كان الوقت ظهراً , من يوم الجمعة , حينما سمعت عن وفاة المناضل نيلسون مانديلا على قناة الأخبار. كنت قد قرأت, وسمعتُ عن هذا الرجل , ونضاله من أجل الحرية لبني جنسه , وكفاحه الطويل ضد العنصرية في بلده. قرأت أيضاً كيف أنه سُجن لمدة الخمسة والعشرين عاماً , وعند خروجه من السجن , رفض الانتقام , لأنه يناضل من أجل قيم سامية , وليس من أجل شخصه. عندما سمعت خبر وفاته , ترحمت عليه , وسألتُ الله أن يُجازيه خير الجزاء , على نضاله من أجل هذه القيم الإنسانية المُقدسة. لكن الذي أثارني, واستفزني كثيراً , هو قول أحدهم كان بجواري : “ إلى جهنم وبئس المصير” !. قلت له لماذا ؟ قال : لأنه كافر , والكافر مصيره النار . قلت له : ليس من اختصاصك أن تحكم بكفره , وبدخوله النار , فهذا الحق هو حصري لله عزوجل فقط . دار نقاش بيننا لم يصل إلى مرتبة الحدية , والاحتكاك , لأني كنتُ حريصاً على ذلك , لكون الطرف الآخر أكبر مني سناً ،أضف إلى ذلك أنه من من الاسرة. ما أُريد إيصالُهُ من هذا الحوار , هو أنه ليس من حقنا أن نحكم على الناس بالكفر , ونحكم عليهم تبعاَ لذلك بالنار , أياً كانت ديانتهم , إلا إذا كنا قد نَصبّنا انفسنا أربابا لهؤلاء الناس , أو أن الله قد سمح لنا بمشاطرته هذه الخصوصية. للأسف الشديد أن مصطلح الكفر صار من اكثر المصطلحات التي اُخرجت من سياقها , وجرى فهمها بشكل خاطئ , وخطير جداً. وتكمن خطورة هذا الفهم , في أننا نرى اُناس يُقتَلون بسبب إلقاء عليهم مثل هذه المصطلحات , وما اكثر من يلتقفها , ويسعى لتنفيذ أمر الله المزعوم في أمر هؤلاء الناس. السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هنا : ما هو الكفر ؟ وهذا ما سنحاول فهمه من خلال آيات القرآن التي تحدثت عن هذا المصطلح. الكفر..نوعان :كفر عقائدي , كفر سلوكي. الكفر العقائدي: هو عدم الانقياد , والتسليم لله , والإشراك به , سواء اتخاذ آلهة , أو أولياء معه . وهذا النوع من الكفر محله القلب. قال تعلى : ( أم تُريدون أن تسألوا رسولَكم كما سُئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) { البقرة: 108 } . وقال تعالى : ( ولا يأمُركُم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيَأمُركَم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) { آل عمران :80 } . وقال تعالى : ( يا أهل الكتاب لمَ تكفُرُونَ بِآيَاتِ الله وأنتم تشهَدُونَ ) {آل عمران : 70} . وقال أيضاً : (َّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِث ثَلاَثَةٍ وَمَامِنْ إلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ .... ) {المائدة :73}. والآيات في هذاكثيرة , {آل عمران 176,166} , {المائدة 41,61} , { التوبة 23,17} , {النحل 106} ,{الحجرات7}.وهذا الكفر العقائدي هو من اختصاص الله وحده بالحكم عليه , لأن مكانه القلب , والقلب لا يطلع عليه إلا الله عزوجل. قال تعالى : (ِإنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) {الحج:17}. كانت اليهود لا تؤمن بعيسى , وكانت النصارى لا تؤمن بموسى , وكُلاً يعتقد بأفضلية إيمانه على الآخر , قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُم يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ){البقرة:113}. وفي مثل هذا وقع البعض من أمة محمد , فصاروا ينسِبُونَ الكفر على كل من ليس منهم , مع أن الله عزوجل اقّر أن هناك من أهل الكتاب من هم مؤمنون به , ويعملون الصالحات, ووعدهم بحسن الجزاء يوم القيامة, قال تعلى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ ( أي اليهود )وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ) { البقرة :62} . أما الكفر السلوكي: هو الاعتداء على الآخرين , وسفك الدماء ظلماً وعدواناً. قال تعالى : (َ فلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) { آل عمران :52} .هنا أحس عيسى (عليه الصلاة والسلام ) بأن قومه من بني إسرائيل يريدون إيذاءه , فهو كان يعلم بعدم تصديقهم له , لكنهم إضافة إلى عدم تصديقهم , فقد حاولوا النيل منه بالاعتداء , لذلك عندما احس منهم عيس رغبتهم بالنيل منه , توجه إلى من هم على استعداد لمناصرته في دعوته , كما قال بذلك الأمام محمد عبده في تفسير المنار . وقال تعالى : ( وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْر إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُم يَنتَهُونَ ) {التوبة :12} . فالله هنا يأمر رسوله أن يُقاتل أئمة الكفر– لأنهم رأس الأمر ومن يوجهون الناس - في حال نكثوا إيمانهم ( عهودهم ) , فنكث العهد من قبل الناكث يعني إعداد العُدة للقتال , فالكفر هنا يتحدث عن النوع السلوكي , وليس العقائدي , لأن الكفر العقائدي لا يستلزم قتال صاحبه, ولم يأمر الله بذلك , وإنما أجل عقوبته إلى يوم القيامة. خلاصة القول : - أن الكفر نوعان : أحدهما عقائدي , والآخر سلوكي. - الكفر العقائدي : هو عدم التسليم والخضوع لله , والإشراك به , سواء اتخاذ آلهة , أو أولياء معه. وهذا النوع من الكفر محله القلب , والله هو الوحيد الذي يحكم به , ويكون ذلك يوم القيامة. وهذا النوع قد يقع فيه أي من الناس , بغض النظر عن ديانتهم , ولكن ليس لنا أن نحكم عليهم بذلك. - الكفر السلوكي : هو الاعتداء على الآخرين , سواء لسبب ديني , أو طائفي أو لأي سبب آخر , وسفك الدماء ظلماً وعدواناً. وهذا النوع من الكفر نستطيع أن نراه , ونحكم عليه , وهو الذي يجب مقاومته من قبل الحاكم , والناس. وهذا النوع أيضاً قد يقع فيه أياً من الناس, بغض النظر عن ديانتهم. ومثلما أن الكفر عقائدي , وسلوكي , كذلك الإسلام هو إسلام عقائدي , وإسلام سلوكي. وهذا ما سنتناوله في مقال آخر بإذن الله , ونسأل الله أن يُلهمنا الرشد والصواب.