رغم التقنيات الكثيرة التي صبغت القرن العشرين وساهمت في نهضة البشرية ونهضة العلم نفسه وفرضت مسميات كثيرة على هذا القرن منها أنه عصر الفضاء واستكشافه منذ رحلة سبوتنيك - أول آلة صنعها البشر تغادر الغلاف الجوي عام 1957م وما تلاها، وكذلك عصر الذرة منذ فلق الذرة عام 1938م وانفجار القنبلة الذرية عام 1945م وكذلك عصر الكمبيوتر منذ كمبيوتر أيناك ENIAC عام 1944م واختراع الترانزستور 1948م وصولاً لاختراع الكمبيوتر الحديث وثورة الاتصالات المتوجة بالشبكة العنكبوتية الإنترنت وغيرها من التقنيات المتلاحقة.إلا أن علم الأحياء biology له نصيب كبير في القرن العشرين وفي قرننا الحالي الحادي والعشرين حتى عدت القفزات التي قفزها هذا العلم تباشير للثورة الخضراء - على غرار الثورة الزراعية القديمة والثورة الصناعية وغيرها… .. فما هي بنية الثورات البيولوجية؟ بنية الثورة العلمية بداية نطل إطلالة سريعة على مصطلح بنية الثورة العلمية الذي قدمه فيلسوف العلم توماس كون (1922 - 1996) في كتاب يحمل نفس العنوان؛ حيث يرى كون أن أي نظرية علمية تخضع لبراديم PARADIGM - وهو نموذج إرشادي تتحرك ضمنه ، فاذا لم يصمد هذا البراديم للنتائج الجديدة والظواهر الطارئة ننتقل إلى براديم جديد يستوعب هذا التغير وتسمى هذه النقلة ثورة علمية SCIENTIFIC REVOLUTION. علم الأحياء الحديث بدأ منذ البحث عن الصبغيات (الكروسومات Chromosome) في أوائل القرن العشرين وصولاً لمعرفة تركيب حمض D.N.A على يد جيمس واطسون و فرانسيس كريك في عام 1953م لندخل في عصر الجينات GENES وهي وحدات الوراثة الصغيرة، لكن الأمر لم يتوقف فقد بدأت فقد دخلنا عصر الهندسة الجينية أو الوراثية Genetic engineering وهي التقنية التي تتعامل مع الجينات، البشرية منها والحيوانية بالإضافة إلى جينات الأحياء الدقيقة، أو الوحدات الوراثية المتواجدة على الكروموسومات فصلاً ووصلاً وإدخالاً لأجزاء منها من كائن إلى آخر بغرض إحداث حالة تمكن من معرفة وظيفة (الجين) أو بهدف زيادة كمية المواد الناتجة عن التعبير عنه أو بهدف استكمال ما نقص منه في خلية مستهدفة. وكانت البكتيريا هي أول الكائنات التي تمت هندستها وراثيا في عام 1973م ومن ثم تلتها الفئران في عام 1974م، وقد تم بيع الإنسولين الذي تنتجه البكتيريا في العام 1982م بينما بدأ بيع الغذاء المعدل وراثيا منذ العام 1994م. الاستنساخ والخلايا الجذعية على الطريق لعل اشهر نعجة في التاريخ كانت نعجة دولليDolly التي ظهرت علينا في أوائل عام 1997م بكونها أول حيوان ثديي يتم استنساخه من خلايا حيوان آخر بالغ وذلك في معهد روزلين في جامعة إدنبرة في أسكتلندا بالمملكة المتحدة .. فما هي تقنية الاستنساخ cloning؟ الاستنساخ هو عملية يتم فيها إنتاج نسخة مطابقة جينيا من خلية أو نسيج أو كائن حي، ويطلق على النسخة الجديدة مصطلح “مُستنسخ”، ويعوّل العلماء على تقنية الاستنساخ في تطوير أنسجة وأعضاء لعلاج الأنسجة أو الأعضاء المصابة أو التالفة بالجسم البشري. ومع أن العديدين يعتقدون أن الاستنساخ عملية تحدث صناعيا فقط، فإنه بالطبيعة توجد حالتان يتم فيها إنتاج كائن حي مطابق لكائن آخر تماماً. الأولى بعالم البكتيريا التي تتكاثر عبر عملية تسمى التكاثر اللا جنسي، وتؤدي لتكوين خلايا جديدة تحمل نسخة مطابقة تماما للمادة الجينية التي بالخلية الأم. والحالة الثانية هي بعالم البشر، وتحدث بالتوائم المتطابقة، فبعد تخصيب البويضة من قبل الحيوان المنوي تنقسم إلى خليتين تحملان نفس المادة الوراثية، وهذا يعني أن التوأميْن الوليدين سيحملان نفس التركيبة الجينية. وقد يسأل القارئ ماذا عن الاستنساخ البشري؟ لا زالت هذه العمليات في الوقت الراهن محددة جدا بسبب القيود التي تفرضها الحكومات على هذه الأبحاث لما لها من مشاكل تهدد الجيل البشري حيث أن معظم التجارب في المجال فاشلة و هي بحاجة إلى تمويل مادي كبير و خبرات عالية المستوى حيث أن 90 % من التجارب تفشل في تكوين جنين و أكثر من 100 عملية نقل نواة خلية قد تحتاج لتكوين جنين واحد ناجح. أيضاً هناك عوائق أخرى أمام هذه الأبحاث منها أن الحيوانات التي تكونت عن طريق الاستنساخ تعاني من ضعف شديد في جهاز المناعة و كذلك سرعة الإصابة بالأورام وخاصة الخبيثة منها و أمراض أخرى تصيب الجهاز العصبي ويعتقد بوجود مشاكل في القابلية العقلية و التي يصعب إثباتها بالنسبة للحيوانات المستنسخة لعدم حاجتها للقدرات العقلية مثل الإنسان كذلك وجد بعض الباحثون في اليابان أن الحيوان المستنسخ يعيش بحالة صحية رديئة و الكثير منها يصاب بالموت المفاجئ. والنعجة دوللي لم تأني إلا بعد 277 تجربة فاشلة ، والجدير بالذكر أن النعجة دولي تم قتلها في فبراير عام 2003م بإبرة خاصة بعد إصابتها بسرطان الرئة و عوق شديد و التهابات في المفاصل بعمر 7 سنوات رغم أن أقرانها قد تصل لعمر 11-12 عاماً و بعد تشريحها تبين خلوها من أي مشاكل عدا سرطان الرئة و التهاب المفاصل. نتيجة لكل ما تقدم ذكره كان من الضروري اتخاذ تدابير شديدة لمنع إجراء هذه التجارب على البشر و تم إصدار قوانين صارمة في معظم دول العالم منها أميركا و أوروبا و اليابان لحظر هذه التجارب..أما الخلايا الجذعية Stem Cells (وتسمى كذلك بالخلايا الأولية أو الأساسية أو المنشئ) هي خلايا لها القدرة على الانقسام و التكاثر لتعطي أنواعًا مختلفة من الخلايا المتخصصة specialized cells, أي من الممكن أن تعطي أي نوع من الخلايا تحت ظروف فيزيولوجية أو تجريبية معينة لتصبح خلايا ذات وظائف تخصصية كخلايا العضلات وخلايا الكبد والخلايا العصبية والخلايا الجلدية وغيرها.. وهذه الميزة هي التي جعلت العلماء والأطباء يهتمون بها ويفكرون في استخدامها لعلاج العديد من الأمراض المزمنة والتي لا يوجد لها علاج شافي حتى الآن بدأ التعامل معها منذ 1998م . مشروع الجينيوم وما بعده مشروع الجينوم البشريHGP فهو مشروع بحثي عن خريطة الجينيوم التي تحدِّد كل التفاصيل الخاصة بكل جين: نوعه, موقعه من السلسلة الوراثية, تركيبه, علاقته بالجينات الأخرى. ففي عام 1990م بدأ مشروع مشترك بين ست دول وهي: الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين واليابان لدراسة الجينوم البشري والذي سمي ب «HGP» اختصاراً ل «Human Genome Project»، وقد كان المخطط المالي لهذا المشروع هو شركة «سيليرا جينوميكس»، وتم الشروع في العمل المكثف من أول لحظة بعد تكليف فريق العمل بقيادة فرانسيس كولينز. بلغت تكلفة المشروع قرابة 5 مليارات دولار، وقد كان من المخطط له أن يستغرق 15 عاماً، لكن التطورات التكنولوجية أدت إلى تسريع العمل به حتى أوشك على الانتهاء قبل الموعد المحدد له بسنوات عدة. فأعلنت النتائج الأولية للمشروع عام 2000 م، وأعلنت النتيجة النهائية عام 2003م. وقد أدى ذلك لإجراء أبحاث في مجالات ذات أهداف أبعد منها معرفة إمكانية حدوث الاختلالات الجينية ومدى تأثيرها على صحة الإنسان، كما بات بالإمكان دراسة المخزون البشري لشجرة العائلة بعد أخذ خلايا من أجسام أفرادها، ومن ثم استقصاء الأمراض والتاريخ المرضي. لكن ما توصل إليه العلماء في مشروع الجينيوم هو قراءة كتاب الحياة فقط، لكن فهمه واستيعابه والاستفادة القصوى من جميع معطياته، يحتاج إلى المزيد من البحث. وإنجاز مشروع الجينوم البشري صاحبته مفاجآت كثيرة، من بينها أن عدد الجينات في الإنسان 34 ألفا فقط، وليس مائة ألف كما اعتقد العلماء لمدة طويلة، ولهذا برز سؤال مهم هو: كيف أمكن تكويننا بمثل هذا الإعجاز والتعقيد من خلال 34 ألف جين فقط.. علما بأن ذبابة الفاكهة تملك 13 ألفا من الجينات ونبات “الأرابيدوبسيس” يملك 25 ألف مورث فقط؟ وسارع العلماء بالبدء في مشروع البروتيوم البشري Project Human proteom للإجابة على هذا السؤال الصعب، كما يقول العالم الأمريكي “بريان شيت”: “إن ما نريد اكتشافه هو أن في أعماق كل فرد مائة تريليون خلية.. فما هو نوع كل بروتين تنتجه هذه الخلايا؟”. لذلك كان لا بد من ترتيب وجرد وتحليل البروتينات والجزيئات المرتبطة بها ذات الأدوار الجوهرية بالنسبة للكائنات الحية، بعد أن تأكد العلماء أنه لا يكفي معرفة الجين المسئول عن حفز الخلايا الحية لإنتاج أنواع بعينها من البروتينات، بل ينبغي معرفة حالة الخلايا أثناء الصحة أو المرض. فمشروع “البروتيوم” البشري بدا عام 2002م، فالبروتيوم يحتوي على أسرار وتعقيدات تزيد عن الجينوم، وقد يحتاج الفهم الكامل لما تنتجه كل خلية من خلايا أجسامنا من بروتينات أثناء المراحل المختلفة لحياتها.