نقابة الصحفيين تحمل سلطة صنعاء مسؤولية الاعتداء على أمينها العام    الاشتراكي اليمني يدين محاولة اغتيال أمين عام نقابة الصحفيين اليمنيين ويدعو لإجراء تحقيق شفاف مميز    تستوردها المليشيات.. مبيدات إسرائيلية تفتك بأرواح اليمنيين    قمة حاسمة بين ريال مدريد وبايرن ميونخ فى نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    مورينيو: لقد أخطات برفض البرتغال مقابل البقاء في روما    عصابة معين لجان قهر الموظفين    لماذا تقمع الحكومة الأمريكية مظاهرات الطلبة ضد إسرائيل؟    مقتل مواطن برصاص عصابة حوثية في إب    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    تحديث جديد لأسعار صرف العملات الأجنبية في اليمن    سيتم اقتلاعكم عما قريب.. مسؤول محلي يكشف عن الرد القادم على انتهاكات الحوثيين في تهامة    رغم إصابته بالزهايمر.. الزعيم ''عادل إمام'' يعود إلى الواجهة بقوة ويظهر في السعودية    شاهد .. المنشور الذي بسببه اعتقل الحوثيين مدير هيئة المواصفات "المليكي" وكشف فضائحهم    إغلاق مركز تجاري بالعاصمة صنعاء بعد انتحار أحد موظفيه بظروف غامضة    شاهد .. السيول تجرف السيارات والمواطنين في محافظة إب وسط اليمن    محاولة اغتيال لشيخ حضرمي داعم للقضية الجنوبية والمجلس الانتقالي    الحزب الاشتراكي اليمني سيجر الجنوبيين للعداء مرة أخرى مع المحور العربي    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    ذمار: أهالي المدينة يعانون من طفح المجاري وتكدس القمامة وانتشار الأوبئة    دورتموند يقصي سان جرمان ويتأهل لنهائي دوري أبطال أوروبا    احتجاجات للمطالبة بصرف الراتب في عدن    دوري ابطال اوروبا: دورتموند يجدد فوزه امامPSG    نيمار يساهم في اغاثة المتضررين من الفيضانات في البرازيل    إهانة وإذلال قيادات الدولة ورجالات حزب المؤتمر بصنعاء تثير غضب الشرعية وهكذا علقت! (شاهد)    زنجبار أبين تُودّع أربعة مجرمين... درس قاسٍ لمن تسول له نفسه المساس بأمن المجتمع    قصة غريبة وعجيبة...باع محله الذي يساوي الملايين ب15 الف ريال لشراء سيارة للقيام بهذا الامر بقلب صنعاء    اتفاق قبلي يخمد نيران الفتنة في الحد بيافع(وثيقة)    شبكة تزوير "مائة دولار" تُثير الذعر بين التجار والصرافين... الأجهزة الأمنية تُنقذ الموقف في المهرة    الأمم المتحدة: لا نستطيع إدخال المساعدات إلى غزة    البنك المركزي اليمني يكشف ممارسات حوثية تدميرية للقطاع المصرفي مميز    وداعاً صديقي المناضل محسن بن فريد    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    ارتفاع اسعار النفط لليوم الثاني على التوالي    فرقاطة إيطالية تصد هجوماً للحوثيين وتسقط طائرة مسيرة في خليج عدن مميز    أبو زرعه المحرّمي يلتقي قيادة وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في مديرية بيحان بمحافظة شبوة    الأمم المتحدة: أكثر من 4.5 مليون طفل في اليمن خارج المدرسة مميز    باصالح والحسني.. والتفوق الدولي!!    هل السلام ضرورة سعودية أم إسرائيلية؟    وصول باخرة وقود لكهرباء عدن مساء الغد الأربعاء    طلاب تعز.. والامتحان الصعب    كوريا الجنوبية المحطة الجديدة لسلسلة بطولات أرامكو للفرق المقدمة من صندوق الاستثمارات العامة    الهلال يهزم الأهلي ويقترب من التتويج بطلا للدوري السعودي    دار الأوبرا القطرية تستضيف حفلة ''نغم يمني في الدوحة'' (فيديو)    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    البدعة و الترفيه    حقيقة وفاة محافظ لحج التركي    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جانب آخر من سيرة أدبية للمقالح.. السبئي تعلم الحزن من القصيدة
نشر في نبأ نيوز يوم 27 - 04 - 2007

هناك نحو الشرق من صنعاء؛ عاصمة اليمن، علي مبعدة خمسة أيام فوق متون المطايا؛ رواحل الإنسان في الزمن الغابر، وعلي مسافة 165كم في سيارات الزمن الحاضر؛ تمتد منطقة وسيعة الإطراف، مترامية الاكناف، عامرة بأسرار التاريخ، مكتنزة بدفائن الماضي ، وفيرة بخبيئة مجدٍ تليد يغوص في ماضٍ بعيد.. في تلك البقعة العابقة بالسحر والتي فاضت أنفاس الرياح الغرائب علي قمم جبالها ومغارات وديانها وحبات رمالها؛ فطمرت معالمها واخفت ما شخص منها وطمست ما شيد عليها ونسجت فوقها أثواب شفيفة ً من الطمي الأملس، أو صخوراً تكوّم البعض علي أخيه وتكلس!.. هناك تلبدُ في ذمّة التاريخ وتحت أنقاض الدهور وتوالي العصور: خرائبُ سبأ، مدينة الملكة العظيمة (بلقيس) عروس نبيّ الله سليمان! وما بين وادي ذنة، والضيقة، وبلق، تقوم بحيرة من سيول كانت تتدفق بغزارة في وديان مأرب. فاليمن؛ متحف من الأسرار، وجنة من الأودية النضيرة، والمحاسن الطبيعية الرائعة، وهي فوق ذلك؛ يتراقص الشعر علي سفوح جبال (أنصاب) و (تعز) و (العوالق) وسواها.. ويسيل من تلك القمم وما يزال يشع ولا يخبو.. ففي هذه الاقصاع؛ أبوة الشعر العربي وأمومته، التي تجلت في بواكير أصواته.. فهذه الرمال الشقر كانت ينبوع شعر امرئ القيس، وهذه الصور الصماء في ألوانها الثلاثة: الخضراء والحمراء والشهلاء، كانت وحي شعر وضّاح اليمن.. ثم ماستّ عرائسُ الشعر شبه جزيرة العرب، وسالت نحو جنات الشام في غوطة دمشق وحلب الشهباء، وسهول العراق في سواده الخصب، من البصرة الفيحاء إلي الموصل الحدباء.. والي أقاليم أفريقيا من الفسطاط حتي تطوان! فوق هذه الأرض وُلد المقالح؛ يشّمُ عبق تاريخ سبأ وبلقيس، ويقرأ قصائد وضّاح وابن اكل المواد؛ اللذين ذاع صيتهما فلفتا الأنظار.. وبين ريادة احتفار الصخور في مأرب السد، وريادة قرض الشعر في قوافٍ وبحور، قال المقالحُ وانشد.
كان للفتي اليماني، عبدالعزيز؛ نفس طلعة تتسامي بها أماني جسام، منذُ أن شبّ َواخضر شاربه، فسافر إلي القاهرة ليحصل علي البكلوريوس من جامعتها، ثم واصل الدرب فعاج ينهل من الفكر والشعر فحصل من جامعة عين شمس علي الماجستير سنة 1974 عن دراسته للشعر اليمني المعاصر. حيث رأي في أطروحته؛ أن العمل الأدبي (واقعة اجتماعية وتاريخية)، وعني بالقصيدة (كوثيقة فنية).
وفي الوقت الذي تعلقت بأطروحته القلوب والألباب، فان فترة شبابه ما زالت ترهبهُ بواقعها المرير، حين لم يكن يتلفت من شرك الإمام طيرٌ ولا غمام! فالشعر اليمني الحديث شعر سياسي يمثل بلداً يرنو للتغيير والتقدم، حيث ارتبطت أولي تمخضاته في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات بظاهرة سياسية واجتماعية مهمة في تاريخ صنعاء، هي ظاهرة الهجرة والفرار من البلاد بعد أن ألقاها حكم الإمامة في عزلة عن النور والحضارة.. وحاول الشعر كسر طوق الخناق التعسفي عن اليمن بالشعر والثقافة.
لكن البعض فضل أن يقول صوته بعيداً عن لحية الإمام، فذهب المقالح وثلة آخرون، للدراسة الي الخارج.. وكانت تلك بداية التحدي، ولم يكن اليمن في كل تاريخه أرضاً ولا سماءً؛ تعظم الجاهل الغريب، تحطم النابغ القريب، ولم يكن هذا البلد قد اعتاد علي واد بناته.. لذا فقد انتفض الشعراء من مجلس الأمير، وشحن هذا التحدي الشعر اليمني بالوطنية والالتزام السياسي، والدعوة للتغيير، إذ لا يجدر بالنخبة المثقفة أن تقعد بالشعر والزمن بغيرهم يعدو ولم يرض الشعراء أن يروا الحياة في العالم؛ فكراً يتحقق، فيما يشعرون بها في اليمن حلماً يتبدد.
لم يكتف المقالح أن يكون من السباقين إلي الإشادة ببطولات أبناء اليمن والتنديد بالمستعمر الذي دنس أرضها، وأراق الدم الزكيَّ فيها، بل اخرج الشعر العامي من نظرة متخلفة كان البعض يراه وشلاً في صفيح قذر، فنال الدكتوراه من جامعة عين شمس عن أطروحته: (شعر العامية في اليمن) سنة 1977.
وإذ تنبش عن اعتراف عن سنوات المخاض، لا تجد الا اليمن وقد ربكته. بحبها فشرق به وغُصَّ، فغني أفراح أهلها وبكي أتراح فقرائها، وكانت له مواقف مشهودة تضيق هذه السطور عن استيعابها، وكان معظم شعره وطنياً محلقاً، يرفع صوت اليمن وينطق بلسانها ويعبر عن خلجاتها ومشاعرها. كان ابنها البار وكان صوتها المدوي.
ومع ذلك فقد عثرت علي حديث مشجٍ في مقدمة ديوانه ذي العنونة المتكئة علي ارث يماني متوهج ((رسالة إلي سيف بن ذي يزن))، قال فيه: ((.. إذا صح أنني شاعر فقد أصبحت كذلك بفضل الحزن، هذا النهر الشاحب الأصفر الذي رايته واغتسلت في مياهه الراكدة منذ طفولتي ورايته في عيني أبي وفي عيون أخوتي، ثم قرأته علي وجوه زملائي. في وجه الحزن وفي طريقه الكابي اللون حاولت أن أتمرد، أن أثور ولكن بلا جدوي.. وقررت أن يدفن الحزن)).
ولكن لم الحزن، عندما يكون ابن ذي يزن؟.. المعروف أن رسالته إلي سيف كان ديوانه الثالث، فلماذا انتقي ذلك المناضل اليمني المعروف في التاريخ اليمني كمحاربٍ صلب ضد الاحتلال الحبشي لليمن؟ الذي يقرأ هذا الديوان يألف فيه صياغة شعرية ملحمية درامية تعيد بعث تلك الشخصية الثرية الموحية، فيمتزج الرمز بالأسطورة، فنطالع تنويعات ثرية علي لحن ابن ذي يزن؛ المهاجر المنفي، والبطل المناضل والفارس الأمل لخلاص اليمن من معاناتها وعن ضرورة العودة إلي (منية النفوس) حبيبة سيف في الأسطورة الشعبية، اليمن السجينة التي تنتظر سيف البطل والرمز والمنقذ:
((حزني عليك
تنطفئ علي جبينك الأعوام
وفي المنافي تذبل الأحلام))
ولم تغب محبوبته الوحيدة وحلمه الدائم، اليمن، عن قصائده، ولئن طغت الخطابية في ديوانه الأول؛ (لابد من صنعاء) بسبب حماسته لثورة اليمن، تلك الثورة التي استقبلها بقصائده الحماسية التي بثتها إذاعة الثورة منذ لحظاتها الأولي، فانه في ديوانه الثاني (مأرب يتكلم) قد تخلص من فيض الحماسة المنبرية والتسطح السياسي المباشر، كما يظهر في كلمات وأبيات قصيدته (مأرب والفأر والإنسان)، حينما يقارن الشاعر بين التقدم الحضاري في العالم الذي وصل إلي القمر وقاد النجوم، والتخلف اليمني القابع علي جدار سد مأرب المنهار!
عدم التنكر للقديم
المقالح، لم يتنكر للقديم لقدمه؛ لان الحياة بدونه تغدو هلامية، طافية، باهتة عديمة الطعم، دنيئة القيمة.. وللقديم الكأس المعلي: أوراق فيه الأدب وأزهر، ونهض الفكر وتحرر.. لكن للمقالح فلاتر للترشيح، واشتراطات للتمحيص، فنفض عن كاهل القديم رماد النسيان واطمار الهذيان.
ثم لما أدمن الحزن والثورة، فجعه أن يري الأصدقاء يهربون من حوله، فذهب حزنه علي الحزن اباديد، ولما فر اقرب الناس إليه ورآهم يشهرون الخناجر الحادة في وجهه، تحطمت الصورة بدداً، فانطلق مغيظاً، محنقاً وقد قرصت جسده ثعابين الصمت، وأكلت الحيرة لسانه، فكانت العين تكف عن الإبصار فيرجع إلي الكلام.. إلي الشعر، ليكتب إلي الفتاة التي أحبها بكل مشاعره؛ أروع ما كتب من الشعر، فصار شعره حباً، بلبل قلوب العذاري، وتام أفئدة الصبايا، وضرج كبرياء الغيد بحمرة الخجل والهيام. لكن القلب خليط من هيام بصنعاء، ووجد لهيفاء.. وحب لمأرب، وعشق لزينب.. كان رمزه بسيطاً، وجد شفاف، وقريباً من الفكر اليمني ووجدانه.
في رابع دواوينه: (عودة وضاح اليمن) يلمح القارئ والناقد عودة المقالح إلي ديدن الانتقاء من صرة التراث، فيأتي بشخصية ثرية هي وضاح اليمن، تناوبت بين الملمح الأسطوري والضرورة الواقعية، لشاعر يمني نسجت الأساطير حول قصة حبه لروضة، محبوبته اليمنية، التي حالوا بينه وبينها، فهاجر ثم عاد إليها، بعد حين، ليفجع بإصابتها بمرض الجذام الخطير. وإذا كان طه حسين قد أنكر وجود وضاح، في كتابه (حيث الأربعاء ج1ط12ص235)، لكنه وجد في قصة غرامه بروضة؛ مأساة موسيقية حديثة أو أوبرا عصرية، ثم جاء المقالح ليحيي مأساة وضاح اليمن وروضته، فجاءنا بكل شهيٍّ، بهيّ، وأسعف ذوقنا بكل رائع خلاب.. كان يضرب لشهرائنا أمثالاً انتهض بفاعليتها، حمزاتوف كي يتعلموا من الحكايات، (وليتمكنوا من كتابة القصيدة التي لا تبعث الملل إلي نفوس محبي الشعر. وشعراء العالم الثالث مطالبون بحكم رصيد التخلف الذي يحاصر أقطارهم أن يقدموا صيغة ابداعية للفن الشعري لا تجافي شروط الإبداع ولا تتعالي علي الواقع)).
كانت تلك احدي وصاياه، لغيره، لكنه ابتدأها بنفسه، فكتب شعراً؛ كلماته أجمل من روعة الفجر، وافتن من وشي الأصيل، وأندي علي الجوانح من أنفاس الصباح.. واقتطف المقالح أزهار شعره، بقلمه النظيف من حديقة تروت بالماء النمير وتنسمت بهواء غير ملوث، وتدفأت بأنوار شمس الله، فقدمها، أولا؛ لعين الفنان العظيم، ولم يدلس بوثنيتها للشيطان الرجيم.. صحيح أن سبأ كانت مصدر إلهامه، ومعين عبقريته، واعية حبه وأنشودة هواه؛ لكن للحرية في كلماته، جداول وانهارا، وللحداثة في إبداعاته، وسيلة للإفضاء بقدر ما هي إرادة حياة وطاقة تنفيس، تعين الكاتب علي البقاء وتأخذ بيده بعيداً عن الواقع المشبع بالإحباط والكآبة والهزيمة))..
استحي، وما زال، من تقديم شعر باطل، أو نقد زائف، ولم يجعله بضاعة، ليمالي من يشتريها، أو يرشي من يسوقها.. كانت قصائده باقات مفوفة بالوجع الإنساني.. كانت معطرة بعرق الاصطبار وقلق لانتظار.. كان في تجلياته كما يقول فاروق شوشة وأيضاً في كتاباته؛ ((مزيجاً من حكمة اليمن وروحانيته وصوفيته)).. وفي نقوده، يقتصد في شروحه، ويتباطأ في تصريحاته، قبل إعلانها علي تلك الإلة الصغيرة الخطيرة؛ اللسان أو القلم!! ولأنه مفكر متأمل، فلا يعنيه أن يتكلم بقدر ما يعنيه أن يتأمل.. هو خلاصة مفعمة بالصلادة، مترعة بالصبر والمقاومة.. تتجلي في نظراته الواسعتين من وراء زجاجة نظارتيه، هموم الشعر وقضايا النقد وتجليات الثقافة والأدب..
وهو من النخب، في ارض اليمن، الذين وفقوا، إلي حد بعيد في إلهامهم؛ شعراً؛ عبر دواوينه الكثيرة والمميزة، ونقداً؛ عبر مقالاته المنتظمة ومؤلفاته الغزيرة.. وقضي حياته محلقاً في أجواء الثقافة، والعروبة، وفلسطين، وأستاذاً للأدب الحديث في جامعة صنعاء، فما جاره ألا العدد القليل من تجسير العلاقة فيما بين القديم والحديث؛ بلاغة وجرأة وإخلاصا.. وقد طوي جناحيه، فترة من الزمن، علي صخرة جرداء كانت كرسياً لجامعة صنعاء، لكنه ظل شاعراً لامعاً، وناقداً قديراً، وراعياً دؤوباً لفروع الأدب اليمني وأغصانه الجديدة بصفته من أوائل شعراء اليمن المجددين، ولم تأكل المؤسسية من جرف نهر إبداعه، ولم تنضب مسؤوليات الإدارة، معين شاعريته.. فالشاعرية الأصلية كدوحة السنديان تنشب أصولها في كل تربة وتتغذي حتي من الصخور.. ظل المقالح تجد نفسه في القصيدة، أولاً، وربما دائماً؛ فمع ((الشعر اترك للروح سجيتها)) فكما راقته سوسنة من حديقة الشعر، أو وقعت في نفسه زنبقة من بستان القوافي، طبع عليها قلبه ندية من شرايينه فتعفرت بومه وصارت جزءاً من وجدانه.
في الشعر، كان يحلم دون ليل.. لا يشعر بوجود رقيب من أي نوع.. والقصائد تجبر القلوب الكسيرة، والنفوس الحائرة، لان الشعر قد ظل يشكل صوت النفس البدائي والترجيع الأسطوري لما يرعش فيها من شحنات غائرة في طوايا الروح وأعماق الذاكرة، لائبة تبحث عن لحظة الولادة السوية، تبدأ في البحث عن عناصرها المتكاملة، تكتشف الأرض التي تقف عليها..
المقالح يحمل جمرة الشعر فوق قريحته وينفخ بشفتيه عليها لتظل متوقدة. إشكالية تعيي طوق الكثيرين، لان خطر النقد علي القصيدة من ذاتٍ أبداعية واحدة، اكبر من الفائدة التي تعود عليها من الثقافة النقدية.. وانه خير للشاعر أن يترك بينه وبين الكتابة النقدية جبلاً من نار، لئلا تفسد التنظيرات النقدية؛ العفوية الشعرية وتخنق قدرته علي التحليق خارج الأحكام والقواعد المسبقة التي تلزمه ساعة إبداعه الشعري!!
ظروف الواقع اليمني، في بواكير التجديد وريادة الوعي، الحافل بعشرات الشعراء وبقلةٍ لا تكاد تتجاوز كفاً واحدة من النقاد، ألحّت عليه للابتعاد القسري عن همه الأول؛ الشعر، والانكباب علي النقد، فانحسر الوقت وأخذت الكتابات النثرية مساحة من حصة الشعر؛ ساعات التأمل المطلوبة للشاعر ضاقت دون تلاش وحلت محلها ساعات البحث عن البصيرة والتنقيب عن جوهر المعايير.. وفي تجاذبات المحاصصة، زمنياً، لم يترك كتابة الشعر ولم تتركه الكتابة النقدية..
ومن امتيازات الاحتراق بهذه الإشكالية، تفيدنا تجربة المقالح بان للشعر تجلياته، ونداءاته، وللنقد اشتراطاته وهواجسه، لكن الشعر مقحام، سليط، إذا انتفخ بطن القريحة بقصيدة، تعاف نفس الشاعر؛ طعام النثر وزاد النقد!! ويظل الشاعر في توهان ورهافة تنسيانه، ربما حتي القصيدة وكيفية التمخض حين ولادتها!!
ورغم كل تلك الأسبقيات، فان احتمال همين اثنين، في أن معاً، ثقيل علي الكواهل.. لان الشاعر بعد مخاض قصيدته يدلل نفسه، كما تدل المرآة النفساء بنقاهة المكان وراحة المنام ولذيذ الشراب ودسم الطعام.. فيستجم الشعراء في القهوات والفسحاء، والحدائق الغناء ورحلات الاصطياف، بينما يعود الناقد الشاعر، وحبر قصيدته لم يجف بعد، للاشتباك الحاد مع كتاب تنظيري أو مجموعة قصصية أو في حالة حوار مع قصيدة مستعصية.
الشاعر ناقداً
وإشكالية الانشطار مع دينامية العمل ومثابرة القراءة، خلقت أسطورة الشاعر الذي يكتب نثراً نقدياً، والناقد الذي ينزع جلباب القاضي ليدخل وحشية الشعر.. أسس لأسطورة نفسه من خلال استغوار التحولات رغم مصاعب مخاضها، ومن خلال ألامسك بذات الشاعر الحقيقية لحظة كانت تذوب لتخلق صيرورتها من جديد، لان الشعر ارتجال أني لما يدور في اللحظة عينها.. ولهذا، ولأسباب أخري؛ كان المقالح مجدداً، دون أن يعاون المدعين، أولئك الذين يتوهمون أنهم في غرائبياتهم الكافكوية.. يجيئون بالعجب العجاب، إذا هم قلبوا أوضاع اللغة وتقاعسوا عن قواعدها وروعة اتساقها!!.. ومع ذلك فهو يشتغل علي لغة جديدة تقوي علي اقتناص شوارد الخيال وجامحات التفكير.. فهو رغم تناوله لإبداعات الآخرين، لا يؤمن بالقطعية في إحكام والاستيعاب، لكنه ظل محاولاً الإيماءة لقرائه بان الكتابة بأشكال محكمة، كلاسيكية، تظل تفتقر للفوضي، للدهشة، للمجانية..
في شعر المقالح، في ابتهالاته وتجويداته؛ نفحة من تقنية حضارية، تتزاوج مع روح البداوة، سواء من خلال الانطباعات الذهنية ومسار الصيرورة الشعرية، أو في ومضات انتقاده لارثيات مجتمعية بالية.. الشاعر والعالم في جدل لا يفتر، بل هو صراع، أو هو نوع من أنواعه.. أساس الإبداع في الشعر هو الحمي والقلق والبحث عن أجوبة لأسئلة ذبحت أجوبتها.. الهام الشاعر، هنا، تتنازعه قوتان؛ قوة تفكيره وشعوره في بيئة ما زالت تربتها ندية بطوفان مأرب، وعليه، كي يكون مجدداً، أن يصوغ شعوره في موضوعات تختلف عن تلك التي ألهمت الشعراء الاقدمين.. وقوة الموجة التجديدية التي لا تسلس قيادها ألا لمن اهتدي إلي مواضع المرونة دون الزلل في حفرة التهافت!!
وبين أنياب القوتين، تلكما السابقتين، ظل خوف يفتك بالمبدع لئلا يبهت بريق الشعر في أعيننا، ويخسر العركة في ظل مناح صاخب مليء بالإحباط والمشوش بالخذلقات والانكسارات السياسية.. والثقافة العربية بكل اقانيمها مازالت طفلية التشبث، لم تتجذر كياناتها ولم تتمكن من الغوص عميقاً في المدي الذهني للقارئ العربي، وما تزال كالأعشاب البرية، سطحية المنبت، شعيرية التجذر، سرعان ما تنقصف بأدني ريح وتقتلع بأي سيل!
لذلك ينادي المقالح، كل المثقفين، الانتباه لمحاولات الأعداء في رجرجة الثقافة العربية وأبعاد الأمان والاستقرار عنها حتي لا تتجذر وتقوي.. وهو محق بذلك، لأننا نري أن جدار الثقافة يكون أول المنكسرين وأول المغلوبين..
ولتقوية دعائم الثقافة وتجذير الشعر والتجديد، واكب دراسة شعر اليمن، وقرأ نتاجات شعرائها المعاصرين، وثابر علي استنطاق تراثها الشعري، في فترة زمنية تقرب من نصف قرن، أخذت منه فضلاً عن ضوء العين الوقت وإيقاعات العمر..
في الشعر اليمني، ثمة امتداد، وتكرار، وقليل من الانقطاعات.. انبرت في الإرث الحميري والموقع السبأي والفضاء العربي؛ طليعة استقرات التراكامات الشعرية وتذوقت دواوين الشعر العربي، واستساغت بعض محاولات التجريب العالمية، ثم نحتت لها دروباً جديدة واجترحت علي أرضها جداول لم تكن موجودة من قبل.. وظل الأشجار عارماً ما بين الكتابات بالفصحي غير المعربة واللغة الفصيحة في السعي الوكيد لتأصيل تجربة تجديدية ببصمة محلية..
بين التأثر بنتاج الغرب ومنهجيات النقد، تظل الاصالة، عند المقالح، الوسادة التي يلجأ إليها من رشوشات الثرثرة، لكن التأثير المتبادل لا يكون ميسماً إلي الاجتثاث وفقدان الصلة بالموروث القومي، مثلما لا تعني الاصالة رباطاً من حديد ورصاص يشدنا إلي الماضي.. والمقالح يثني علي أولاء النقاد بالتبجيل والاحترام، لأنهم زجوا أنفسهم في قراءات جديدة لمحاولة فهم النصوص الشعرية من مواقع مغايرة، واطلعوا علي كل المنحنيات لتطويعها دون أن يقعوا ضحايا للخضوع المباشر لأي خيار محدد..
قصيدة (ابتهالات)
منذ البدء، يشطب المقالح حيادية التقديم، ويطيح بالاستقلال المفرط، فيعطي صلاحيات طوارئ إجرائية للقصيدة، وذلك عبر قيامه بكتابة تمهيد ((بين يدي القصيدة)). في هذا التقديم يختصر للذي يجوس عتبة النص؛ المراجع المحتشدة، والاستذكارات القارسة، فيتألق الصراط وتنفرط أسرار القصيدة كحب الرمان علي مائدة القراءة المشتهاة. وفي هذا التقديم، أيضاً، يكسر الشاعر استهلاكية القصيدة، ويخاطب المتلقي القارئ، ويفك اسر الاصطراخ الشعري الرهيف من أصفاد التذبذبات المتشظية، ينادي القراء؛ لا تدخلوا مدائن الشعر من أبواب متفرقة!.. يدلل علي تضاريس لقارةٍ مجهولة.. لكنه، باستدارة سلبية، يقتل المفاجأة، يحكي لك ((عقدة)) الرواية قبل قراءتها.. لكن المقالح، لسبب لم ادر ماهيته، لا يستنكره كتابة دليل سياحي للقصيدة، المباخر توشح القصيدة بالمصابيح الوفيرة، إذ يقول:
(الشعر الذي لا يستطيع أن يقدم نفسه ويفضل أن يدور في فضاء مغلق، هو شعر خادع ومخدوع)؟!.. لعل المقالح أدرك أن قدماء العرب لم يروا من المطابقة، في علم المعاني، ألا وجهها المباشر (السامع) ولم يعباوا بالوجه الثاني (المتكلم)..
وإذ نقرأ؛ (ابتهالات) وهي عز الغليان، تكون القصيدة قد أنجزت، منذ البدء، شرط ولادتها.. ((الهي)) مفردة تتكرر عند راس كل مقطع من مقاطعها التسعة.. تصير المفردة الابتهالية للمناداة، والدعاء؛ حساسية استفهامية. الاستبهام يبرم اتفاقاً مع اجرومات مؤسطرة، فمثلها هناك أسئلة متعددة، لابد للاسترجاع المنطقي أن يفتش عن أجوبة متعددة، قد تتفتت حينما تصهل بروقها ترجيعاً لهزيم الرعود قبيل زخات مطر الأجوبة. ومن خلال مسحٍ، أكثر الأحيان يبدو متوارباً أو عميق الغور، وفحصٍ لمنجز المقالح الشعري، قد نعثر علي غوايات قرائية تستدرج فطنة القارئ الذي يتملي المتماهي ولا يقعد عن العنب الناضج، فيجد قصيدة تناديه عبر علامة استفهام منسلة غير راضية، وأحياناً حروناً مشاكسة، لا تواتي القارئ ألا بقدر مطاوعتها لحركة نفسها، وتماوجها، وترجها.. تظل القصيدة أسيرة الجواب الذي قد لا يأتي جاهزاً ألا عبر مراجعة متأنية لشفرات النص، لكن القصيدة، حين تتعري أمام قارئها تكون قد أنجزت مغاور تداعياتها، ولن تجرؤ، وقتئذ، علي أن تصيح به: ألقاك فيما بعد! فهي قد تحثوه، بدءاً، بقطارة بخيلة، كقبلات خجلي لعروس تيبست شفتاها من الحياء، أما وقد نضا عنها أثواب أجوبتها بأصابع أسئلته، فلا مفر أن ترضخ لما يريده منها: هيت لك، تلمض ألان بأسرار كينونتي، اشتهيني كما يحلو لك واسرق نيران جذواتي، نطقاً أو رؤيً أو صيرورات، فنقرأ في قصيدة أخري للمقالح:
((هل اخطأت طريقي
حين اخترت الحرف فضاءً وجناحا
أطلق قلبي في ملكوت الذكري
ابحث عن نفقٍ لا ضوء بهِ
عن برقٍ مسجونٍ يرسم للنيلِ صباحا؟))
قصيدة (ابتهالات) لا تقدم نفسها، بسهولة، لقراءة مؤطرةٍ في صورة واحدة.. هي تأبي التوازي ولا تتجاوب لترشيح داخلي أو حرث عمودي.. في صورتها الأولية؛ تكرار، علي ثوابت إيقاعية راسية، تشد مفاصلها؛ ((الهي)).. هذه المفردة تصير نسغ وحدتها، لكن التكرار لا يلهث في متوالية نمطية، بل هو استعادة أفق ينقل النص في مستويات مختلفة.. ثم هناك التراث القرآني الذي توظفه القصيدة صديً لابتهالات خارجية وداخلية؛ ((أعوذ بك ألان من شر نفسي)) ((ومن شر أهلي))..
في ابتهالات القصيدة.. نكون كقراء، بغتة في انكفاءات البيوت تحت صمت الظلام، حيث تهجئة أوراق حزن الشوارع والاختباء مع الحلم وراء صدف الدمع لنمنح قلوبنا شيئاً من الصلوات وتغسل عن ماضينا سواد الخطيئة..
بلا تنقيط، ولا مسكوت عنه، دون بياض مع قليل من السجع وكثير من ياء النداء والجمل الاسمية، يختار الشاعر الأسئلة للغوص إلي ثيمة مخبأة وراء تناوبات إيقاعية في ملفوظات أسطورية.. الاستدلال الحركي للقصيدة عبر تاويلات الفعل الماضي والمضارع، كما ينفتحا علي قصاء دلالي واسع، لينشرخ الملفوظ بصيغ الماضي دون ماضوية الحدث.. في هذه الاستدارة الزمانية، تحول من مشكل مغلق، تراتبي، إلي شكل مفتوح، حيث تستطيع هذه التقنية دحو مقاليات المتكلم في سماعيات القارئ.. أو أماطة أبواب الدهليز أمام خيالات غير ملجومة لتعطي للابتهالات امتدادات لمقاطع، ابتدأت بالاستعاذة بالموروث القرآني، ثم أناخت أمام صليب الاعترافات:
((سأعترف، الآن، أني خدعت العصافير
أني هجوت الحدائق
أني اختصمتُ مع الشمس
... الخ))
ثم يأخذ لاعتراف انعطافة هستولوجية، إذ تزينت الأرض؛
((الهي
أنت شكلت باللون هذا الفضاء المديد
وأطلعته؛ كيف تنفلق الثمرات
ويسحب خطوته خائفاً
وينام.))
ثم.. يحاجج الشاعر.. يتحسس بالروح عالمه، ويكره اللمس والتضاريس.. فالحرب مكروهة؛ ((لان ترفض المون، يأتي به موسم الحصاد الرهيب.. أقصت عن الأرض نور السموات واحتكرت ملكوت الجحيم)).
وإذ نستشير كل محفزات القراءة للدخول في حوار جدلي مع النص، لا يدلنا تقطيع جسد القصيدة علي عناوين فرعية، ويبدو لي أن مفردة بعينها الهي قد اكتفي الشاعر بجعلها لعبة إيقاعية وعنونة داخلية وثيمة بلاغية من خلال ينقل ألينا وعيه لمعني أعادة الواقع، فكراً مكتوباً بنص شعري..
التأويل مصطلحاً، فيه قدرة علي الاشتغال فيما ورائيات النص (4)، ويترك البني السطحية.. فالزمن، أسطورياً أو تعاقبياً يلملم تمظهرات زمكانية وأسلوبية تشف ما بين حركاته لدرجة زج ماضوية الماضي في الواقعي؛ المنجز في الوقت الحالي، ويلغي المسافات بين زمن سردية النص الحاضرة وزمن مرجعياتها؛ ((منطق الطير، الحريق علي حافة العمر، أقصت عن الأرض نور السماوات، بكاء الطفل لما هبط إلي الأرض، الهجرة إلي الآخرة، اطمس اسمي وامحوه من كتاب الخليقة..))
ومن خلال جدولة التركيب اللغوي لقصيدة؛ ابتهالات، يمكننا تأشير الملاحظات التالية:
أولاً: حركة الضمائر الثاوية في النص تشي بالاتي:
1 ضمير المتكلم، يمثل انتقال حركي وجداني لزمن تجريدي واقعي، يمثل قوة وفعالية؛
((أعوذ بك الآن من شر نفسي)) ابتهال صوفي ووجداني.
((هل لي خلف المدي توبة تصطفيني؟)) لذع الأسئلة والتعري لأجل الخلاص..
((سأعترف الآن أنني خدعت العصافير)) حالة إحباط، تدفع للاغتسال من براقع
المخاتلة..
ولان الاغتسال يتطلب تكراراً، رشة بالماء بعدها أختها، ثم ثلاثاً وأربعاً... الخ ولان التوبة، أيضاً، تفرض تكرار الاستغفار، جاءت الاعترافات؛
((أني هجوت الحدائق
أني اختصمت مع الشمس
أني اتخذت طريقي إلي البحر منفرداً
وانتظرت الزمان الجميل
أنصت للشك
كابرت
بعثرت نصف لجنون
شاهدت نعشي
خالطت أشياء لا تقبل التسمية)).
2 غاب ضمير المتكلمين، تماماً، عن النص، مما يداخلها في المنولوج والابتهال، كي يكون خالصاً، لابد أن يقف المبتهل منفرداً، لا يراه احد، كذلك غابت الأطر الدرامية واستعيض عن الصوت الجمعي بتداعيات نحو حركة التحول، ما بين نبش الذكريات واستمطار الدعوات ومزجهما قماشة لتلوين الصورة الشعرية..
3 ضمير الغائب؛ هو هي.. كأن الشاعر في تضرعاته يلقي تبعات الذنوب علي كاهل الغير، يبتلي الظروف بغرائبياتها.. أنها ذنوب مفتراة لخلق التوازن في شبه هذيانية حركية تدلنا علي شخصيات متعددة، وذنوب غير مقترفة، سوي ما نهد الشاعر لامتلاك حلمه وثابر لصيرورة ذاته بوجع أسطوري؛ (حتي السماء انحنت، وتهشم ازرقها،...)..
4 ضمير المخاطب، رغم قدرته علي المحاورة الجدلية، لكنه ظل عند حضور الإله؛ الهي، ذي النداء الخفي والعلني، هو المخاطب والمجيب في أن معاً.. ما عدا انعطافة، ذات لولبية هامشية، أو ضرب أمثلة؛ ((تسللت ذات مساء شديد الظلام / إلي منطق الطير)).. ظل الهدهدُ، صاحب سليمان، ماثلاً في خلاص بلقيس وقومها من ظلمة الحيرة.. لكن ((الفريد)) وهو يحدث أنصاره، قال لي:
((أيها الجاهل الجاحد الحق
أن التعصب أفعي
وانك مهما ارتقي بك جدك
لست سوي حفنة من تراب..))


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.