سوسن العريقي وأحمد السلامي لطالما سُئل شاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح عن السر الذي يكمن خلف عزوفه عن ركوب الطائرات ومقاطعته للمهرجانات وطوابير السفر، ويطرح مثل هذا التساؤل رغبة المتابع في معرفة السبب الذي يجعل اسم المقالح يمتلك هذا القدر من الحضور الفاعل والمؤثر في المشهد الإبداعي العربي، بشعره ونقده ومثاقفاته العميقة. لكننا لم نجعل لسؤال السفر والمطارات أهمية في هذا الحوار؛ لأن حديث الحضور أو الغياب عن المهرجانات والمؤتمرات الأدبية في العواصم العربية، لا يشكل لدى الشاعر الكبير الدكتور المقالح أهمية، لأنه اسم عربي ذائع الصيت، يحلق في سماوات الإبداع بجناحي الشعر والنقد، بروح اللحظة وألق الغد، ولا يحتاج لأجنحة معدنية تطير به في الجو لتحمل رؤاه الجمالية والإنسانية. وإذا كان لمدينة صنعاء العتيقة باب يسمى "باب اليمن"، فإن لليمن والجزيرة العربية باب آخر مشرع على دهشة النص وجدل الفكرة، هذا الباب المعرفي الفسيح يتجسد في عبد العزيز المقالح، الشاعر الذي منح الحداثة مشروعية البزوغ والرسوخ في اليمن والجزيرة، كما منح الحداثة في درسه النقدي أفقاً مستقبلياً رحباً ينطلق من الوعي بالإبداع الجديد وحتمية ولادة وتطور الأجد. وحين يكون حديث الريادة مدخلاً لحوار في الشأن الثقافي العربي، يتقدم اسم المقالح صفوف الرواد، ولأن الجغرافيا العربية تتفاوت في تعاطيها مع الخطاب الإبداعي الجديد، فإن أحاديث الرواد في بعض الجغرافيات يبدو حديثاً تأسيسياً تجاوزه الواقع وأحدث بتجاوزه شرخاً بين الأجيال، هذا ما يحدث في كثير من الأقطار، باستثناء اليمن؛ لأن ريادة المقالح لم تتوقف عن حدود التأسيس لخطاب الحداثة، بل تحولت الريادة في خطابه النقدي وإبداعه الشعري إلى ريادة متجذرة ومتصلة في الآن ذاته مع اللحظة الإبداعية الراهنة. هكذا يتوازى الاشتغال الشعري عند الدكتور المقالح مع جهوده النقدية، فيبتكر لشعرية اللحظة مصطلح الجديد ولشعرية الغد مصطلح الأجد. وأمام شخصية كالمقالح يصعب الفصل بين الأثر الذي تركه الناقد والقيمة الجمالية التي يراكمها الشاعر، لذلك يزاوج هذا الحوار بين الشعري والنقدي، وسنرى كيف يقدم المقالح خطاباً نظرياً يتسق مع الفعل الإبداعي الذي تترجمه قصيدته التي ينظر إلى تحولاتها في تجربته الممتدة بعين الناقد الحصيف. ومساهمة في الاحتفاء بحصوله على جائزة العويس الثقافية في حقل الشعر، نستعيد هذا الحوار الذي ينشر لأول مرة في اليمن، وكان قد نشر مؤخراً في أحدث عدد من مجلة "شعريات" التي توزع في المغرب العربي. وبعيداً عن المناسبة .. الحوار مع الدكتور المقالح يمثل أيضاً مقاربة لجوهر اللحظة الشعرية الراهنة وآفاقها المستقبلية، سواء في تجربته الشخصية أوفي التجربة الشعرية العربية عامة. شبّهت القصيدة الجديدة – باعتبارها قصيدة اليوم والغد - ببصمة العين... فهل ما كتب قبلها يتشابه إلى حد التماهي وعدم التفرد؟ - تلك أمنية لا غير، أطلقها المتفائلون على شعرٍ خالٍ من التناص والتأثر، والتماهي مع مفردات الأشياء والطبيعة. والثابت أنه لا توجد نصوص بريئة تصدر من فراغ تام وتعتمد على ذاتها، سواء كان ذلك مع نصوص الأمس البعيد أو نصوص الأمس القريب، وحتى نصوص اليوم، فالتناص بمفهومه الحديث فضاء وسمة من سمات الكتابة؛ شرط أن لا يصل إلى درجة التشابه أو التماهي، أو يتحول نقلاً حرفياً أو بعبارة أقسى يكون (تلاصاً) لا تناصاً. ومن الصعب إعفاء النصوص الجديدة التي يكتبها الجيل الجديد من شعراء القصيدة الأجد، أو تبْرئتها من التناص وتأثرهم ببعضهم، أو بمن سبقوهم واضح ولا يحتاج إلى دليل. تؤكد الدراسات النقدية أن هؤلاء الشعراء ينظرون إلى نصوص سابقة أو لاحقة تبقى أصداؤها عالقة بمخيلتهم في أثناء الكتابة، ثم هناك من قال إن بصمة العين أو الكف لا تحمل تشابهاً ما في بعض الخطوط الدقيقة؛ مع احتفاظها بالخصوصية المطلقة ومن هنا، فالتناص لا يلغي تفرد الشاعر الجديد بلغته وبمعانيه التي لم تعد مطروحة على الطريق. إذا ما قلنا مجازاً بأن الشعر الآن قد غادر سياق القول إلى نسق الكتابة.. فكيف يوازن الشاعر بين الاشتغال بوعي على النص، وبين الحفاظ على الشعرية... بمعنى آخر: هل أصبح الشعر خارج منطقة الأسرار والغوامض؟ - ربما يكون الشعر في الآونة الراهنة عند البعض من الشعراء وليس كلهم، قد غادر سياق المعاني المطروحة وغير المطروحة على الطريق، وأصبح شعر لغة تشتغل بذاتها، وبشعرية من نوع خاص، نوع جديد لا يهتم بإيصال شيء سوى الشعر نفسه؛ بعد أن عاشت القصيدة أزمنة طويلة حاملة لهموم البشر التي زادت، ومعبرة عن أحلامهم التي لم تتحقق. لقد تقاطعت القصيدة في رسالتها مع رسالة النثر بمفهومه العادي والمباشر، وجميل الآن، بل أكثر من جميل أن لا يكون للقصيدة أسرار ولا غوامض، وأن لا يكون لها سوى ذاتها وشعريتها. واسمحي لي هنا أن أبوح بإشارة أخيرة خلاصتها إن زمن القلق التجريبي في الشعر قد طال، وإنه قد آن للمشهد الشعري أن يبدأ رحلته الموعودة في منأى عن الترقب والخوف من المجهول. هل لا تزال القصيدة الجديدة تواجه أزمة في تعاطي النقد معها؟ - يلوح لي أنه كلما مر الزمن، وأوغلت القصيدة في رحلتها نحو الفرادة المنشودة زادت أزمتها مع النقد، وزاد بعده عنها، لذلك فقد انطلق منذ سبعينيات القرن المنصرم شعار يقول: على الشعراء الشبان، شعراء الموجة الجديدة أن ينتجوا نقادهم، وأن يخرج هؤلاء النقاد من قلب التجربة الجديدة ذاتها، فهم الأدرى والأعلم بمكنون التجربة الحديثة وتكويناتها. فالنقاد التقليديون أعجز من أن يتمثلوا روح التجربة الجديدة، أو يتمكنوا من الرحيل إلى عوالمها القصية؛ مهما حاولوا أو تعاطفوا وإن كان ذلك عسيراً في أغلب الحالات، وقانون التطور يثبت أن لكل عصر بصمته وإيقاعه وطريقته المختلفة ليس في فعل الكتابة فحسب؛ وإنما في طريقة تلقيها أيضاً. قلت في سياق آخر: إن على الشعراء أن يخوضوا حرباً نقدية ضد توظيف الشعر لما ليس شعراً؟ - الدعوة قائمة ومفتوحة ومستمرة في زمن لم يعد للشعر فيه من وظيفة سوى الشعر بعد أن هجر بلاط الملوك، وأعلن خروجه من دنيا السياسة، تلك التي صار لها أحزابها وصحافتها، والناطقون الرسميون وغير الرسميين باسمها، وصار على الشعر أن يكون شعراً فحسب. صحيح أن الواقع - والعربي منه بخاصة- لا يزال مُزرياً ويعاني من بؤر تخلف مريعة، وأن البعض يعتبر انحياز الشعر إلى نفسه هروباً؛ إلاَّ أن ذلك صحيح من وجهة نظر شعرية صرف، وذلك في محاولة لإنقاذ الشعر من التورط في ما لا يحسن الإفصاح عنه، وفي قطع الطريق إليه حتى لا يعود إلى أزمنة المدح والهجاء، وتقبيل أقدام الممدوحين. وفي تقديري أن بقاء شاعر مدّاح واحد في هذا العصر يشكّل إهانة فادحة للشعر والشعراء. ثمة مساحة التباس وتوجس تفصل دائماً بين الشاعر والناقد، كيف تمكّنت من ترميم العلاقة بين هذين الحقلين في تجربتك الشعرية والنقدية؟ - أتمنى أن أكون قد فعلت ذلك، وفي مقدور الشاعر الناقد أو الناقد الشاعر أن يفصل بين الحالتين أو اللحظتين، لاسيما لحظة الكتابة الشعرية، فقد لا ينسى الشاعر وهو يكتب نقداً أنه شاعر، لكن من واجبه أن ينسى وهو يكتب الشعر أنه ناقد، وأن يدخل عالم القصيدة مغموراً بألقها ومستمتعاً بحضورها، وفي هذه الحال لا يصح لنا أن ننسى أن أهم النقاد في هذه المرحلة، هم من الشعراء ابتداءً من أدونيس، وكمال أبو ديب، وقاسم حداد، مروراً بمحمد بنيس، ومحمد السرغيني، وحاتم الصكر، وعلى جعفر العلاّق، وعلوي الهاشمي، وحلمي سالم، وعبدالمنعم رمضان، وغيرهم وبعض هؤلاء إن لم يكونوا كلهم استطاعوا أن يعبروا ساحة الالتباس، وأن يفصلوا بتلقائية ما بين الحقلين. في أعمالك الشعرية الأولى كنت معنياً أكثر بما هو خارج الذات، ومنذ ديوان "أبجدية الروح" وما تلاه من كتب شعرية، أصبحت قصيدتك تتكئ على الأنا في اشتباكها مع هواجسها وأحلامها وتاريخها الشخصي، وكل ما يحيط بالذات من أمكنة ومدن وأصدقاء.. كيف تنظر إلى هذه المرحلة المفصلية في التجربة؟ - أرجو أن لا ننسى مؤثرات البيئة وانعكاسات الأوضاع التي مرت بها اليمن قبل قيام الثورة وبعد قيامها، وحتى وقت قريب حيث كان الشعب ينظر إلى الشاعر بوصفه ثائراً، وأن عليه أن ينسى ذاتيته مؤقتاً، وينصهر في غمار العمل الوطني، ويخوض مع الشعب المضطهد تجربته النضالية بلا تردد، وهذا ما حدث لي ولشعراء اليمن الذين سبقونا، فقد كانوا ثواراً وسياسيين، وقامت قصائدهم بدور الصحافة والمنشورات السياسية وغلبت عليها لذلك النبرة الخطابية المباشرة، فكان يكفي أن يطلق أحدهم قصيدته لتكون على كل لسان، وقد استمرت هذه الأدوار، تلك هي صورة الشاعر حتى بعد اندلاع الثورة وظهور الأحزاب، التي ظلت تعتمد على صوت الشاعر وتحتكره إلى درجة حلت معها القصيدة في بعض السنوات محل الفعل السياسي. والرأي الذي بدأ يسود الآن وهو انحياز الشعر إلى السياسة، جعله يخسر كثيراً، ولم يفد السياسة سوى بالقليل، وعندما بدأنا نطرح هذا الرأي قامت القيامة، واتجهت كثير من السهام نحوي بخاصة، واتهمت بأنني أريد فصل الأدب عن السياسة إلى أخر التهم التي اختلط فيها الحقد والجهل معاً، ولم تخمد نيرانها إلاَّ بعد أن بدأ السياسيون أنفسهم يدركون خطر الاعتماد على العواطف المؤقتة، ويرددون قول الشاعر عمرو بن كلثوم: ألهت بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم والمعنى المراد واضح بأن القصائد السياسية المهاجمة للأوضاع المتردية قد ألهت السياسيين، واعتبروها بديلاً عاطفياً خطيراً عن الفعل السياسي المطلوب. وأنت في مكانة شعرية ونقدية تتيح لك الإطلال على المشهد الشعري العربي.. كيف تنظر إلى التجارب التي تحاول استضافة البعد المعرفي بدلالاته الحسية داخل النص الشعري؟ - لا يمكن أن يصل المشهد الشعري العربي إلى ما نريد، أو أن يتخلى سريعاً عن المحمولات الفكرية والمعرفية. اختلاط الأصوات وتنوع الاتجاهات أمر وارد ، والمهم أن يكون الجديد واعياً لمهمته، وأن يتجنب الدخول في صراع من أي نوع مع الأشكال والأساليب الأخرى حتى لا يلهيه الصراع عن مهمته، ويبعده عن الوظيفة التي انتدبه الشعر لها. لا وقت لدى المبدع الحقيقي لكي ينفقه في المهاترات والدخول في معارك لا قيمة لها. كل الوقت ينبغي أن يكرّس لبلورة تجربته وتطويرها وإنضاجها، ووضعها بصفائها وتميزها بين يدي القارئ، مؤمناً بأن بعض الأبواب التي ما زالت مغلقة في وجهه سوف تنفتح، فالوعي بأهمية الإبداع الجديد يتزايد ، والجامعات العربية تقدم كل عام آلافاً من القراء والقارئات؛ ممن يتطلعون إلى إقامة علاقة وثيقة مع القصيدة الجديدة والأجد، هذه التي تلامس أعماقهم، وتضعهم مع العصر وجهاً لوجه؛ بعيداً عن النماذج الخطابية والمنبرية والقصيدة الفوتوغرافية، تلك التي تعيد رسم ما هو قائم في الواقع بدلالاته الفجة المباشرة. بتجاوز الحديث عن زمن الرواية، ما الذي ينتظر الشعر في الأفق الزمني القادم، أهي حتمية تطور شكل القصيدة، أم الانقلاب على جوهر الشعر ولغته؟ - الشعر ملاذ روحي، وتعبير أرقى عن الوجدان، ولا غنى للإنسان عنه في حاضر الزمن وقادمه. ويمكن القول بأن الرواية حققت حضوراً بارزاً في العقود الأخيرة، لكن ذلك لم يكن على حساب الشعر الذي ظل حاضراً بقوة أيضاً. وأرى بإحساس الناقد أن الرواية أفادت من الشعر كثيراً، وأن الشعر كذلك أفاد منها، وإن بدرجة أقل، وتؤكد هذه الاستفادة المتبادلة حقيقة أنهما قادران على خلق فضاء مشترك وحالة من التعايش لا تنتهي، وأتساءل هنا: من ذلك الذي يقول إن نوعاً إبداعياً في استطاعته أن يمحو نوعاً آخر ويحل محله؟ ثم أضيف مؤكداً أن طبيعة الإنسان تجعل حاجته الدائمة إلى أن يجد نفسه في شتى التجليات الإبداعية. ماذا عن هاجس السرد، كنت قد ألمحت في إحدى المقابلات إلى رواية أو سيرة ذاتية ناجزة؟ - قد أكون أسقطت الكثير من مقاطع سيرتي الذاتية عبر كتبي الشعرية الأخيرة: كتاب صنعاء، كتاب القرية، كتاب الأصدقاء، كتاب المدن، كتاب الأم. ومع ذلك تبقى مساحة لا بأس بها من هذه السيرة، يمكن لهاجس السرد أن يحتويها في وقت قريب. مشكلتي مع تحقيق هذه الرغبة/ الوعد أنني محتاج إلى فترة تفرّغ في وقت ما زلت فيه محاصراً بالمسؤوليات، التي فرضتها على نفسي من خلال الكتابة شبه اليومية لعدد من الصحف المحلية والعربية، فضلاً عن التدريس الجامعي. وفي أول فرصة للتخفف من عناء هذا العبء سأتفرغ لإنجاز ما كنت وعدت القارئ به. وبين يدي الآن صفحات ناجزة ينقصها التشذيب والمراجعة والترتيب. وتراودني منذ فترة فكرة البدء بنشر السيرة المقترحة منجمة عبر إحدى الصحف الأسبوعية كما فعل آخرون، ثم إعادة جمعها ونشرها في كتاب وأتمنى أن أحصل على الوقت الكافي لإنجازها.