إلى الدكتور محمد عبد الملك المتوكل.. ليته كان حديثاً وجهاً لوجه.. لكنك لم تخبرني أنك سترحل. الكتابة الأليمة عنك لا تعطيك حقك.. فقد كنت مبهجاً ومشعاً.. واليوم تستحق أن نكتب عنك ونحن نبتسم.. فلا يزال الضوء المنبعث من قلبك يحيط بنا.. ولا يزال صوتك الهادئ الرطب يحفنا.. ولازلت كالضحكة تحملنا عالياً فلا نظن أننا سنبكي مرة أخرى. مرحباً بك أيها الأب وأنت تتسلل بصمت إلى حيث ننام نحن الموجوعون.. فتلملم أوجاعنا وتضمد جراحاتنا وتنسل خلسة.. نستيقظ فلا نظن أننا قد تألمنا.. أو أن ثمة جرحاً قد ألمّ بنا. مرحباً بك أيها الشاسع كالأفق.. يمتد فيك حزننا وغضبنا ..جهلنا وحيرتنا.. بكاؤنا وعنفواننا.. فتبتلع كل ذلك مخلفاً لنا صفحة بيضاء نكتب فيها من جديد.. نواري فيها خيباتنا ونتطهر.. نسجل عليها اعترافاتنا.. ونتسامح بها منا. مرحباً بك وأنت تمر من هنا.. من غيرك مر فكان هذا العبق الزاهي بمدنية متبرجة.. ورؤى إنسانية شامخة ولغة سامية متأنية.. هذا الصوت الخفيض كيف وصل إلى كل أذن فأسمع.. وكل ظالم فأوجع.. وكل تلميذ ومحب ففتح ثغرة في قلبه. سيدي الكبير. الكتابة الأليمة عنك لا تعطيك حقك.. لكننا لا نستطيع إلا أن نتألم.. لأننا صرنا حزينين ومعتمين كما لم يحدث من قبل.. ولأنك رحلت ونحن نلوك هزائمنا الواحدة بعد الأخرى.. ولأن أحلامنا المدنية تعصف بها الأحقاد والكراهية والجهل.. ولأننا مجروحون كما لا ينبغي.. أفلا يحق لنا أن ننحي لبعض الوقت ونبكي على أطراف ضريحنا الكبير.. فتلملمنا كما كنت تفعل.. وتواسينا كعادتك وتربّت على أكتافنا المنحنية؟. أيها الرجل الحي لا يزال الرجال الميتون يتربّصون بوطننا المنهك.. لم تقل لنا قبل أن ترحل كيف نخبئه منهم.. إنهم لا يحبونه ياسيدي.. إنهم لا يعرفونه كي يحبونه.. إنهم لا يعرفونه كي... أودعك كما استقبلتك أول مرة.. أرهف السمع لأول حديث لك.. كأنه خارج من بئر هادئة وعميقة.. لقد ألقوا بك في البئر.. صوت أنينك الدفين يبعثنا من موتنا.. لا ريب سنحيا ونخبئك منهم.. من ميتة أخرى.