سنرحل هذه المرة في أعماق إحدى قصائد شاعر المهجرالأكبر إيليا أبي ماضي وهي قصيدة «الغُراب والبُلبُل».. وسبب اختياري لهذه القصيدة بالذات هو أنها تلخّص ظاهرة اجتماعية لا يخلو المجتمع من بروزها, والأجمل في هذه القصيدة هو أن صاحبها اختار طائرين نقيضين في شكلهما وجوهرهما ليجعلهما عنواناً لمضمون قصيدته الرائعة وقد أفلح في استعارة هذين الطائرين ليعبّر من خلالهما عن حال بعض الناس.. فبدلاً من أن يدخل الشاعر دخولاً مباشراً في قصيدته ويبدأ في عقد مقارنة بين شخصين آدميين ويدير بينهما حواراً كالذي أداره بين الغراب والبُلبل فإنه فضّل أن يُبرز هذه الظاهرة من خلال الحوار الجميل الذي دار بين الطائرين.. والحقيقة ان الشاعر يمتلك خيالاً خصباً استطاع بمخزون هذا الخيال الواسع أن يجسّد ظاهرة سلبية ٍتنخر في جسم المجتمع ويوسّع هذه الظاهرة بعض من يعميهم غرورهم وسوء تقديرهم للأمور, فينظرون لها بوعي ناقص مشوّش .. وقبل أن نقوم بإلقاء الضوء على القصيدة وتحليل مضمونها وما تفصح عنه سنورد القصيدة كاملة لنبرز بعد ذلك مضمونها الذي يلّخص قضية هامة..تقول القصيدة: قال الغرابُ وقد رأى كلف الورى وهيامهم بالبُلبل الصدّاحِ لم لا تهيمُ بِيْ المسامعُ مثلهُ ما الفرق بين جناحه وجناحي؟ إني أشدُّ قوىً وأمضى مخلباً فعلامَ نام الناس عن تمداحي؟ ### أمفرّقُ الأحباب عن أحبابهم ومُكدّرُ اللذات والأفراحِ كم في السوائل من شبيهٍ بالطلى فعلامَ ليس لها مقام الرّاح؟ ليس الحظوظ من الجسوم وشكلها السرُّ كلّ السرّ في الأرواحِ والصوت من نعم السماء ولم تكن ترضى السما إلاّ عن الصدّاحِ حكم القضاء فإن نقمتَ على القضا فاضرب بعنقك مدية الجرّاحِ ### بعد أن أوردنا القصيدة كاملة لتأخذ شكلها الطبيعى وتستقر في ذهن القارئ سنغوص في أعماقها محاولين إبراز الصورة الجميلة التي رسمها الشاعر وهو يبني شكل هذه القصيدة ويضع خطوطها وملامحها لتصل إلى ذهن المتلقي ووجدانه جاهزة كاملة وما على القارئ بعد ذلك سوى أن يعتصر ذهنه وفكره للدخول إلى عمقها وكشف فحواها وعند هذه النقطة سنبدأ ونقول: لقد رأى الشاعر إن أفضل طريقة لإيصال فكرته وقضيته هي أن يجعل الغراب والبلبل طرفين أساسيين فيها وأعتقد أن سبب اختياره لهذين الطائرين بالذات وعزوفه عن إيراد طائرين آخرين نقيضين أيضاً هو ما يتمتع به الغراب والبلبل من شهرة واسعة في الوسط الإنساني عموماً وما يحظى به الإثنان من ذكر وترديد في أكثر من مناسبة, فالأول لقُبحه وشؤمه وكيف صار في حياة المجتمعات رمزأً للتطيُّر والتشاؤم والفرقة, أما الثاني فلجمال شكله ورقّة صوته وما يجلبه للإنسان من سعادة وبهجة ومتعة, لهذه الأسباب ولغيرها رأى الشاعر الكبير إيليا أبوٍ ماضي أن يكونا محوري هذه القصيدة وما تحمل من مضمون, فالغراب يتساءل باندهاش عن سر كلف الناس وهيامهم بالبلبل الصدّاح والغرِد ولماذا كل هذا الهيام والإعجاب بالبلبل مع أننا لا نختلف كثيراً في شكلينا، كلانا له جناح وله منقار وما الفرق بين جناح البلبل وجناحي؟ بالعكس أنا أشدّ منه قوة وصلابة ومخلبي أكثر حدة وقوة, فكيف غفل الناس عن امتداح صفاتي هذه وما أتمتع به من قوة وكيف لم يفطنوا إلى ذلك؟ هل أصابتهم الغفلة إلى هذا الحد فانشغلوا عن ذكر مناقبي؟ هذه التساؤلات يطلقها الغراب متناسياً أنه رمز القُبح والشؤم وأنه لايحظى بأية ميزة جمالية تلفت نظر الناس إليه,فلا صوته جميل يشنّف الآذان ولامشيته – التي يبدو فيها أعرج - تستهوي الرائي.. فالغراب – كما يبدو لي – أكثر الطيور دمامة وقُبحاً وكل ذلك ساعد على شدة تشاؤم الناس من رؤيته وسماع صوته.. والشاعر من خلال هذين الطائرين يريد أن يصل إلى خلاصة هامة تؤكد على أن قيمة الإنسان وأهميته تكمن في جوهره وليس في شكله مهما كان جميلاً.. وأن قيمة الإنسان الحقيقية هي فيما يحمل من قيم ومبادئ ومُثُل وفيما يميّزه عن غيره من الوعي الناضج والفكر السليم المستنير وهذا ينطبق أيضاً على كل الأشياء وليس على الإنسان فقط.. ولعل البيت الذي يقول: ليس الحظوظ من الجسوم وشكلها السرّ كلّ السرّ في الأرواحِ خير شاهد على ما أسلفنا ذكره . فأسرار الناس وأسرار الأشياء وقيمتها تكمن في جوهرها وفي مضمونها وليس في شكلها الظاهري الذي يبدو للعيان جميلاً والحقيقة كما يؤكد الشاعر في البيت قبل الأخير هي أن الجمال سواءً كان جمال الصوت أو الشكل أو الطباع إنما هو نعمة من الله يهبها من يشاء من الكائنات. أما البيت الأخير والذي يبدو في سياقه أنه جاء على لسان البلبل فيضع الغراب في مأزق وفي خيار صعب, فإما أن يُسلّم بأنه قبيح وسيء ولامفر من ذلك وإما أن يُسلّم عنقه طوعاً لسكين جرّاح أو جزّار كما يبدو ذلك واضحاً في البيت الأخير الذي يقول: حكم القضاء فإنْ نقمتَ على القضا فاضرب بعنقك مُدية الجرّاحِ ### وإضافة إلى الخلاصة القيّمة التي يمكن استنتاجها من هذه القصيدة يمكن للقارئ أن يستشف الصور التعبيرية الجميلة والتشابيه ودقة التصوير والخيال الخصب التي صبّت جميعها في قالب هذه القصيدة البديعة.