(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة. فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية) كان دأبي منذ وصولي إذا ذهبت إلى مدينتى غيل باوزير تذكرت حميرها، تشدني إليها نظراتها الهادئة الصامتة، وصبرها الطويل على تحمل مشاق العمل ومتاعبه، وقد كانت ساحة السوق في المدينة ملتقى لتلك المخلوقات الطيبة، تلتقي فيها بعد غروب الشمس من كل يوم.. حاملة على ظهورها إنتاج أرضنا الطيبة من خضار وفواكه وسمك، وما إن تتخلص من أحمالها الثقيلة حتى تلتف حول بعضها،وكأنها تتسامر أو تشكو لبعضها ما تلاقيه طوال يومها من تعب وجهد وهوان، وكان المقهى المفضل الذي كنت أجلس فيه يقع أمام تلك الساحة، وكان يشاطرني جلساتي وأفكاري تلك صديقي مبخوت وهو شاب شبه أمي قطع دراسته لظروف مادية قاهرة أجبرته على العمل مبكراً ليسد أفواه أفراد أسرته، وذات ليلة وبينما نحن في جلستنا تلك أنظارنا مركزة على موقع الحمير أمامنا، إذا بصاحبي يصيح بي فجأة وهو يحملق في الساحة أمامه قائلاً: انظر....انظر... ألا ترى؟ عجبت من أمره فمنذ أن جلسنا لم نكن نرى شيئاً غريباً أمامنا غير ماهو مألوف لدينا كل ليلة، وأجبته دون اكتراث: ماذا حدث؟ ومالك تحملق في الحمير بهذه الصورة الغريبة؟ أجابني وقد اشرأب بعنقه: انظر إلى ذلك الحمار الأسود..ألا ترى اقترابه من زميله الآخر؟ وعرفت أن صاحبي يهيئ لكي أتلقى منه نادرة من نوادره الظريفة، فبدأت أهتم بالموضوع مثله، وأجبته وأنا أجاريه في هزله: أيهما تعني؟ قال: هذان الحماران المنفردان على اليمين، ألا ترى أن أحدهما يميل برأسه ناحية أذن زميله وكأنه يهمس له بشيء؟ قلت وقد صوبت نظري اليهما: نعم...ترى كيف سيكون حديثهما وعن ماذا؟ قال: لننظر. وركز صاحبي نظره عليهما ثم أرهف سمعه وكأنه يسمع حقيقة ما يدور من همس بينهما، وبعد لحظة صمت أمسك بيدي وقال: انظر...انظر، أظن أن هناك سؤالاً وجهه الحمار الأول إلى زميله مما جعل زميله يرد عليه بتلك الحركة من رأسه علامة النفي، ألا ترى كيف هز رأسه لزميله؟ ثم انظر إنه يعرض عنه، ثم يتحرك بعيداً وقد طأطأ الاثنان رأسيهما كأنهما أصيبا بخيبة أمل. وصمت محدثي وفترت حماسته، وطأطأ هو الآخر رأسه إلى الأرض، وكأنه يشاطر الحمارين شعورهما، وبعد فترة قلت لصاحبي: والآن ماذا تود أن تقوله لي بعد هذه المسرحية التي شاهدناها معاً؟ إنني أرى في ذهنك حديثاً تود أن تحكيه لي. وصمت محدثي برهة ريثما أرهفت سمعي لما يقول وشرع يحكي قائلاً: “يحكى أنه في عهد الملك سليمان اجتمعت جميع الحمير في مؤتمر كبير لتتباحث فيما بينها فيما وصل إليه حالها من التعب والجهد، وكيف أن الله سبحانه وتعالى قد خصها من دون سائر المخلوقات بالأعمال الشاقة، وبعد نقاش طويل فيما بينها استقر رأيها على أن تشكو إلى الملك سليمان حالها ليقوم بتبليغ شكواها إلى رب العباد، ومضت الأيام والشهور والسنون والحمير تتردد على الملك سليمان دون أن تتلقى أي رد على تلك الشكوى، ومات سليمان ومنذ ذلك التاريخ وكلما التقى حمار بزميل له اقترب منه وهمس في أذنه يستطلع منه خبر تلك الشكوى فلا يجد الآخر ما يقوله لزميله إلا أن يهز له رأسه علامة النفي”. وصمت صاحبي ونظر إلي وابتسامة ساخرة تطل من بين شفتيه، واقترب بوجهه مني وهمس في أذني قائلاً وهو ينهض لمغادرة المقهى: وأنت هل لديك حل لما نحن فيه أم أنك أنت أيضاً منتظر خبر السماء؟ وهنا انفجرت ضاحكاً وقد اكتملت النكتة في ذهني وقلت له: هل ترى أن حالنا قد وصل إلى ما وصل إليه حال الحمير؟ ومرت السنوات....وجرت أحداث، فقد قامت الثورة وجاء الاستقلال، وتركت مدينتي واستقررت بمدينة عدن واشتغل صاحبي مبخوت في إحدى مزارع الدولة بالقرية، عاملاً مجتهداً ومخلصاً للثورة، ولكن بما أن صاحبي غيور وصريح بطبعه وسلوكه فلم تعجبه بعض الممارسات من قبل بعض المسئولين في السلطة وجعل يصرح برأيه جهاراً أمام الجميع مما أدى إلى إيقافه عن العمل،وملاحقته والزج به في السجن عدة مرات ظلماً وعدواناً، عرفت كل ذلك من بعض أصدقائه خلال زيارة قصيرة قمت بها إلى المدينة في أوائل عام 1969م وسعيت إلى لقائه لأقف بنفسي على جلية أمره، ولم يطل بحثي عنه، فالقرية صغيرة ومكانه معروف، وفي المقهى أمام ساحة الحمير قصدته، وهناك لفت نظري اختفاء الحمير من الساحة، فقد حل محلها مبنى جديد صغير متواضع، وقد وقفت بجانب ذلك المبنى بعض السيارات الصغيرة المحملة بالسمك والخضار والفواكه، وقد أخذ العمال والفلاحون ينقلون تلك الأحمال من السيارات إلى مبنى السوق، سررت بذلك التغيير الذي طرأ على مدينتنا بعد قيام الثورة ولكنني كنت في شوق أكثر أن أرى آثار التغيير على ناس المدينة من عمال وفلاحين، وتذكرت وأنا أخطو إلى المقهى نادرة الحمير التي رواها لي صاحبي يوماً ما قبل الثورة والاستقلال، فشوقني ذلك أن أرى رأي صاحبي في كل المتغيرات التي طرأت بعد الاستقلال وبعد خطوات قليلة كنت أمام صاحبي في المقهى، وتفحصته جيداً فوجدته شاحب الوجه، هزيل الجسم، احتويته بين ذراعي وهو ينظر إليّ في دهشة وكأنه يراني لأول مرة، وكنت قد تغيرت بعض الشيء، تظاهر صاحبي بأنه لم يعرفني ثم حياني بفتور وقال وهو يقدمني لزملائه الذين كانوا ملتفين حوله: أقدم لكم الأستاذ الكبير... ونطق اسمي، وعرفت في نظراته السخرية، أخذته وانتحيت به مكاناً قصياً في المقهى، وحين جلسنا قلت له على الفور: ماهي قضيتك؟ وما هذه الأخبار التي سمعتها عنك؟ وبلا مقدمات وكأنه يقرأ أفكاري قال. ستقول لي إن بعض أحلامنا السابقة قد بدأت تتحقق بعد قيام الثورة أليس كذلك؟ قلت: نعم هذا مالمسته بنفسي وأنا في طريقي إلى المقهى، لقد رأيت بعيني مظاهر التقدم والعمران، ولكنني أريد أن أعرف منك ما قدمته الثورة لكم، أنتم العمال والفلاحين في هذه المدينة؟ قال: صحيح أن بعض مظاهر التقدم قد طرأت على القرية. وصمت ثم نظر إلى ساحة الحمير وأردف قائلاً: واختفت الحمير.. وصمت مرة أخرى، وأخذت أنظر إليه في صمت لعلي اكتشف ما يدور في ذهنه تلك اللحظة وفجأة اشرأب بعنقه إلى الساحة أمامه، وقال في حماسة شديدة وهو يشير بيده: “ انظر..انظر”. قلت وأنا أنظر إلى الجهة التي اشار إليها: ماذا في الأمر؟ قال: الحمير. قلت: أين هي؟ قال: أنظر لقد عادت إلى ساحة القرية من جديد! دققت النظر أمامي فلم أر أي أثر للحمير ولم يكن أمامنا في الساحة تلك اللحظة غير العمال وهم ينقلون الشوالات من السيارات إلى مبنى السوق، وبسرعة فهمت ما يرمي إليه صاحبي من اختلاف ذلك المشهد المسرحي أمامي وكأنه يريد أن يقول لي “ إن العمال والفلاحين لا يزالون كما كانوا في السابق لم يمسهم أي تطوير، وأن يد الثورة لم تمتد إليهم بعد” كانت هذه الأفكار تضج في ذهني عندما أخذ صاحبي يربت على كتفي وكأنه قد عرف ما يختلج في ذهني فقال: هل عرفت الآن؟ قلت: نعم...ولكن الثورة لا زالت في مراحلها الأولى والأيام القادمة كفيلة بإصلاح ذلك. قال في حدة: اسمع يا رفيقي، الثورة لم تقم لأجل الحصول على الكراسي أو للنفخات الكذابة، الثورة ينبغي لها أن تحقق المساواة بين أفراد الشعب الواحد، أما إذا لم يتحقق شيء من ذلك، فإن الأمر لا يعدو استبدال كراسي بكراسي أخرى!؟ قال ذلك وانسل هارباً مني، وذات يوم بعد عدة سنوات كنت في مطار عدن لتوديع أحد اصدقائي وبينما أنا أجول بنظري في صالة المطار وأتصفح وجوه من حولي إذ دخل في تلك اللحظة إلى الصالة عدد كبير من أصحاب الحقائب الدبلوماسية يتقدمهم رجل في حوالي الخامسة والأربعين من العمر، وما إن تفرست فيه جيداً حتى عرفته، إنه صديقي القديم مبخوت، اعترضت طريقه وكأنني غير متعمد، رفع إليّ عينين مستنكرتين وهم بأن يقول شيئاً ما، ولكنه ما إن عرفني حتى أخذني بالحضن في شوق ومحبة، وجلسنا معاً ثم سألته مداعباً: ما هذه الشياكة؟ والله كبرنا وأصبحنا سفراء! لا ليس الأمر كذلك ولكنني في الوفد النقابي المتوجه إلى هافانا لحضور المؤتمر النقابي العالمي. قلت: أعرف ذلك،ولكنني كنت أريد مداعبتك فقط. وارتفع صوت يدعو الوفد إلى صالة الترانزيت لقرب قيام طائرتهم، فنهض صاحبي وودعني وعيناي تنظران في أعماق عينيه الهادئتين، وابتعدت عيناه عن عيني وصغرتا...صغرتا حتى بدتا كعيني طائر صغير، ثم نبت لصاحبي جناحان وانطلق محلقاً في الفضاء.