“نجم مات نجم مات آخر خبر في الراديوهات” وفي الصحف و القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والشبكات الاجتماعية.. أضيف هذه الوسائل الإعلامية للمقطع الشعري«المُحوّر»، والذي عبّر به الكثيرون من الكتّاب والشباب عن تفاجئهم وصدمتهم إزاء خبر وفاة شاعر النضال والثورة، شاعر مصر الشهير أحمد فؤاد نجم؛ هذا الشاعر الذي لم يكن يتوقع حين كتب مرثيته الذائعة عام 1967 معبّراً بها عن صدمة الجماهير إزاء خبر وفاة المناضل الأممي الشهير جيفارا؛ لم يكن يتوقع أن مطلع هذه المرثية الشهيرة سيعبّر بها جمهوره الواسع على امتداد الوطن العربي عن صدمتهم وتفاجئهم بخبر وفاته يوم الثالث من ديسمبر 2013. هذه الشهرة الواسعة لشخصيته الأدبية وهذا الانتشار لقصائده، والاحتفاء الممتد عبر أربعة عقود من قبل الأوساط الشعبية قبل النخبة، في زمن انحسار جماهيرية الشعر؛ هذه الظاهرة ألا تضعنا أمام سؤال جوهري متعلق بأزمة الشعرية العربية برمتها: ما سر هذا الرجل المصري النحيل الأشعث، ما سر هذه الظاهرة؟ هل نبحث عن السر في شخصيته، والتي ستحيلنا إلى تتبّع تكوينها، أي العودة إلى مرحلة التكوين قبل احترافه الشعر والممتدة من مولده عام 1929 إلى عام 1962 عندما أصدر أول دواوينه الشعرية «صور من الحياة والسجن». تگوين هذه الحقبة مكتظة بالأماكن والمهن والمحن؛ فمن قريته كفر النجم إلى الزقازيق التي التحق فيها بملجأ للأيتام وعمره ثمان سنوات فقريته مجدداً بعد خروجه من الملجأ وعمره سبع عشرة سنة، حيث اشتغل بها راعياً للأغنام. فيغادر مجدداً قريته ضاقت وارتحل منها متنقلاً من مدينة إلى أخرى مشتغلاً في الكثير من المهن اليدوية والحرفية من ترزي إلى عامل في مصنع الغزل إلى بياع سريح فأجير في إحدى الإقطاعيات، فعامل بناء.. حتى انتقل إلى العمل في أحد معسكرات الاحتلال الإنجليزي في السويس والتي ترك العمل فيها إثر احتجاجات 1951 ضد قوات الاحتلال فتعوضه الحكومة _ مثل زملائه العمال _ بالعمل في هيئة السكك الحديد ثم في البريد الذي أتاح له التجوّل في القرى والنجوع ثم في ورش النقل المكنيكي بعدها دخل السجن في قضية تزوير وخرج منه بديوان شعري، وبوعي سياسي جديد وباطلاع جيد على الأدب العربي والعالمي نتيجة احتكاكه بالمعتقلين السياسيين والأهم من ذلك خروجه مؤمناً بمصر التي كان يجهلها قبل ذلك، كما عبّر عن ذلك في مذكراته. بعد خروجه من السجن 1962 سكن في شقة فوق السطوح بحارة شعبية اسمها «خوش قدم» التقى فيها برفيقه الفني الشيخ الضرير إمام عيسى وبدأ تعاونهما الفني لكسب العيش متجولين في الأفراح وفي المناسبات الشعبية ومضيفاً إلى تجاربه السابقة تجربة التعرّف على الأحياء المصرية الشعبية والاحتكاك الأوسع بطبقات الشعب المصري. هل تكفي هذه السيرة الموغلة في المعاناة الشعبية للإنسان المصري البسيط ابن القرية وابن الحواري المصرية للاقتراب من سر الظاهرة؟ هذا الانبثاق من أوساط البسطاء تجلّى في قصائده التي حملت معاناة الفلاحين وإيقاعات أغانيهم، وعرق العامل المصري الكادح والمقاوم للاحتلال بأهازيجهم، كما تجلت روح الشعب المصري في قصائده بتلك السخرية الطافحة وروح النكتة المصرية، وبالإيقاعات والتراكيب والصور البسيطة المستمدة من مفردات الشارع المصري والتي تصل بسهولة لعقول وآذان البسطاء الذين سرعان ما يلتقطونها ويترنمون بها.. هل هذا سر الظاهرة، أي تكوينه الشعبي الخالص أم أن هناك مناطق أخرى يجب البحث عنها خارج حقبة التكوين..هل القضية هي السر؟ قضيته النضالية لم لا نبحث عن القضية السياسية التي ناضل من أجلها من خلال شعره، على اعتبار أن عنوانه الشعري الأبرز قصائده السياسية، وبما أن شعراء القضية غالباً ما يذيع صيتهم بقوة تأثير قضيتهم. ما هي القضية التي جعلته لا يتصالح مع أي نظام حكم مصر وبسببها دخل السجون مراراً.. وما الذي تنشده قصائد نجم وعلى أية أرضية فكرية و أيديولوجية تتكئ؟ أعتقد أن هذا الجانب من أعقد جوانب تجربة نجم، والسبب الأبرز هو ذلك المزيج العجيب بين المطالب الأساسية لعامة الشعب المتمثلة في رغبتهم بحياة كريمة لا تمتهن فيها كرامتهم ولا تقيد فيها ألسنتهم ولا تتسع في تراتبية مجتمعهم المسافات الشاسعة بين الطبقات كما كان حاصلاً في عهد الإقطاع؛ وبين الطموحات المثالية والأهداف المستوحاة من النظريات السياسية للنخبة المعارضة، اليسارية على وجه التحديد.. هذا المزيج يبدو متناقضاً من الناحية الفكرية نظراً للتأييد الواسع من عامة الشعب للنظام الناصري إزاء التكوينات السياسية المعارضة؛ إلا أن نجم استطاع الجمع بين المزاج الشعبي ومزاج النخبة المعارضة في معادلته الشعرية. الموضوعات التي تناولتها قصائد نجم السياسية تنوعت وتجاوزت القضايا المحلية لمصر، فمن القصائد الساخرة من مسببي الهزائم الوطنية«قصيدة حاحا وقصيدة اتخبطنا تحت بطاطنا..» إلى القصائد المؤيدة لقضايا التحرر في الوطن العربي والعالم«جيفارا مات، وقصيدة ورق في رثاء سناء محيدلي..»، ناهيك عن قصائد الحقبة الساداتية التي سخر فيها من الظواهر الاجتماعية السلبية التي رافقت سياسية الانفتاح«قصيدة بوتيكات»، كما وقف مناهضاً تحول السياسة المصرية والتحاق مصر بالحلف الغربي هذا التحول الذي اتضح جلياً بزيارة نيكسون لمصر ،إذ استقبله نجم بقصيدته الشهيرة نكسون بابا: شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووتر جيت عملولك قيمه وسيما سلاطين الفول والزيت وعندما وصلت مصر إلى أزمة كامب ديفيد وصل الصدام بين نجم ونظام السادات إلى مداه حينها استقبلت نجم مسارح الدول العربية المقاطعة لمصر وأصبحت الإذاعات العربية منبر أغاني الشيخ إمام السياسية وأشهرها إذاعة صوت العرب من بغداد.. وتُوّجت الحقبة الساداتية بقصيدته «بيان هام» التي سخر فيها صراحة من الرئيس أنور السادات مقلداً صوته وطريقة إلقائه في فعالية عامة مما أدى إلى محاكمته عسكرياً بتهمة إهانة شخص رئيس الجمهورية وقد عُد نجم أول شاعر يُحاكم في محاكمة عسكرية بسبب قصيدة..هذه أبرز ملامح القضية السياسية المتجلية في قصائد نجم ولعلها ظاهرة فريدة أن يمتد اهتمام شاعر عامي إلى كل هذه القضايا الوطنية والأممية وبهذا الانتشار. ولكن القضية كموضوع شعري أردتْ بشعرية الكثير من الشعراء، إذ حولت قصائدهم إلى منشورات سياسية خالية من الجماليات الفنية، فما هو سر احتفاظ قصائد أحمد فؤاد نجم برونقها الفني حتى أنها لم تسعص على التلحين والغناء. ملامح فنية لم لا نلقي بحمل سؤالنا عن سر ظاهرة نجم إلى متنه الشعري مباشرة، بعيداً عن السياقات التاريخية والاجتماعية مع إني لا أظن أننا نستطيع الابتعاد! لسبب سأذكره بعد هذه اللمحات الخاطفة لأبرز السمات الفنية لقصائد نجم. اختلف النقاد في تحديد أول شاعر نقل ثورة الشعر الحر«التفعيلة» من الشعر الفصيح إلى القصيدة العامية؛ هل هو فؤاد حداد أم صلاح جاهين؟..لكن المؤكد أن أحمد فؤاد نجم ولد مع هذه الثورة الفنية التجديدية مستخدماً تقنياتها دون الوقوع في نقيصة تقليد والتأثر الواضح بأحد رواد المدرسة الحديثة للشعر العامي والتي أصبح أحد رموزها. تحدثنا عن مفرداته المنتقاة من نبض الشارع المصري وعن بساطة تراكيبه وطرافة صوره الفنية، كل هذه العناصر انتظمت في إيقاعات الحداثة التي التحق بها الشعر العامي فنرى نجم يستخدم تقنيات السرد في معظم قصائده كما في قصيدة «كلب الست» التي يحكي فيها قصة مكتملة بطلها طالب فقير وتتوزع أمكنة المشاهد القصصية بين حي الزمالك والشرطة. وهناك تقنية التكرار وخصوصاً تكرار التقسيم، إذ تعمد القصيدة على تكرار جملة بداية كل مقطع أو في نهايته: جيفارا مات جيفارا مات آخر خبر فِ الراديوهات و فِ الكنايس و الجوامع و فِ الحواري و الشوارع و عَ القهاوي و َ البارات جيفارا مات جيفارا مات واتمد حبل الدردشة والتعليقات وهناك تقنيات أخرى كالتوازي والفلاش باك على الطريقة السينمائية، والصور الذهنية وهي أكثر من أن تُحصى، ولا بد من الالتفات إلى تقنية المفارقة السياقية التي تجمع بين المعنى القريب والبعيد كما في قصيدة جيفارا مات: يمكن صرخ من الألم من لسعة النار فِ الحشا يمكن ضحك أو ابتسم أو ارتعش أو انتشى يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع لَجل الجياع يمكن وصية للي حاضنين القضية بالصراع صور كتير ملو الخيال و ألف مليون إحتمال في هذه الجمل الخبرية المتتالية تتجلّى المفارقة التي تربط بأحابيلها المتعارضة بنية القصيدة بكاملها، إذ يعبر عن حيرة العالم إزاء اللحظات الأخيرة لجيفارا مع إنه في بداية القصيدة يبين لنا أن العالم بجميع وسائل إعلامه يتناقل خبر موت جيفارا، فهل تدل هذه الحيرة على الغموض الذي اكتنف عملية إعدام جيفارا أم هي جزء من أسطورة شخصية جيفارا؟. تقنية الحوار الذي كان يحول الشعر القديم إلى نظم واستطاعت القصيدة الحديثة أن تجعله مكوناً شعرياً خالصاً استخدم نجم في قصيدة كاملة «ورقة من ملف القضية» وهي مبنية على حوار في نيابة أمن الدولة بين ظابط ومعتقل سياسي وإليك بداية القصيدة الحوارية: .. أنت شيوعي؟ أنا مصراوي إنتو مصايب إنتو بلاوي ممكن أعرف مين الأول بيكلمني إحنا نيابة أمن الدولة دول مين دولة مصر مصر العشه ولا القصر والملاحظ من هذه النماذج القليلة التي سقتها لضيق المقام أن الشاعر استفاد من تقنيات القصيدة الجديدة وطوّعها لملاءمة شعره البسيط دون الوقوع في أحابيل الرمزية والإغراق الفكري وغموض الصور والتجريدات الذهنية محققاً المعادلة الصعبة في استخدام هذه الأساليب الحداثية في موضوعات سياسية واجتماعية ابتعدت عنها القصيدة الحداثية الفصيحة بحثاً عن صفاء الشعر والتجريد وغيرها من طموحات شعراء الحداثة.. كل هذا بالعامية المصرية التي اعتبرها نجم خلاصة العبقرية المصرية ونتاج حضارتها الممتدة. حل توفيقي! ومن هذا التواشج بين الأساليب الفنية وتطويعها للموضوعات السياسية يتضح صعوبة الفصل بين الشكل والتقنيات الفنية من جهة وبين المضامين المعبّرة عن القضية التي حملتها قصيدة نجم من جهة أخرى وهذا التلاحم بين الشكل والمضمون من أهم إنجازات الحداثة. ولأن القصيدة بكل تقنياتها وأساليبها لم تحقق الانتشار للكثير من شعرائها نستطيع القول: إن سر ظاهرة أحمد فؤاد نجم قد يرجع إلى هذا التلاحم بين مختلف الجوانب الفنية والموضوعية التي تناولناها في هذه اللمحات السريعة من تجربة الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم.. ألجأ أخيراً إلى هذا الجواب التوفيقي «المُريح» على أمل الارتحال مجدداً في عالم هذا الشاعر الظاهرة للخروج بدراسة استقصائية تفي تجربته بعض حقها.