لا يفترض بالأوقات المقدسة في أية ديانة أن تكون موسماً للخسائر و المتاعب لمن يؤمنون بها هذا بالتأكيد امر لا يختلف عليه اثنان في العالم.. و الأوقات المقدسة في ديننا جُعلت لتكون مناسبة احتفائية بالقيم الجميلة و العميقة للمؤمنين و لتكون محطة للتزود و اكتساب الطاقة لبقية ألأوقات. إنها فاصلة حنين للسماء بين جمل من الكدح الأرضي في يوميات البشر.. فاصلة يتوقف فيها التدهور للنفس و تعلن التوبة بعد مراجعة صادقة لكل ما فات.. تلك التوبة التي يزيد من تألقها المشاعر المقدسة والعبادات والقناعات العميقة للأيام و الليالي المباركة التي جُعلت فرصة لإعادة صياغة الروح لبدايات جديدة صالحة في المستقبل. هذا ما يفترض ان يكون عليه رمضان،ثورة على سوء ما مضى..وهو ثروة للتزود و الامتلاء بالقوة للمستقبل. يفترض انه موسم التحدي لقصورنا وضعفنا لنتخطاها الى أمنياتنا العليا. للأسف لم يعد رمضان هكذا...نحن كشعوب مسلمة نسجل اعلى نسب للاستهلاك المقرف للبرامج الترفيهية الرخيصة في رمضان من مسلسلات و برامج راقصة او تلك الاقرب للمقامرة منها للمسابقة.. أما عن الانتاج العملي فهو الاشد انحطاطا في شهر يفترض انه وقت الازدهار الفكري والعملي لقوم تركوا غرائزهم طواعية لكن النوم هو من يزدهر حقا ..أما عن المشاكل و الشجارات و الحوادث فهي ارقام مخزية في ايام صفاء وتبتل و تسامح مع الذات و الاخرين..المصيبة الكبرى تأتي حين نكتشف ان الشعوب الفقيرة اصلاً تصبح اكثر فقراً في رمضان و ما يتبعه من العيد اذ تُصرف مبالغ هائلة اضعاف دخل الفرد فيها مما ينذر بتدهور لميزانية الفرد فيها لبقية الاشهر.. واخيرا نتفاجأ ان الازمات النفسية ونوبات الضيق والقلق تشتد على الكثير طوال الشهر خاصة الأواخر وهذا مناقض لكونه شهر الاتصال الروحي بالنفس و الأنسجام والاسترخاء في محراب العبادات. ماذا حدث؟؟!! الذي حدث هو العديد من الطقوس والممارسات الخاطئة التي حولت رمضان الى النقيض مما يفترض ان يكون. ليس من العيب ان يعتني المرء بطعامه لكن الخطأ ان يبذر في اقتناء الطعام و كأن صيامه سيحوله الى وحش يمتلك معدة زيادة الى معدته الطبيعية و يلتهم الكثير والكثير ....مما يؤدي الى مشاكل لا حصر لها في الهضم و الاخراج بعد ذلك وبينهما الامتصاص التي تعتبر اساس القوة للجسم. المشكلة الاكبر ان التركيز ليس على النوعية الجيدة من الطعام مثل الفواكه و الخضروات و الحبوب المغذية مما يجعل المشاكل الصحية متفاقمة ومتزايدة...وللأسف تكثر حالات الوفاة التي تعكس تدهور الصحة وضعف الرعاية ويظن البعض انها رحمات رمضان و يا لها من رحمات!! *من جمال الشخصية العربية الكرم.. و ان يكرم الناس ضيوفهم لهو الخير و الله.. وما اجمل موائد الرحمان على الطريقة الشعبية لكل عابر سبيل جائع ..لا يمنع منها فقير ولا مجذوم و لا معتوه ولا مجنون ولا غيرهم من المدفوعين بالأبواب.. ما اجمل ذلك!! لكن ذلك لم يعد كثيراً بيننا بل استبدله الناس بالعزايم التي تكسر ظهور النساء و جيب العائلة و لا خير منها اذ كلها مفاخرة و تباهي واعزمه لأنه عزمني وعلشان اوريها اني كمان اعرف اطبخ وأسوي.. و تزداد الصدامات عند تأخر الاطباق و توالي الضيوف وتتفرق العائلة يوما بعد يوم لقعود ناس مع الضيوف وناس في المطبخ وناس في الوسط رايحين راجعين ولماذا كل ذلك؟!! لا ادري. الانتاجية العملية من المفترض ان تزيد لكن ماذا تتوقع من اشخاص لم يكتفوا من النوم و عاشوا ليلة صاخبة من التلفاز و الاسواق و الضجيج و حتى لو ناموا فسيناموا في ساعات النهار الغير طبيعية للساعة البيولوجية للجسم مما يعمل على خلل كبير في نظام الأيض والطرح داخل الجسم و أكثر و أخطر من يتضرر الغدد الصماء التي تتحكم بكل وظائفنا الحيوية ....و يا ضيق الحال لمن لا يجد وقتا لينام لا في الليل و لا في النهار كأمهات الأطفال الذين يصحون باكرا فلماذا قلبنا الليل نهارا و النهار ليلا في رمضان سؤال لا جواب له وسط تردي ادى بالكثير من الدول الإسلامية ذات الميول العلماني لإلغاء الصيام بعذر المحافظة على العائد القومي و من ذا يجرؤ على لومهم؟؟ إنه لمن العجيب ان تفكر ان نظاما صارما يبدأ في وقت محدد و ينتهي في وقت محدد يتحول الى فوضى عارمة من الحقوق المضيعة والعبث. هلع الطعام ..تدهور النوم ... انعدام النظام و الاستقرار العائلي...الديون المتراكمة كلها عوامل تتراكم لتصنع ارتفاع مخيف في حالات القلق و التوتر و الضيق لدى الكثير و يشعر الأغلبية بإحساس جارف من الاستياء العام لأنهم مقصرون في كل الجوانب...ومهما حاولوا و مهما اجتهدوا يظل شعورهم خانق بالاستنزاف و عدم الكفاية. يظهر كل ذلك بوضوح في ممارسات عبثية للتفريغ كهوس التسوق والانفلات الاخلاقي و النفسي خاصة المدمنين على عادات سيئة وسيئة جدا.. ذلك لأن اختلال التوازن النفسي وتعادل الادوار الحياتية في البيت والشارع والعمل يجعل مخزون تقدير الذات يضعف مما يقلل مناعة الفرد ومقاومته للإغراء والغرائز والادمان. *اخيراً في الجانب العبادي يصل البعض لنهاية رمضان و هو حطام لأنه اجهد نفسه بشكل بشع في كل شئ و بشكل غير منتظم وغير متدرج. بالتأكيد المفاهيم المغلوطة عن التبتل و العبادة جعل الاغلبية تعبد رمضان الهاً فيه الرحمة و الكرم ولن تكون في اي يوم سواه و تناسوا ان الله هو الكريم و ليس رمضان و ان الله رحيم بنا ..يريد ان يتوب علينا دوما و ما جعلنا علينا في الدين من حرج. شهر رمضان اشبه بموسم تخفيضات لكن مش المقصود بالتخفيضات ان تشتري كل شئ اذ ليس بمقدورك ذلك ولا يصح ذلك بل عليك اخذ من كل صنف ما تحتاج وما تقدر عليه بما يوصلك للمقصد الشرعي الاكبر الذي من اجله شرع الله رمضان...اتعرفون ما هو ؟؟؟ انها التقوى.. كيف نعبد الله بما نستطيع و بما تصل له اقصى جهودنا دون ان نتلف توازن حياتنا و دون ان نقصم ظهورنا. كيف نخشع لله و نقول له اننا نحبك يا رب فاغفر لنا و اعتقنا من فشل الدنيا و جحيم الآخرة. في النهاية لماذا تأخرت هذه المقالة للآن؟ حتى تأتي و الوجع ملتهب فيظل الدرس عالقاً في الوعي طوال العمر و حتى رمضان القادم إذا كان لنا عمر. أعزائي دعونا نشحذ العزم ان نتحرر من قيود النفس و المجتمع و التقاليد الضارة و ان نستعد لأوقاتنا المقدسة بشكل صحيح وحتى ذلك الحين تذكروا ان الكريم اذا سُئل اعطى و إذا اعطى أدهش سبحانه لذا أكثروا سؤاله.