سلمان الحميدي ذكرى عابرة فَزِعتُ من النوم، كانت المرة الأولى التي أفز فيها، مُتدثراً بتلافيف الليل ويلفني البرد. «إيش فيك، خذ الماء، اشرب» قال صديقي. اصطكت ركبي، دبّ الارتعاش في بدني، تضّرجت وجنتي خجلًا: هل فعلًا صرخت؟ تُرى ما كان الحلم؟ لم صرخت هكذا: يووووووه!؟ وقعت تحت ضغط كبير، دمتُ أيامًا بلياليها في بؤرة الأرق. أكملت سنوات الدراسة، وأزفت اللحظة التي سأرتدي فيها البالطو الأسود والقبعة الحالكة (قدرنا أن نَنْدُب حظنا ونتشح بالسواد في اليوم الذي نفترض أن نفرح فيه). كم أنا فاشل، ضاع كل ماكنت أرنو إليه، أهملت المنهج بغزارة فجنيت الدرجات الأدنى، لم يهمني ذلك. كان برأسي حفل هُلامي مصحوب بزغاريد الأمهات، تصدية الآباء، ومُكاء أصدقاء الشغب. وحين همّ بوصله؛ أكننتُ الاحتفال في صدري، فلم أُعلم أحداً. أشكُ أني لذتُ إلى الخصاصة ولم أشأ أن أتعب قريباً، أو تعلقت بمشجب عصاميتي المحضة. ينفغر فمي كلما أزف حفل التخرج. وليكن؛ سأتصنع الابتسامة وأصبغ النفاق على تجاعيد جبهتي. نمت.شادي ومحمد ناما أيضًا. شادي الوحيد الذي افرط بإبراز فتلات الدلال أمام ضحكته البريئة، ربما لأني أطول منه بسنتيمترات. ومحمد هو التوأم الذي صادفني بغتة، فدرسنا معًا، ضحكنا معًا، عانينًا معًا وعملنًا معًا. لم أنم من بعد تلك الفزة! هجم الصباح. امتد وشاحًا ذهبيًا من أعلى الكتف الأيسر، تدلى إلى القدم. حملت اسم الدفعة أسوأ اسم على مر العصور: مستقبل وطن. اعترضتُ على الاسم، كنت أقول إن دلالته هكذا: مستقبل مجهول لوطن مجهول!. اشترى الأستاذ عبدالملك عقدين من الفل، ولولاه لما تهادى إلى أنفي ذلك العبق. أتى فخر الصديق الذي علمني الطواف على بيوت الحب، والأخ الذي يُلقي عليّ قصيدة كلما احتسينا فناجين الشاي، كم احتسينا وكم انطربنا للقصائد ولصوت أيوب. أتي محمد العزعزي، لاتعرفونه بكل تأكيد، ثلاثة أشخاص حين أكون برفقتهم أكُ في ذؤابة الانسجام، لأنهم لايتكلمون في السياسة، نتحدث عن الحب، نغتاب بعض الصديقات، ونضحك من العالم: محمد عزعزي، عيبان وحمدي. بكل تأكيد، احفظ فوضى البهجة، أُصعر الأحرف لئلا تكتب عن تفاصيلها!. يلتقط الأصدقاء الصور مع أهاليهم، التقطت الصور معهم فجميعنا أهل. أومأ حمدي بيده صوب حبيبته، كانت في المدرجات، عرفتها من بعيد. لم يحتفظ بإكليل الورد الطبيعي، كان الورد في يدي، آلت الوردة الحمراء إلى الانحناء مُذعنةً لرغبة العطش. التقطت الصحفية الهولندية جوديت صورة لي، كنت برفقة العزيز جابر الغزير. عدنا للاحتفاء، تلجلجتُ بين النشوة والأسى، تصورت مع أحد مجانين الشارع. أحرقنا رؤوس الشيشة بشراهة متناهية. ثم أتى وقت التأويل: كنت آيسًا لأني لم أرفع رأس الأسرة ليبتهجوا معي، ليقطعوا المسافة بين المدائن متغلبين على الخصاصة ووعورة الطريق. كنت حزينًا: لأن وردة صديقي سيدفع ثمنها غاليًا من بدنه ويرفض إبلاغ الدولة خوفًا من بروتوكلات أقسام الشرطة الذين يُتعبون الضحية أكثر من الجاني. كنت حزيناً لأن جوديت ستُخطف، وستكون رهينة الخاطفين حتى اللحظة. كنت حزينًا لأن الوطن يغلي كما لو أنه فوق الجمر المتقد للشيشة الفاتنة!.