشر، إذ كانت المشاعر الوطنية منغرسة في أتون القلوب المتوهجة عشقاً، فالوطنية بذلك سواء عند “الديلمي ، الفتيح ، الأسودي “إحساس مقدّس لاتضاهيه أية قيمة أخرى ، فكل واحد يستمد نفاسته من مشاعر الحب وقداسته من مبادئ الوطن وقوانينه ،غير أن شعراءنا الثلاثة الوطنيين قد تجاوزوا حدود التعبير الذاتي إلى التصويرالموضوعي للوطن بواقعه الأمر الذي أظهر الوطن من خلال شعر هؤلاء بصورة رائعة تشف عن وجه جمالي منزوعة عنه صور البشاعة والفظاعة ، وكل ما يثير الاشمئزاز في النفوس الحرة ، لذلك وجدنا ما انتقيناه من قصائد متماسكة غير مجتزأة أومبعثرة لما تتمتع به من قوة في الألفاظ وجزالة في المعاني ،ومباشرة في التوصيل ، وجنوح إلى الفنية الجمالية المحببة إلى النفس والتي تجعل الشاعر كنتيجة طبيعة لذلك يهب هبّة إلى مخزونه اللغوي لاستيفاء ما يراه ضرورياً في حق وطنه كونه متملكاً لناصية الكلمة والحرف والمعنى ،لذلك لم نرهم يكتفون بتصويره والتعبير عن حبهم للأرض، بل ارتفعوا بشعرهم إلى مراتب متقدمة من الإبحار في شاطئ الوطن ، ولأنهم كانوا صادقين في حبهم لأوطانهم إنقاد لهم المعنى ،وسار نحوهم الحرف ، وتوقفت عند ساحتهم أرق الألفاظ ،وتكالبت حولهم بنات الأفكار،كل واحدة تخطب ودهم علها تحظى بهم ، لذلك جاء شعرهم جميلاً سهلاً، ممتنعاً، لا يستطيعه كائن من كان من الشعراء إلا من تفنّن في رسم الحرف ونقش الكلمة والمعنى.
الديلمي وفي بقية المقطوعة التي سقناها آنفاً مازال يردّد:
موطني بالحب قد زدت اكتمالا
وعشقناك وئاماً وجمالا
على منديلك الأخضر
سكبت عواطفي عطراً
وفوق جبينك الأسمر
رأيت المجد والفخرا
غير أن هذا الملفوظ الوطني يتجاوز شخص الفتيح والديلمي إلى الشاعر المفتون بجمال وطنه عبدالفتاح الأسودي الذي عبّر عن حبّه لوطنه بأبيات بدت آية في الجمال والروعة لا لشيء إلا لأنها تدق في وتر حساس ، وهيام الاسودي بوطنه مسلك قريب من مسلك سابقيه، والمجرى الذي سار فيه سهل بسيط إلا أنه ممتنع بلغته الانسيابية ، وشوق الشاعر في هذا السياق هذه المرة يظهر مدى لهفته للمكان “الوطن” وكأن الشاعريؤوب إليه بعد طول غياب وإبعاد، لما يشعر به من قداسة الوطن ونفاسته في نفسه، وفي هذا المقطع سيشعر القارئ كيف أن الشاعر يريد من من خلال بعض الصور أن يعود بالقارئ إلى زمن جميل..وكما اسلفنا فإن الذي جعلنا نجمعهم في هذه الدراسة النقدية لما بين الثلاثة من وشائج فنية، ومشتركات لغوية،وعلائق أدبية كالذي عهدناه ما بين الشاعر عبدالفتاح الاسودي والشاعر محمد عبدالباري الفتيح نظراً لما يشعر به من تقارب ما بينه وبين الشاعر الاسودي لإعجابه الشديد بشعره فقد وقع اختيارنا على قصيدة من قصائد الأسودي ، قصيدة تحدث عنها الفتيح بنفسه وأعجب بها أيما إعجاب ، علماً أن هذه القصيدة وإن كنا قد توقفنا معها نقدياً عند بعض مفردات الجمال فيها إلا أننا نقف معها مرة أخرى ولكن من زاوية أخرى لما كانت تمثّل القصيدة في وجدان الفتيح الذي نجمعه اليوم وطنياً مع الأسودي والديلمي.
في تقريضه لإحدى قائد الاسودي وصف الفتيح الشاعر بأنه آخر عشاق «تعز» واصفاً إياه بالشاعر المبدع الممتلئ صدره بشلاّلات من الجمال وقيمه الرفيعة والراقية، وقرر أن الشاعر بقصيدته التي بين أيدينا مفاجأة ومن قرأها أعادته إلى أيام الصبا, ومن سمعها مغناة أخذته إلى عوالم من الفن الجميل والنبيل, ونحن كالفتيح لن نطيل فما قل ودل يكفي وسنضع النص بين يدي القارئ الكريم للفائدة والمتعة ونقول كما قال الفتيح: بوركت أيها الأسودي المبدع:
هذه الأنسامُ من رأس(العَروسْ)
تستحثّ الوجدّ في قاعِ النفوسْ
تنفض الحزنَ عن القلب العبوسْ
ثمّ تُلقِي في الهوى كَمْ يادروسْ!
في رباها العيش أطيب
والهوى أنقى وأعذب
ليس عنها الروح ترغب
***
ماأحَيْلَى ركعة في(الأشرفية)
وانصهار الوهج فوق(المَعْتبية)
والنَدى ينجابُ نفحاتٍ زكيّة
من مقاماتِ النقاءِ(اليَفْرُسِيّة)!
إنها أغلى الغوالي
حظّها في العزّ عالي
كيف لا وهي المعالي؟!
***
لو بدتْ يوماً على الآفاق أزمه
تغتدي حِضناً يداوي كلَّ غُمَّه
إنما لوفاض فاضت فيه أمَّه
هذه فعلاً(تَعِزُّ)
كلها مجد وعِزُّ
بالثقافاتِ تنزُّ
والشاعر الأسودي في تغزّله بالحالمة تعز إحدى أجزاء هذا الوطن ليدلل لنا أن الشاعر الوطني يجب أن يكون في شعره ذاتاً إيجابية يبعث الحياة في المكان وذلك نوع من الوطنية التي لايتقنها إلا أمثال الأسودي وزميليه.
إن الشاعر الوطني في نهاية الأمر أديب ملتزم بهموم شعبه وجمال وطنه، إذ يشاركهم أحاسيسهم ومعاناتهم، فيتفاعل معها وينفعل بها ، ليترجم ذلك صورة وصوتاً ،وإيقاعاً موسيقياً حماسياً يستحيل نشيداً يصدح به الناس في ساحات الجمال إذا ذكر جمال لا مكان، ويهربه الوطنيون في مناشير الحياة، اقرأ له وهو ما زال في ميدان الوصف مع الحالمة تعز يقول:
هذه بنتُ الزمان الحالمة
لم تزل فيها الأماني قائمة
لم تزل طاقات فجرٍ عارمة
تفتدي كلّ الشموس الهائمة
هاهنا المعنى تجلّى
مُذ(معاذ) فيه صلّى
وإذا التأويل أجلى!
***
روح إبداعِ تجلتْ في مدينة
تمنح الأرواحَ أفياء السكينة
ذات حُلْمٍ تحفظ الدنيا حنينَه
منذ أهل الله أسموها(عُدَيْنه)
في (صَبرّ) لها مغاني
حافلاتٍ بالمعاني
ب(ابن علوان) اليماني
***
هاهنا هذي الروابي والسهولْ
تلهم القلب المُعَنَّى مايقولْ
منتهى الإبداع في شعر(الفضولْ)
لحْنُ(أيوبٍ) كساها بالذهولْ
ماأحيلاها بلادي
صانها ربُّ العبادِ
من بلايا أو أعادي!
في زواياها عطورات(المُظفَّرْ)
في حناياها الهوى العذريَّ أخضرْ
ليس أنقى من مراياها وأطهرْ
إنها قلبٌ بوهجِ الحُبِّ أثمرْ
سوف تبقى في عُلاها
فوق رأس المجد جاها
يأسر الدنيا هواها
وبعد هذه الاستفاضة ألا يوافقني القارىء الرأي بأن هذا الثالوث قد استطاع أن يسكب في ميزاب الوطن ماءاً نقياً من الإحساس الصادق والمشاعر النبيلة تجاه الوطن ،وأنا أقول مثل هذا الكلام لتأخذني نشوة أتذكّر من خلالها قول الشاعر:
ويا وطني لقيتك بعد يأسٍ + كأني قد لقيت بك الشبابا وما كان لهذا الإحساس أن يتوقف لدى هذا الشاعر وثالوثنا المبدع«الديلمي ، الفتيح ، الأسودي» عند مرتبة العشق الساذج الذي يتلذّذ بالأخذ ومجرد القرب من الحبيب بقدر ما ارتقى إلى مرتبة التعلق والتصاق القلب بالقلب ،والروح بالروح ،وتبادل الأنفاس زفرة بزفرة ،والأوجاع شهقة بشهقة ،وتلك درجة من العشق الناضج والعطاء السخي لايظفر بها إلا العشّاق الصادقون، وقد كان «الديلمي ، الفتيح ، الأسودي » كذلك وذاك هو دور الكلمة الصادقة التي تخترق الحواجز لتستقر في النفوس المؤهلة لحملها ألماً وأملاً.
إن الشعر الوطني ذو وظائف متعدّدة تترابط كالضفيرة المتعددة الأضلاع، فهو تعبير وتصوير وتحريض ، تتوزّع خلاله معاجم شتى غزلية ودينية وقيم إنسانية كونية ،نسجها الشعراء على نحو من الإبداع الفني والإيقاع الموسيقي ما جعله لحناً تطرب له النفوس المقهورة فتترنّم به ناسية أوجاعها وغازلة نسيج أحلامها المؤجلة إلى أمل تشرّسف به أوطاننا.
إن بين شعر الفتيح والديلمي والأسودي مسافات مختصرة من الإبداع ،وخطوات متقدمة من الفنية الشعرية الوطنية التي استطاع هذا الثالوث أن ينتصب لها شاعراً فذاً لم يترك مستوى من مستويات اللغة ولامساراً من مساراته إلا ولجه ودلج إليه وحاوله جاهداً سعياً منه لتقديم نص ذائق الجودة ، ومحكم الهيكلة، الأمر الذي جعله يعود بالمتعة والنشوة على المتلقي ، أمور مجتمعة جعلت القارئ يألف هذا الثالوث الجميل الذي استطاع أن يؤثر فينا لكثرة المران ، والدق على وتر الوطنيات ، وأنغام المكان الساحر الذي قدّمه لنا هؤلاء الثلاثة في أطباق من ذهب.. الكلمة والحرف والمعنى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.