أرجو أن لا تُفهم كلمة سلام هنا على أنها الأمن والاستقرار كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى.. فالسلام الذي نعني به هنا في هذه التناولة هو التحية أو التحايا المملوءة بالأشواق والتي يرسلها عادة عاشق يائس شطّت المسافة بينه وبين من يحب ،فبحث عن وسيلة تخفّف عنه لواعج الأشواق ,فمرة حمّل النسيم سلامه وأشواقه.. ومرة كان الطير هو الذي يحمل السلام بين العشاق والمحبين.. وأحياناً كان المسافر هو من يقوم بهذا العمل و بهذه المهمة.. فالشاعر الذي كان يعجز – لسبب أو لآخر- عن إرسال مكتوب أو رسالة فإن أقصى ما يتمناه هو أن يقوم المسافر بإيصال سلامه إلى من يحب لعلّ ثورة العشق والحب والأشواق تهدأ قليلاً.. وبعضهم كان يعتب على محبوبه في عدم السؤال عليه، وسيكون قانعاً وراضياً إذا جاءه سلام فقط.. فالسلام هو الخيط الذي يربط بين حبيبين انعدمت وسائل اتصالهما ورؤيتهما لبعض.. دعونا نرى كيف عبّر شعراء الأغنية اليمنية عن ذلك في قصائدهم الغنائية.. ولنبدأ بالشاعر والفنان محمد سعد عبدالله والذي يقول في إحدى أغانيه: سلِّموا لي على خلّي كثيرْ واحملوا له الشوق من قلبي الكبيرْ وإنْ سألْ عن حالتي بالله أوصفوا له حالتي وان ما يصدّقش أحلفوا لُهْ من المقطع السابق ومن مفرداته وسياقه نعلم أن الشاعر يئن تحت وطأة حالة من الحرمان والجفاف كان البعد والفراق سبباً فيها.. وعندما بعث سلامه لحبيبه لم يكن حريصاً على وصول هذا السلام بقدر ما كان حريصاً على أن يصف حامل هذا السلام لمحبوب الشاعر الحالة البائسة التي هو فيها.. لعلّه حين يعلم بتفاصيلها يرق قليلاً ويبادله السلام الذي يمكن أن يخفّف من لوعته وشوقه.. إذا لم يصدّق إنني في حالة تدعو للعطف والإشفاق اقسموا له الأيمان بصدق وصحة على ما أنا فيه لعلّه يواسيني ويعطف علي ويبادلني نفس مشاعري الصادقة ،وإذا ما علم أحدهم بوجود مسافر يهيئ نفسه للرحيل باتجاه البلد الذي يقيم فيه المحبوب فإنه يسارع إليه ويستحلفه بالله إن صادف محبوبه أن ينقل إليه سلاماته وأشواقه.. وهذا يحدث عندما يسافر الرجل بعيداً ويترك زوجته فريسة لنيران البعاد.. هذا الملمح عبّر عنه بصدق عاطفي الفنان القدير أيوب طارش برائعته ((بالله عليك وامسافر)): بالله عليك وامسافر لا لقيت الحبيبْ بلِّغ سلامي إليه وقُلّه كم باتغيبْ ما اطيق أنا يامنائي للجفا والبعاد أذكر محبك وعوّد للصفاء والوداد وبعضهم كان يفضّ رسالته بشوق ولهفة لعلّه يجد بين سطورها ما يطفيء مشاعره الملتهبة ويخفّف من تأجح نيرانها , يلهث بين السطور ظناً منه أن الرسالة ستكون طافحة بالسلام الذي كان الشاعر يأمل أن يجده بين ثنايا سطورها، لكنّ صدمة عنيفة هزّته حين لم يجد سوى كلمات حادة تجلب الضيق والكدر وتعكّر صفو حياته.. هذه الحالة الإنسانية وهذا المشهد الإنساني الذي يتكرّر كثيراً عند بعض الناس عبّر عنه الفنان محمد محسن عطروش بمقطع من إحدى أغانيه يقول: جاني جوابك ياحبيبي جاني فرحت لما استلمته ..فرحتْ ظنّيته مُحمّل بالسلام كنت فاكر إننا باقرأ تحية في البداية ما كنت فاكر إننا باقرأ عتاب كان ظنّي فوق ما أصوِّر خيالك للحكاية شوف كل ما أنتَ كتبته ذنبْ في حقّي ارتكبته وشاعر الأغنية الحُمينية أبدع كثيراً حين جعل النسيم وسيطاً لنقل سلامه لمحبوبه ..اختار وسيطاً أميناً ووقتاً مناسباً لهذه المهمة وقد لجأ إلى اختيار النسيم لنقل سلامه ربما لحرصه على أن يحدث ذلك بسريّة تامة حتى لا يُذاع سرّه بين الناس.. فاختيار النسيم أرى أنه الأجمل لهذا السبب.. فماذا قال؟ قال: يا نسيم الصباح سلّم على باهي الخدْ نبّهه من منامه قُلّه إني على عهدي بحبّه مقيّدْ قد سباني غرامه وترك مدمعي مسكوب جاري على الخدْ مثل فيض الغمامة إنه إخلاص نادر أن يتكبّد الإنسان ويحتسي مرارة عشقه في سبيل الحفاظ على حبٍّ صادق.. كل ذلك ليبرهن لمن يحب عن صدق حبّه وإخلاصه.