كم هالني ما قرأته في سورة البقرة { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} البقرة - ???- وكنت ظننت ذلك في بداية الأمر مشهداً مقرفاً من تطاول بني إسرائيل على أنبيائهم كعهدنا بهم في مواطن كثيرة حكاها القرآن ودونها التاريخ، إذ كيف يطلبون ملكاً يقودهم في معركة التحرير ضد العائدين على أهلهم وديارهم وفيهم نبي اصطفاه الله لتبليغ الرسالة ؟! ، أليس نبيهم أحق بالملك دون سواه ؟ ، أليس كل نبي أو رسول وظيفته البلاغ والحكم معاً ؟، غير أن ظني سرعان ما تحول سراباً حين شهدت نبيهم يرى طلبهم مشروعاً يستوجب النقاش وليس الرفض {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} البقرة - ???- ، ثم جاءت إرادة الله ملبية لطلب بني إسرائيل ومؤيدة لموقف نبيه بعد مواثيقهم المغلظة بالثبات {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكا} )البقرة -???- )، ثم بين القرآن معيار الاصطفاء الذي حاز به طالوت مقام الملك فقال {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}( البقرة -247). - لم أتوقف عن تلاوة الآيات وتأملها والإعجاب بفطنة طالوت ثم مشاركة بني إسرائيل وملكهم فرحة الانتصار على خصومهم ، وفي نهاية القصة توجت يد الله داوود (عليه السلام) ملكاً ونبياً على بني إسرائيل بعد أن حاز الشرف بقتله للملك الغاشم جالوت، وبين بداية القصة ونهايتها برز أمامي ثلاثة عظماء اصطفتهم الإرادة الإلهية ، كان أولهم نبياً اصطفاه الله لتبليغ الرسالة ولم يره أهلاً للملك، وكان ثانيهم رجلاً فطناً قوياً اصطفاه الله لرئاسة بني إسرائيل وتجييش الجيوش وتنقية الصفوف واستعادة الحقوق ولم يجعله أهلاً لتبليغ الرسالة ، وكان ثالثهم داوود (عليه السلام) الذي جمع له الله بين القدرة على حمل الرسالة والكفاءة في تولي الرئاسة ، وهنا أدركت أن مقام النبوة ومقام الملك مقامان مختلفان في أدوارهما وشروطهما ، وإذا كانت القاعدة تقول (ليس كل ملك أهلاً للنبوة)، فإن تمام القاعدة تقول (ليس كل نبي أهلاً للملك)، وعليه فوظيفة الأنبياء والرسل الأساسية تبليغ هداية الله لأهل الأرض وليس تولي الملك عليهم إلا من استثناهم الله من ذلك كما في حال داوود وولده سليمان (عليهما السلام). الاحتكام إلى الشريعة .. لا تحكيم الشريعة ينبغي ألا تتدخل القدرة الكونية والقدرة السياسية في فرض الأديان والشرائع على العباد ، وإذا كان الإرادة الإلهية المنفردة بالقدرة الكونية قد توجهت إلى ترك الخلق ليختاروا لأنفسهم ما شاءوا {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} الكهف - ??- ، فإنها قد وجهت حملة الرسالات ومبلغيها ألا يستخدموا أدوات القوة لإكراه الناس {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ? فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}- ق ??- ولهذا كان موقفه (عليه الصلاة والسلام) جلياً وحاسماً حين رد عروض سادة قريش بالقول {والله لو وضعوا الشمس في يميني, والقمر في يساري ,وعلى أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته}، وكان على قائمة هذه العروض أن يتوجوه ملكاً عليهم، وكان بإمكانه أن يستفيد من أدوات القوة السياسية للمُلك ليفرض خيار تحكيم الشريعة بمفهومها الواسع (عقيدة - قيم - عبادات أحكام) ، لكنه رد عروضهم بأنه لو كان بأيديهم أن يمنحوه القدرة الكونية على التحكم في الشمس والقمر وتقليب الليل والنهار لما قَبل التنازل عن وظيفته الأساسية (ت?حمُل وتبليغ الرسالة)، فكيف يقبل عرضهم وهم لن يمنحوه أكثر من القدرة السياسية على التصرف في شئون العباد والبلاد، فرسالته محلها ضمائر الناس قبل ظواهرهم، وأساسها رضا الناس وليس إرغامهم . إن وظيفة الرسل والأنبياء الأساسية إقناع الناس بالاحتكام إلى الشريعة وليست وظيفتهم وظيفة الملوك بحمل الناس على الخضوع للشرائع، وفرق كبير بين الفريقين والوظيفتين في القبول والآليات والأولويات والأشخاص، فالاحتكام إلى الشريعة في دعوة الأنبياء قائم على الرضا والاختيار ورقابة الضمير، وتحكيم الشريعة في وظيفة الملوك قائم على القهر والإكراه ورقابة الأمير ، وآلية الاحتكام إلى الشريعة لدى الأنبياء يكون باستخدام أدوات الحوار والإقناع، أما آلية تحكيمها عند الملوك فأدواته قوة السلطان وسطوة القانون، وأولويات الأنبياء أن يبدأ تطبيق الشريعة من أسفل الهرم وليس من أعلاه، فيبدأ الناس أفراداً بالتزام الفروض العينية، ثم تقوم الجماعات بأداء الفروض الكفائية، ثم يأتي دور من تمنحه الجماعات القوة والقرار إن احتاجت وعن مشورة واقتناع لينفذ من الأحكام ما لا يكفي فيه ضمير الفرد ولا تقدر عليه الجماعات إن توحدت إلا بسلطانٍ جامع لجهودهم، أما أولويات الملوك فإنفاذ الشريعة من أعلى الهرم جملة واحدة ودون تدرج، وأما الأشخاص فالاحتكام إلى الشريعة أهلها رجال الدعوة وعلى رأسهم الأنبياء والرسل {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يوسف )108)، في حين أن أشخاص تحكيم الشريعة هُم رجال الدولة، ولا يقوم الأنبياء بوظيفة الملوك السياسية إلا استثناءً باصطفاءٍ من الله أو اختيارٍ محضٍ من الناس بعد استكمال وظيفتهم الأساسية وتوافُر شروط الكفاءة فيهم . تباين أحوال الرسالة عن أحوال الرئاسة لم تُقدمه نبوءته بل كفاءته (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ( 55 ) يوسف - ، فالت?صدُر لانتشال مصر من مجاعة قاتلة تأكل الأخضر واليابس وتطحن الأجساد قبل نزع الأرواح لا يقدر عليه من أيد الله نبوته بتأويل الأحاديث وحسب، بل لا بد فيها من علم يضاعف الإنتاج ويٌطيل أمد بقاءه وأمانة تصونه وتحفظه من أيدي الفاسدين، وحين افتقد نبي بني إسرائيل السالف ذكره لشروط الكفاءة في رفع الظلم النازل بهم تصدر غيره من العالِمين بإدارة الحروب والقادرين على خوض المعارك {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة -247 - ولم يتولى الملك في بني إسرائيل إلا نبيان على كثرة الأنبياء والرسل المبعوثين فيهم، وأعظم دليل على ذلك كثرة الأنبياء المقتولين فيهم وهذا لا يكون غالباً إلا عن افتقاد لأدوات القوة السياسية. ويؤكد ما سبق موقف هارون تجاه بني إسرائيل في عبادتهم للعجل من الاكتفاء بالتذكير إلى أن يعود موسى خشية تفرقهم قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ( 92 ) ألا تتبعن أفعصيت أمري ) 93 ( قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ( 94 ) طه - ، وكان يعتمد في تنفيذ بني إسرائيل لأوامره وشرائع التوراة على تجاوبهم ومدى قبولهم ، فإن أبوا تنفيذ أمره لجاء إلى الوعظ الديني المحض دون استخدام أي أداة من أدوات القهر {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ }21{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ }( ??(. - وإذا عقدنا مقارنة بسيطة بين ما كان يفعله موسى تجاه تمرد قومه في مقابل ما كان يفعله طالوت لوجدنا الفرق بين دور النبي ودور الملك، فموسى قابل عصيان بني إسرائيل في الامتناع عن دخول الأرض المقدسة بالقول {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ? فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} المائدة - ??- ، في حين قابل طالوت عصيان بني إسرائيل بالعقوبة والاستعباد من صفوف المقاتلين {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} فكانت العقوبة استبعادهم من الجيش {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} البقرة ??? - ، ويؤكد ذلك أن بني إسرائيل الذين عرفوا مقام الملك خلال حياتهم في مصر وعرفوا مقام النبوة خلال حياتهم مع موسى أدركوا تباين أحوال الملك عن أحوال النبوة، ولذلك لم يتوان سادتهم أن يطلبوا من نبيهم المبعوث بعد زمن موسى أن يبعث الله لهم ملكاً يسوسهم ويقودهم كما بعث لهم نبياً يبلغهم ويذكرهم {قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} البقرة - ???- . كيف يورث خاتم المرسلين ما لا يملك؟ كان مُلك داوود وسليمان لبني إسرائيل باصطفاءٍ إلهي، وكانت قيادة محمد (صلى الله عليه وسلم) على المدينة باختيار من أهلها عن بيعة عقدها له سادة الأوس والخزرج، وكانت قيادة محمد (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين أشبه بقيادة موسى لبني إسرائيل منها بقيادة طالوت، أي قائمة على تجاوب الناس لأوامره وهذا ما يفسر الوعيد الشديد الوارد في القرآن بعذاب الآخرة دون عقوبة دنيوية تجاه من يخالف أوامر الرسول (صلى الله عليه وسلم) المتعلقة بإدارة الشأن العام قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَ اذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور. ??-، وبقي سادة الأوس والخزرج في مواقعهم من قيادة قومهم، وهكذا كان الحال مع كل من آمن من سادة القبائل وأمراء المناطق أن يبقوا في مواقعهم ويكتفي الرسول (صلى الله عليه وسلم) بإرسال البعوث لتعليم الناس أمور دينهم، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) كان أشبه برئيس حلف تنخرط فيه جميع القبائل والمناطق الداخلة في الإسلام، ولم يكن ملكاً يقود مملكة كما كان الحال في بلاد الفرس والروم . - وهذ الحقيقة تضع المتشيعين لآل البيت في حرج ، فالرجل الذي يدعون الانتساب إليه جاءته الرسالة اصطفاءً أما القيادة فعقدها له المؤمنون ببيعة ، والبيعة تنقضي بانقضاء مدتها أو موت صاحبها ، ووظيفة الرسول (صلى الله عليه وسلم) الأساسية تبليغ الرسالة وليس تولي الرئاسة، والوارثون له عليهم أن يشغلوا أنفسهم ويبذلوا جهودهم في هداية الحائرين وتذكير الغافلين وليس في البحث عن الملك والمناصب الرفيعة ولو كانت غايتهم خدمة الإسلام، كما أن الساعين إلى إقامة الخلافة لتحكيم الشريعة ينحرفون عن مسار الرسل والأنبياء الذين كان أول مقاصدهم احتكام الناس إلى الشريعة أفراداً وجماعات عن رضا واختيار بعيداً عن سطوة السلطان فإن تحقق ذلك كانت الثمرة تحكيم الشريعة بتوافق من كل مكونات المجتمع فيما يحتاج إلى أدوات القوة السياسية التي تمنحها الجماعة للحاكم ويكون ذلك مقروناً بحاجتهم إليه ،، فهل يبقى بعد كل هذا البيان من سبيل لدعاة الخلافة أو الإمامة فيما يدعونه ويفرضونه على الناس بقوة الساعد والسلاح ،، {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} .