تربّينا - للأسف الشديد - على قوالب جامدة لا تقبل التعديل إلا بعد أخذ ورد شديدين، وبعد سنوات طوال، ولا أقصد بالتربية هنا التربية المنزلية فقط، بل الموروث الثقافي والحضاري والديني بأبعاده العميقة.. ولئن كانت الفتوى تتغير بتغيُّر الزمان والمكان والظروف، وحيث كان الفكر الديني نفسه يتغير ويتطور مع الزمن والتجربة، تتجدّد الأسئلة المطروحة على الدوام وبشكل مطرد. تربّينا منذ صغرنا على أن الأغاني «فسق وميوعة أخلاق» وأن الموسيقى حرام، إلا ما كان من دف وطبلة وما شابه، أما الموسيقى الصاخبة أو تلك التي “تُرْقِص” فمنبوذة ومحذَّر منها، بينما كانت الأناشيد التي تحث على الدين أو الأخلاق أو الجهاد أو حب الوطن مقدّرة ولها العذر فيما تستعمله من أدوات موسيقية. وبفعل قولبة الأفكار وحتى الفتاوى؛ أصبح في عقلنا الباطل كل ما يقدّمه “المطرب” حراماً حتى ولو كان كلاماً جميلاً، وكل ما يقدّمه “المنشد” حلالاً حتى ولو انحرفت كلماته أو ألحانه عن الطريق. وهنا السؤال: هل المعيار هو الشخص أم الكلمة واللحن، هل نقيّم العمل الفني بمضمونه أم بمن يؤدّيه..؟!. ما الذي يرتقي بأفكارنا وعقلنا وحسّنا أكثر أغنية «يا قدس» لفيروز أم أنشودة ليس فيها أي نوع من الرقي أو الذوق الرفيع..؟!. من يمثّل قدوة أكثر “مطرب” محترم ومعروف عنه الاتزان والكلام في القيم، أم “منشد” يؤدّي أنشودة إسلامية روحانية أو اجتماعية حشر فيها الكثير معاني الفضيلة؛ لكن هذا المنشد لا يمثلها في سلوكه وواقعه..؟!. كانت الأنشودة في الماضي من النوع الذي يستحث الهمم ويرفع المعنويات، أما الآن فأصبح الكثير منها «حتى لا أعمم» مجرد كلمات تافهة ولحن غير سوي، فهل يجب أن تبقى نظرتنا إلى الأمور هي، هي، ألا يجب أن يكون تقييمنا نابعاً من التجربة نفسها وبموضوعية، أي بالبحث عن الكلام واللحن والمعنى والمضمون بعيداً عن الاسم الذي يقول كل ذلك..؟!. أذكر بشكل جيد كيف أنني تضايقت قليلاً منذ سنوات عندما اتصلت الفنانة نجاح سلام على برنامج «الشريعة والحياة» للدكتور القرضاوي وانتقدت كيف أن الناس لا تردّد أغنية فيروز للقدس، ولم يعب الدكتور القرضاوي عليها ذلك، بل ابتسم مؤكداً كلامها، كان ذلك قبل سنوات طويلة، ولكن بعد البرنامج، فكّرت في الأمر وانزعجت لانزعاجي السابق؛ حيث أعجبني انفتاح الشيخ على الأمر واعتباره ألا شيء معيب أو حرام في الموضوع. كل هذا الكلام، أنعشته في ذاكرتي “أغنية” وجدتها على الفسيبوك، فسمعتها “للممثل” المصري أحمد مكي؛ عندما تشاهد “الفيديوكليب” وتعي الكلمات بشكل معمّق؛ تستطيع أن تخلص إلى أنها كأغنية من ممثل عادي أبلغ وأقوى وأعمق من كثير مما نسمّيه اليوم «أناشيد» حيث يعبّر عن مضامين راقية ويحث على قيم رفيعة، ناهيك عن الشكل الفني وتفاصيله الدقيقة. وأخير هذه المادة هي مدخل أو دعوة للنقاش إلى كل المهتمين بهذا الأمر من كتّاب ومنشدين وفنانين ونقاد لإثراء الموضوع عبر إرسال آرائهم على بريد المحرّر أعلى الصفحة.