تراودني فكرة جامحة الإلحاح أن أكتبُ عن أبي «شاعر الجياع» بحسب التسمية السائدة حينها وهو اللقب الذي عُرف به في أوساط الجماهير والعمال الفلاحين الفقراء في ريف اليمن أجمع وأطلقه عليه الرئيس الخالد سالم ربيع علي «سالمين» رئيس الجياع أيضاً ! مُذ درست الإعلام، ومن أهدافي أن أنتصف لوالدي الذي لقي جحوداً غير مسبوق من رفاق الأمس واليوم، حيث يطارده التجاهل والنسيان حتى أثناء حديثهم عن كثير من الشواهد الوطنية التي كان فارسها الأصيل وقائدها المقدام، غير أن ضعف خبرتي في كتابة المادة المقالية السردية منعني من ذلك أو تلك الشبيهة بكتابات السير الذاتية.. هذا لا يعني أنني الآن بتُّ كاتباً محترفاً، ولكن آن الأوان لأجتهد مع أني لست مقتنعاً بالكتابة عن أي أحد كان دون إشباع للمادة من كل جوانبها المادية والفنية والانتصاف للشخصية حتى وإن كان والدي..! وقد اجتهدت في تسليط اليسير من الضوء على واحد من أبرز رجالات الحركة الوطنية اليمنية، سواءً بالاكتتاب «من أشخاص» أو بما اجتهدت وكتبته في صحيفة الثورة الرسمية التي أعمل محرراً فيها.. وكنت أتمنى أن يكتب عنه من هو أفهم وأعرف مني بالمرحلة التي عاشها والدي وعايشه خلالها.. لكن دون جدوى.. إذن لن أظل مكتوف اليدين وسأجتهد ولي أجر اجتهادي دون لوم على تقصير أو انتقاص..! إثر تخرجي من قسم الصحافة بكلية إعلام جامعة صنعاء في العام 2010 قلت: آن الأوان لأكتب عن «والدي» وكم تمنيت إثرها أن يبادر أحد رفاقه بتبني التذكير بمآثره الوطنية الخالدة المشهودة بالتحامه الحميمي مع جماهير الوطن شماله والجنوب معبئاً ومحرضاً للنهج الثوري والحفاظ على مساره ومحذراً من كل قوى التخلف والالتفاف بموقف ثابت، الذين عاصروه وعرفوه عن قرب وعايشوا معه مخاضات النضال العسير منذ فجر سبتمبر، في صنعاء وحصارها.. وعدن واستقلالها، ممثلاً ببناء الدولة الوليدة حينها التي أسهم في تكوينها بفاعلية امتزجت برحيق الثورة وعرق الرجال الطيبين أمثاله، إضافةً لأشعاره الخالدة التي شكلت عامل حشد تعبوي للجماهير ومؤججة لمشاعرهم الثورية ظلت خالدة وحية حتى اليوم، فليتخيَّل المرء قطاعاً غير محدود من الشبان والمراهقين, في تلك الفترة, يُردِّد أشعار الشنواح بوهجٍ حماسي لا نظير له.. بحسب الكثير من زملائه.. وأنا لا أود هنا تعريف القارئ ب «شاعر الجياع»، صاحب «الأقنان والعواصف» و«لحن الحب والبنادق» و«أوراق من أبجدية الحب» و«سمر على منارة نبهان» و«الأموات يتكلمون» فحسب، لكن حسبي تعريفاً وإن مختصراً عنه ومآثره التي اتسمت بنكران عجيب للذات، إضافة لإرسال عتب ممزوج بمسحة حب إلى رفاق دربه وزملائه في دروب النضال وميادين الانعتاق والعمل الشعبي التحرري، الفلاحي والعمالي الخالد في الوعي والوجدان الجمعي لشعبنا اليمني شماله وجنوبه الذين نسوه.. مع هذا ظللت رافعاً شعار العذر لهم الذي تجاوز السبعين مرة بكثير.. وكنت أُمني النفس وأنا أتصفح «الثوري» في شبوة طالباً في الإعدادية والثانوية، أن أجد كلمة تذكير عابرة بمناضل وحدوي تقدمي أصيل، أو مقطع شعري لأبياته النابضة ثورة وتنبؤاً فريداً، نقرأ الكثير من ملامحهِ في المشهد الوطني العام ماضياً وحاضراً. وأمام هذا التجاهل ولا أُسميه تناسياً جمعت ما استطعت واخترت ما تيسر من شذرات مختزلة مختارة من حياته الممتلئة شعراً وفقراً وثورة .! تجدر الإشارة إلى أن حالة النكران التي لقيها من رفاقه وزملائه رافقها تهميش ونكران رسمي معروف وواضح في العقود الماضية على صعيد الحق المعنوي والحق المادي. وربما لا يعلم الكثيرون ممن يلومونني للتأخر في إعادة طباعتها أن أعمال الشنواح الشعرية الخمسة اندثرت في مرحلة معينة، وكلما حاولنا إعادة طباعتها نواجه جبالاً من العوائق المصطنعة وأطناناً من الأعذار المفتعلة من قبل كل الجهات المعنية.. سألت المفكر الأستاذ عبد الباري طاهر عن سرّ هذا التجاهل، فقال: إن جيلاً كاملاً من عظماء الحركة الوطنية في تأريخها المعاصر تم طمس سيرتهم على نحوٍ مخيف! بينما البعض تخونه ذاكرته على نحو مخيف أيضاً..! شرحت له أن صوتي بح وأنا أبحث عن جهة تطبع أعماله الشعرية الكاملة فشرح لي حتى بح صوته أكثر عن أطنان العوائق وأكوام العراقيل التي تمنعهم في «الهيئة العامة للكتاب» عن القيام بواجبهم التنويري الثقافي. في مطلع العام 2011 زرت الشاعر الكبير الأستاذ عبدالعزيز المقالح في مكتبهِ واستقبلني استقبالاً بهيجاً وأجلسني في الكنبة التي تقابله وسط استراحة مكتبه وقدّمني لعددٍ من الأدباء والشعراء المتواجدين بمكتبه حينها الذين ملأوا وجهي قُبلاً حارّة وسألني جميعهم: هل أنت شاعر؟! .. باعتبار أن الذي ينتصب أمامهم الآن أصغر أنجال رفيق دربهم الشاعر حد وصفهم! .. شعرت بخيبة لأنني لست شاعراً كوالدي على الأقل ليفيدني الشعر في مثل هكذا مواقف..! طلبتُ منه في ختام جلوسي معه أن يكتب عن زميله «والدي» الذي لطالما امتدح شعره في غير لقاء صحفي، وصنّفه في إحدى دراساته ضمن روّاد الشعر الحديث في اليمن، غير أني تفاجأتُ بأكوام من التهرب والاعتذار نثرها أمامي على هيئة حُججٍ وأعذار لم أستطع فهمها حتى اليوم من قبيل: يا ابني أنا لم أعد أكتب هذه الأيام..! سألت صحفياً كبيراً أعشق كتاباته والجلوس معه كان قد أومأ لي قبلها بأن زيارتي للمقالح لن تحرك ساكناً على صعيد طباعة أعمال والدي الشعرية، ولا من قبيل ذلك، قلت له في مساء ذات اليوم: كلامك جاء في محله.. كيف تفسر ردّة فعله قبالة طلبي بالكتابة عن والدي؟ فاكتفى بالردّ: الشنواح ما يعجبهم؛ لأنه كان شاعراً سياسياً صادقاً وجاداً في مواقفه. صممت أن أتولى أنا كل شيء.. طبع أعماله الشعرية التي سترى النور قريباً.. تصعيد اسمه من قاع الذاكرة الجمعية إلى واجهت المشهد الذي كان يتصدره.. عقد ندوات تذكيرية بمآثره النضالية والأدبية الخالدة في الوعي والوجدان.. إحداها ستعقد قريباً. وقريباً سأتناول سلسلة مقالات سردية تحت العنوان أعلاه : «هذا والدي»! ستنشر بالتوالي وهي مقالات ترتبط بحياته - رحمه الله - بمختلف مراحلها منذ الطفولة وحتى مماته.. تتضمن تفاصيل تنشر لأول مرة وبعض المقالات التي كتبت عنه.. وهي مشروع كتاب سيطبع في المستقبل بحول الله.. [email protected]