حديثنا هذا الأسبوع من نقاشات فكرية ؛ حديث ممتع و ذو شجون مع المفكر الليبي الدكتور عبد السلام جمعة زاقود ، الشاب الذي اقتحم عالم الفكر بقوة .. هو باحث دكتوراه بكلية الحقوق/ جامعة عين شمس بجمهورية مصر العربية 2012. ماجستير القانون الدولي العام بمرتبة الشرف، والتوصية بنشر الرسالة من أكاديمية الدراسات العليا طرابلس / ليبيا 2008. ليسانس الشريعة والقانون بتفوّق من جامعة المرقب بليبيا 2006. إجازة حفظ القرآن الكريم كاملاً برواية الإمام قالون عن نافع المدني، بنسبة نجاح 92.75 % 2002. عضو مؤسس الجمعية الليبية للقانون الدولي العام. عضو منتدى القانون الدولي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. عضو الجمعية المصرية للقانون الدولي العام .. وله العديد من المؤلفات منها كتاب طريق السالك لأداء المناسك، وكتاب الداعية البارع، وكتاب وقفات لا غنى عنها لكل مسلم وكتاب العلاقات الدولية في ظل النظام العالمي الجديد وكتاب الأبعاد الاستراتيجية للنظام العالمي الجديد، وغيرها. .. بداية هل بالإمكان أن تحدثنا عن مشروعكم الفكري؟ بداية أود أن أنوّه إلى أنني من المؤمنين بأن التراث العربي-الإسلامي، تراث خصب، وجله لم تطاله الدراسات حتى اللحظة، فضلاً عن ذلك الجزء الذي طالته دراسات بعضها كان سطحيًا، وبعضها الآخر كان أحادي النظرة، مما أصبحت معه الحاجة ملحة، لأن تكتسح موجات مراجعة التراث، وإعادة قراءته، جميع مجالاته، لإعادة النظر في كل الاحتمالات، والافتراضات التقليدية، حيث إن وقائع التاريخ المتعاقبة، تفرض تغيّر الفهم للعديد من القواعد، والنصوص، وهذا يستدعي استنطاق النصوص استنطاقاً يُراعَى معه السياق الحضاري، شريطة عدم التضحية بالموضوعية على مذابح التحيز. ولذا فإنني أعكف على قراءة التراث من خارجه (أي بعين الناظر له من الخارج)، قصد الوقوف على مواطن القصور، وإصلاحه من داخله، وبذا تجدني أتفق في قراءة التراث الإسلامي بآليات قراءة تراث الأديان الأخرى، كما يرى الراحل محمد أركون، لكن ينبغي أن يكون إصلاحه من داخله بما يتوافق مع مشروع الدكتور الجابري، القائم على استراتيجية الإصلاح من الداخل. .. هل تتفقون مع الذين يقولون بأنَّنا نعاني من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع فكريَّة وفلسفيَّة؟ لا شك أن الدراسات الحديثة لا بد وأن تكون قائمة على أسس علمية صارمة، ومناهج بحثية رصينة، وكما تعلم أن مناهج البحث في تطور مستمر، وما ينبغي التنبه له هنا ألا يُفْرط باحث التراث في الاهتمام بالمنهج، على حساب الموضوع، وتحضرني هنا مقولة لطيفة للعقاد رحمه الله تعالى، عندما رأى من يخل بالموضوع متذرعًا الاعتناء بالمنهج، فقال: المنهج عند تعطيش الجيم يصبح المنهش، ولذا فإنني أتفق معك أن الأزمة أزمة مناهج، لكنها في جانب منها أزمة قراءات انتقائية. .. هناك مشاريع فكرية تحفل بها الساحة العربية لمفكرين كبار من أمثال د محمد عابد الجابري ود عبد الوهاب المسيري وغيرهما ،،ألا تمثل لبنة أو بداية لمشاريع أخرى خصوصًا أن هؤلاء المفكرين قد ناقشوا كل ما يمر بالأمة من مشكلات؟ هؤلاء من البحاثة المرموقين، وقد كرسّا جهدهما لبحث التراث، وقدما رؤى فكرية عظيمة، وإنتاجًا معرفيًا يُمكن أن يؤسس عليها، إلا أن هذين المفكرين أصبحا من التراث بالنسبة لنا، وربما بل من الأكيد أن عددًا من مناهج البحث، وما يساعد على هذا الأخير قد ظهر بعد وفاتهما، فصار لدينا من الإمكانيات المساعدة على الاستقصاء، والبحث، ما لم يتوفر لهما. .. التمذهب و العصبوية أصبحا عامل هدم لا بناء .. ألا تعتقد أن الاتجاه نحو دين إنساني للتعايش هو الأمثل؟ الإسلام وفق ما أرى هو دين إنساني بامتياز، ويدعو إلى التعايش، والتآلف بين جميع الأجناس، والأديان، والثقافات، وحسبنا أن نقف عند قوله تعالى: “ لتعارفوا” ، ومعلوم أن التعارف يقتضي الألفة، ويقتضي التعامل، والتعاون،... كما أن النبي صلى الله عليه وسلم، حدث أصحابه صراحة: ليس منا من دعا إلى عصبية، وقد رأينا وثيقة المدينة كيف كانت إعلاناً دستوريًا يتماشى وفق السياق التاريخي، والحضاري، مع آخر ما وصلت له الإنسانية آنذاك. ..“ الإسلام الخالي من التعقيد “ ما الذي تقصده بالضبط .. و هل هناك تعقيد في الفكر الديني .. نرجو التوضيح؟ الإسلام الخالي من التعقيد، هو الإسلام العام، فوق التنظيمات، والحركات، والجماعات، هو الخيط العظيم الذي ينضوي تحته الجميع، مع قطع كل مسببات التقاتل، من تكفير، وتفسيق، وتبديع،..... فهو الإسلام القائم على التيسير، ورفع الحرج، ودفع الضرر، فيه دائرة المباح أوسع بكثير من دائرة الحرام، والتكاليف حسب الاستطاعة. ليس هو إسلام رجال الدين الذين يرون أن الإسلام هو ما يدين به أتباعهم، ويلتزم بتعاليمه مريدوهم، ويقتصر عليهم دون غيرهم. .. أنت تقول أن هناك قواعد في الدين الإسلامي لم تعد صالحة لعصرنا .. هل هناك من خلل في هذه القواعد .. أم أن عامل تاريخية النص يجب أن نتنبه له؟ أعتقد أن القول بأن هنالك قواعد في الدين الإسلامي لم تعد صالحة لعصرنا فيه تجن كبير، والأسلم أن نقول بأن فهم النطاق المكاني، والزماني لتلك القواعد، هو الذي لم يعد يتناسب مع العصر الذي نعيشه، فكما أشرت في سؤالك إلى تاريخية النص، وسياقه، والمخاطب به، والآثار المترتبة على تطبيقه، عوامل تفرض حتمًا إعادة النظر في فهم القواعد، واستنطاقها، قصد إيجاد تشريع ملائم، يأخذ في الاعتبارات المستجدات الحياتية. .. إشكاليات التراث البعض يقدسه إلى حد الثمالة ؛ و البعض الآخر يرفضه أين يجد الدكتور عبد السلام الرأي الصائب؟ ثمة مدارس متباينة، بعضها ترى التقديس لكل ما هو تراثي، وذلك هو ديدن السلفية، في حين هنالك مدرسة ترى القطيعة الكاملة مع التراث، والانصياع بشكل مطلق للحداثة، وبين هؤلاء وأولئك قامت مدرسة ترى التوفيق بين التراث، والحداثة، في حين أرى أنه لابد من فرز التراث، أو فلترته، وتنقيته، كما هو الحال مع الحداثة، دونما محاولات التلفيق التي قطعًا لن تكون منصفة. .. الحديث عن المساواة بين الرجل والمرأة أصبح حديث الكثير من منظمات حقوق الإنسان و كتّاب الرأي .. ألا تعتقد أن الحديث عن المساواة حديث قاصر ؛ و أن الأمر يتطلب أكبر من المساواة بحيث يكون العدل هو الأشمل نظراً لخصوصية الرجل و المرأة؟ أحسب أنني من أوائل من دعا إلى تطبيق العدل فيما يتعلق بحقوق الرجل، وحقوق المرأة، حيث إنه الأمثل في منح كل منهما ما ينبغي له، أما المناداة بالمساواة فهي دعوة جوفاء، ولا تستند إلى أي معايير علمية. .. الاستشراق .. يرى البعض أنه استجابة غربية للثقافة العربية ..في حين يرى المفكر العربي ادوارد سعيد أنه طلائع الغزو.. ما رأيكم؟ عندما نمنح أنفسنا حق بحث تراث الأديان الأخرى، ونقدها، ونقضها ربما، فإنه لمن حق الآخرين التصدي لتراثنا بالبحث، والنقد، إنما ينبغي ألا تكون النتائج التي يصلون إليها مُلزمة بالنسبة إلينا، كما ينبغي أن لا يتعامل مثقفونا مع دراسات المستشرقين تعاملاً انبهاريًا، بل تعاملاً نقديًا، فقراءة المستشرقين ليست خيرًا محضًا، ولا شرًا مطلقًا، ومسألة تقييمها، وتقويمها، مسؤولية البحاثة المسلمين. .. الشورى في الإسلام بين الإلزام وعدمه عند الفقهاء .. إلى أين تميل.. ثم أين تلتقي الديمقراطية مع الشورى و أين يفترقان؟ الشورى آلية من آليات إدارة الشؤون المشتركة، أو إدارة الدولة على وجه صحيح، كما هي الديمقراطية آلية من آليات ذلك، وللأسف ففي الوقت الذي جاءت فيه جل دراسات المفكرين المسلمين لموضوعة الشورى، دراسات مبتسرة، وسطحية، وغير مُنضبطة، وربما قفل باب الاجتهاد حيال الآلية الشورية الأنسب، استطاع المفكرون الغربيون التنظير للديمقراطية، والبرهنة على نجاعتها، وإظهارها بمظهر براق، يستهوي كافة الشعوب المسلمة. إنني لا أؤمن بوجود حاكم ومحكوم، (إن الحكم إلا لله)، بمقدار ما أؤمن بعدم الوقوف في وجه العقل البشري الذي عليه أن يبدع الآلية الأمثل لإدارة الشؤون المشتركة، بقطع النظر عن تسمية تلك الآلية، كما أغتنم هذه السانحة لحث الباحثين المسلمين على دراسة الشورى دراسة موضوعية، وإخضاعها لمناهج البحث العلمي، وطرقها بمداميك النقد، لاختبار مدى صمودها للتماهي مع الواقع الحديث. ..ظهور الجماعات الدينية المتطرفة ك” داعش “ و النصرة في العراق و سوريا و أنصار الشريعة في شبه الجزيرة العربية بشكل ملفت في الفترة الأخيرة .. ألا تعتقد أن مثل هذه الجماعات تشكل خطراً حقيقياً على الإسلام و طعنة في خاصرته .. و ما هي أنجع السبل لمواجهات هذه الجماعات؟ أتفق معك تمامًا بأن أي تنظيم متطرف سيضر بالإيديولوجيا التي ينتمي إليها، هذا إذا نظرنا للفكر الإسلامي (وليس الدين)، على أنه إيديولوجيا كبرى، وبالتالي فإن هذه التنظيمات تؤثر تأثيرًا سلبيًا على الإسلام، ولقد قرأت في صحيفة 7 أيام المصرية في الآونة الأخيرة ارتفاع نسبة الإلحاد كرد فعل للممارسات المأساوية التي تمارسها بعض التنظيمات المنتسبة للإسلام. أما عن أنجع السبل لمواجهتها، فلدي إيمان دائب بأن هدم الفكر المتطرف بالحجاج، والبراهين، ذلك أن الحجة تدحض بالحجة، والدليل يقابل بالدليل، والتاريخ الإسلامي حافل بوجود مثل هاته التنظيمات، وحسبك تتبع ما قام به القرامطة، وجماعات الحشاشين (أتباع حسن الصباح)، وغيرها. .. على ذكر القرامطة .. هذه الجماعة كان شعارها على أساس ديني و تسعى لإقامة دولة دينية ، و لكننا ذقنا ويلات حماقاتها فقد قتلت الكثير في عرفة و خلعت الحجر الأسود و منعوا الحج أكثر من عشرين سنة .. و في هذه الأيام تقول داعش أنها تسعى لهدم الكعبة و هي في نفس الوقت تسعى لقيام دولة دينية .. أين الخلل دكتور ؛ و هل هناك أصلاً دولة دينية بالمفهوم العام؟ بداية إن ما يجري على الساحة اليوم، وما تشهده المنطقة العربية ليس شذوذا أو استثناء في التاريخ، بمعنى أن لكل شيء جذوره التاريخية. زد على ذلك أن جل الحركات التّسترية بينها حزمة من القواسم المشتركة، وبخصوص الفكر الداعشي فإنه لا يختلف كثيراً عن فكر القرامطة من حيث الهدف المبيت بشأن هدم الكعبة، وتأسيس خلافة على أسس واهية، والإسراف في العنف، وادعاء الغيرة على دين الله، وأن السيف على رقاب أمة محمد ممن لم يكن معهم، وغير ذلك مما طبع به ميسم هاتيك التنظيمات . وأعود للقول إن هذه التنظيمات وإن اختلفت زمانيًا إلا أنها تنشأ مكانيًا حيث المناطق التي يعم بها الجهل، والفقر، واستياء سبل المعيشة. ويبقى الأسلوب الأمثل لمواجهتها يتمثل في نشر الوعي، وتنمية الموارد البشرية، والحض على استخدام العقل، وهي استراتيجية تتطلب وقتاً طويلاً. .. متى يجوز أن نقتبس المفاهيم و الأفكار عن الآخر .. و ما هي الشروط؟ الحضارة حضارة واحدة، وقد أخطأ المفكر الأمريكي صامويل هنتجتون عندما كتب عن صدام الحضارات، فالحضارة الإنسانية واحدة، يحدث داخلها تفاعل، وتدافع، كما يحدث التعاون، والتلاقح. وبخصوص كيفية التعامل مع الآخر، مع أفكاره وقيمه، فأسترشد بأمرين اثنين: الأول منهما يتمثل في المقارنة التي عقدها المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله تعالى، حيث رأى أننا نحن العرب والمسلمون وقفنا أمام باب الغرب كالزبون أمام البائع، وبالتالي أخذنا من الغرب الغث، والثمين، في حين وقفت اليابان أمام باب الغرب كالتلميذ، ومعلوم أن التلميذ لا يأخذ إلا النافع من أستاذه. وأضيف أن الصين نقلت ما وصل إليه الغرب فيما يتعلق بالمنجز الحضاري المادي، ولم تنقل المنجز الحضاري القيمي، أو المعنوي، ولذلك يتوجب علينا أن ننهل من منجزات الغرب الحضارية المادية، كما فعل المسلمون الأول، عندما أخذوا من الأمم الأخرى فنون الحياة المادية، وصناعة الأسلحة، والتعامل معها، واحتفظوا بقيمهم، وقاموا بتنميتها. .. ليبيا إلى أين؟ أنت تنادي بالمصالحة الوطنية.. فهل تعتقد أن المصالحة يمكن أن تتم في المستقبل القريب؟ ربما السؤال الأكثر عمقًا الآن ليبيا أين، قبل أن نسأل هي إلى أين؟ ذلك أن وتائر الأحداث متسارعة، أحدثت خللاً كبيرًا في بنية الدولة، فأصبحت الساحة الليبية مفتوحة على كل الاحتمالات، وكل الاحتمالات واردة، فهي تئن تحت وطأة الحرب الأهلية، في ما يُعرف بتوازن الضعف، أي وجود قوى مهلهلة، تتصارع على النفوذ، فأصبحت ليبيا قاب قوسين أو أدنى من التقسيم، ولن يكون هنالك أي بصيص أمل في نهوض ليبيا، وخروجها من مأزقها دون تحقيق مسار المصالحة الوطنية، وإعادة الأمن الاجتماعي، والسلم الأهلي، أما عن آلية المصالحة، ومعوقاتها، وغير ذلك من تفاصيل، فإنني أحيل إلى كتابي الموسوم ب(مسار المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي). .. نتائج الربيع العربي كانت متباينة .. و في اليمن حصل تبادل سلمي للسلطة أعقبه حوار وطني انتهى مؤخراً بنجاح .. ما الرسالة التي توجهها لليمنيين؟ اليمنيون أهل حكمة، وإيمان، وفي الآن ذاته هم مجتمع قبلي، وقيام دولة حديثة، تكون على قدر طموحات اليمنيين، تتطلب وجود إرادة سياسية حقيقية، وتضافر من الجميع، والتكاثف ما بين الشعب والسلطة، في صورة التفاعل ، والتواصل لا القطيعة، قصد النهوض باليمن، ليصبح يمناً سعيدًا. .. رغم النجاح الذي حققه مؤتمر الحوار في اليمن إلا أن هناك جماعة الحوثي في الشمال تقود صراعا مسلحا مع القبائل لتتوسع في مناطق عدة .. و هناك تيارات في الجنوب تطالب بالانفصال .. ما هي رسالتك لكلا الطرفين؟ في مطالع الألفية الثالثة بات من المستحيل حكم أي شعب بالقوة، أو فرض الآراء بالسيف، ولذا لابد من تغليب منطق العقل على منطق القوة، وتحقيق التوافق بما يحفظ وحدة اليمن، ويعيد له استقراره، وعلى اليمنيين جميعًا الوقوف في وجه من يرفض الحوار، والتوافق، لأن مصائر الشعوب ليست للمساومة، ومصلحة الوطن، وسيادته، ووحدته، أمر لا ينبغي إخضاعها للتفاوض. .. ما الكلمة الأخيرة التي تود قولها في نهاية هذا الحوار؟ أشكركم كثيرًا، وأتمنى لكم دوام التوفيق، ونسأل الله تعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يعيننا على تحقيق ما نرنو إليه، كما نسأله أن يحفظ جميع أوطاننا العربية، والإسلامية، وأن يوفقنا لما يحب، ويرضى.