في عام 2003 م أكمل علماء الأحياء مشروع الجينوم البشري Human genome Project ذلك المشروع الذي تمكن من فك الشفرة الوراثية لجينات البشر البالغ عددها 34 ألفا المرتكزة على ثلاث مليارات حمض نووي مترابطة على لولب حلزوني داخل الخلية لا تُرى بالعين المجردة لكنها تحوي كل الأوامر البيولوجية المؤثرة على حياتنا ، وعلى غرار ذاك المشروع بدأ البحث عن )الجينوم القرآني( الموجود في النص القرآني الشريف المحفوظ من أي تبديل أو تغيير حتى قيام الساعة. واذا كان الجينوم البشري يتكون من ثلاث مليارات حمض نووي، فان الجينوم القرآني يتكون من 114 سورة و6236 آية و 77436 كلمة و 340740 حرفا، في 18 جزء مكي و12 جزء مدني، نزل دفعة واحدة إلى السماء الدنيا ، ثم تنزل منجما (مفرقا) إلى الأرض ، فما هو هذا المشروع؟ الجسم القرآني في أكاديمية برلين- براندنبرج للعلوم والإنسانيات في ألمانيا يعمل عدد من الباحثين في مجال العلوم الإسلامية على مشروع كبير يحمل عنوان “CorpusCoranicum” وهو اسم لاتيني معناه “الجسم القرآني”. يهدف المشروع أساسا إلى توثيق التراث الإسلامي، وذلك بوضع النص القرآني في سياقه التاريخي الذي سيمكن الباحثين من التعرف على الطريقة التي لمس بها أسئلة عصره واكتشاف المحيط التي نزلت فيه، وكيف استقبل الناس النص في العصور القديمة، بالبحث في الأرشيف القديم المفقود الذي يضم المخطوطات والنصوص التي انتقلت بصورة مكتوبة وصورة شفهية، بالإضافة للبحث عن الكتب المنسية المتعلقة بالقرآن، وذلك لنتمكن من رؤية القرآن في سياق التاريخ البشري. مديرة المشروع البروفيسور الألمانية أنجيلكا نيوفيرث المتخصصة في الدراسات العربية والدراسات القرآنية بجامعة برلين الحرة، والباحث الألماني ميشيل ماركس المتخصص في الدراسات العربية بجامعة برلين الحرة ومدير فريق البحث بالمشروع. . هذا المشروع بدأ الإعداد له منذ سنوات طويلة، ولكن بدأ تنفيذه بالفعل في عام 2007م بتمويل 2 مليون يورو من أكاديمية برلين-براندنبورج للعلوم والإنسانيات في ألمانيا. ويشرف علي المشروع فريقان، حيث سوف يقوم الفريق الأول بوضع (بنك معلومات Databank) لكل ما يتعلق بالقرآن الكريم، في حين يقوم الفريق الثاني بتحليل عمل الفريق الأول، ما يشبه دراسة التشريح والفيزيولوجيا في الطب، وما يلحقه مع علم النسج والتشريح المرضي، في محاولة فهم الجو الديني والحقبة التاريخية التي عاصرت انبعاث الإسلام، في محاولة إعادة تصنيعها للاقتراب من فهم أفضل للنص القرآني. والفريق الأول الذي سيعني ببناء بنك للمعلومات القرآنية سوف يحشد ويجمع كل ما يتعلق بالقرآن، مثل النسخة التي عثروا عليها في اليمن في السبعينات (1973م)، وكانت غير منقطة وبدون تشكيل؛ فالمستشرق (جيرد روديجر بوين Gerd-Ruediger Puin) يريد من خلال النسخة اليمنية إعادة كتابة الفترة الأولى من تاريخ الإسلام . والذي دفع لهذا المشروع هو فهم الآيات التي تتحدث عن السلم وتلك التي تتحدث عن القتال فكيف يمكن جمع كل ذلك في نسق متناسق موحد؟ مراحل المشروع يستغرق المشروع 18 عاما بحسب قول أنجليكا، وينقسم إلى مرحلتين، المرحلة الأولى - التي بدأت فعلا عام 2007 م- تركز على اكتشاف وتجميع جميع النصوص القرآنية القديمة المتواجدة في المخطوطات القديمة عبر تطور النص العربي للقرآن بدءا من أول نسخة حجازية وحتى النسخة المطبوعة للقرن العشرين. ثم سيبدأ الباحثون المتخصصون في إنشاء قاعدة بيانات تكون بمثابة بنك معلومات إلكتروني شامل يتضمن جميع المخطوطات التي حفظت القرآن ودونته بخطوط مختلفة مثل أول مخطوطة للقرآن، والتي تعود لعام 700م، كما سيتضمن بنك المعلومات القراءات المتعددة للنص القرآني، إضافة إلى نصوص تراثية من العصور السابقة على القرآن باللغات اللاتينية واليونانية والآرامية والعبرية. أما المرحلة الثانية من المشروع تختص بالتحليل والتعليق على هذه النصوص والمخطوطات في إطار عملية التطور التاريخية الخاصة بها ، أي أن المرحلة الثانية تهدف إلى تحليل المرحلة الأولى، في محاولة لفهم الجو الديني والحقبة التاريخية التي عاصرت انبعاث الإسلام، في محاولة إعادة تصنيعها للاقتراب من فهم أفضل للنص القرآني لتسهيل فهم القرآن على غير المسلم المعاصر. يعمل في المشروع 15 باحثا من ألمانيا وبعض الدول العربية والعالمية، وهم من المتخصصين في العلوم الإسلامية والمخطوطات القرآنية والخط العربي وعلم فلسفة اللغات، بالإضافة إلى خبراء في قواعد البيانات الإلكترونية، وذلك بهدف تتبع تاريخ النص القرآني وتطوره لرسم صورة للحالة الذهنية والثقافية التي كانت سائدة فترة نزول القرآن.. وترى أنجليكا – مديرة المشروع – انه ما زال من المبكر التعرف على ما سيخرج به فريق البحث من نتائج وما ستوضحه النصوص التي يتم جمعها الآن، وتضيف أنه من المحتمل أن يستغرق المشروع البحثي فترة أكثر من ال18 عاما المخصصة له، لأنه مشروع ضخم ويعد الأول من نوعه في العالم. شرح المشروع بدول إسلامية وكانت مديرة المشروع أنجيلكا نيوفيرث قد ذهبت مع فريق المشروع قبل وبعد بدايته إلى عدد من الدول العربية والإسلامية لشرح المشروع هناك في ورش عمل ومحاضرات مختلفة ومن هذه الدول إيران، وتركيا، والمغرب وسوريا. وتنطلق فكرة المشروع من الطبيعة الحية للنص القرآني، فهو نص أخذ يتشكل عبر أكثر من عشرين عاما، وهي الفترة التي نزل فيها على النبي محمد.. كما يصف ميشيل ماركس- مدير فريق البحث بالمشروع- فلسفة المشروع قائلا “القرآن نص متعدد المعاني، وينفرد بتنوعه الصوتي، فالنص القرآني كتب بخطوط مختلفة مما أدى إلى حدوث تباين بسبب اختلاف طريقة رسم الحروف، فالخطوط القديمة كانت تخلو من النقاط المصاحبة للحروف، كما أكسبت القراءات المختلفة للقرآن فيما بعد طرقا مختلفة لسماعه، إضافة إلى تحوير لبعض معانيه”.. ويوضح ماركس أن إرفاق النصوص التراثية من العصور السابقة على القرآن كالنصوص المسيحية واليهودية لا يهدف إطلاقا إلى إرجاع بعض الآيات القرآنية إلى أصل سابق عليها، وإنما يهدف إلى وضع النص القرآني في السياق الثقافي والتاريخي الذي ظهر فيه، مما يلقي الضوء على الحالة الذهنية لمتلقيه وطبيعة نظرتهم للعالم في ذلك الوقت، حيث إن المشروع لا يضع شخصية النبي محمد في صدارة اهتمامه وإنما يركز على المتلقين للقرآن، الذين نشئوا في ظل الأفكار والنصوص التي كانت منتشرة آنذاك. وحاليا يعكف فريق البحث على الاطلاع على القراءات المختلفة وتقييمها، كما يقوم بحصر المخطوطات والنصوص المتفرقة بين المكتبات والمتاحف لجمع وتوثيق هذه النصوص التي انتقلت كتابيا وشفهيا، ساعيا لمعرفة تاريخ كتابتها حتى يتم تحديد أي النصوص أقدم، على أساس بحثي علمي. أخيرا لمن أراد الاطلاع أكثر على تفاصيل مشروع الجسم القرآني فموقعه على الشبكة العنكبوتية هو www.corpuscoranicum.de ،لكن باللغة الألمانية فقط في الوقت الحاضر ربما يتوسع الأمر في المستقبل ولا ننسى ان المشروع سيستمر حتى عام 2025م إلى جانب أن البحث عن القران الكريم المنزل باللغة العربية فلا ريب أن القائمين على المشروع لن يغفلوا أن يضعوا نسخة من مشروعهم بلغة القران الكريم الذي يغوصون في البحث عن أسراره.