النص تصبح على خير لم يكن جلوسه أمام النت يثير لديها أي تساؤل، هو وليد حداثة لابد منها، وهي تعلم أنه لا يمكننا السباحة عكس التيار، بالإضافة إلى أنها ترى النت بعين راضية، ولطالما تساءلت بإعجاب: أي عالم هذا، أية تقنية هذه التي تجعل كل معلومة في متناول يدنا بكل بساطة ويسر..؟!. لكن ساعات جلوسه طالت أكثر من المعتاد، طباعه تبدّلت إلى حد كبير في فترة قصيرة نسبياً، هنالك شيء مبهم، تشعر به، لكن لا يمكن القبض عليه. تنظر إليه بعين خفية، تحاول سبر ملامح وجهه، شيء ما تغيّر، حدسها يباغتها بذلك، تتوالى على ملامحه تعابير مختلفة، إشراقة ما، تنير وجهه، بعد قليل غيمة ما، تمر في سماء عينيه. تطرح سؤالاً ما، لا يعنيها جوابه، لكن، تحاول أن تستشف مدى تماهيه مع أفكاره. يجفل قليلاً، يجيبها باختصار عن سؤالها، ويعود إلى النت. في عملها، وبعد إنجاز ما عليها، يخطر لها أمر ما، وتتساءل: لم أكتفِ منه بما يخص عملي فقط، لما لا أدخل مواقع التواصل، التي طالما سمعت عنها الكثير. تتحمّس للفكرة وتنفّذها مباشرة. للحظات قليلة، تشعر أنها تدخل عالماً ليس لها، عالماً، طالما اعتبرته للمراهقين، وليس لمثلها، ولا يعنيها، عالمها جميل، ممتلئ، زوجها، ولديها الحبيبين، عملها الذي تحبّه. تمضي أيام وبعدها أيام، الغرق يستمر، والشاشة الزرقاء تستولي قليلاً قليلاً على الوقت الذي كان يقضيه معها ومع الأولاد. شروده زاد، عاداته اختلفت، أحياناً يغضب لأتفه الأمور وأحياناً يفرح وتغمره السعادة، دون سبب منظور لها. عندما أمسك بخريطة تناولها من مكتبتهم، وأخذ يُمعن فيها النظر بكل تركيز واهتمام، خفق قلبها بشدة لسبب تجهله. وتواردت لديها الوساوس بشكل قهري، ماذا يريد، عم يبحث، هل يبحث عن بلدها، عن مدينتها، هل يحسب المسافة التي تفصلهما عن بعضهما، وهل تشقيه بحار يجب تجاوزها. لكن الأخطر من ذلك كلّه، هل يفكّر فعلاً بنقل خطوة جريئة من الشاشة الزرقاء إلى بحر أزرق. عند هذا الحد من تفكيرها، أخذ عقلها بالدوران على محوره دون هدى، فماذا ستفعل، أو بالأصح ما الذي يمكنها أن تفعله، يخطر لها دونكيشوت وهو يحارب طواحين الهواء، لطالما تعاطفت معه، أما اليوم فهي تحسده، على الأقل هو يحارب شيئاً محسوساً ولو كان طواحين هواء، أما هي؛ فمن ستحارب..؟!. من هو عدوّها تحديداً..؟! لا تعلم. ما هي أسلحتها..؟! لا تعلم، ما الحل؟ أيضاً لا تعلم. في مواقع التواصل التي دخلتها، عالم جديد ينفتح أمامها عالم لم تكن تعي وجوده بهذا الشكل وهذا الانتشار، وأيضاً بهذه الخطورة، بهذه القدرة الهائلة على البناء، والقدرة الهائلة على التدمير.. تتساءل: كيف لعالم افتراضي، أن يهدم عالماً حقيقياً..؟!. تحار في أمرها، هل تصارحه، هل ترمي في وجهه كل شكوكها ومخاوفها..؟!. في المساء، وقبل أن تأوي إلى سريرها، أطلت فوق كتفيه بكل هدوء، فوجئ بها، وبسرعة فائقة أخفى الصفحة..!!. برفق أمسكت بيده، وبكل هدوء قالت: لا أملك كلمات كثيرة أقولها لك، فأنا أعلم تماماً أنك تعرف ما الموضوع، سدّدت سبابتها إلى الشاشة، متابعة بنفس الهدوء: هذه الشاشة الزرقاء، إما أن تبقيها سماءً صافية تظلّل حياتنا، وإما أن تحوّلها إلى بحر أمواجه عاتية تغرق مركبنا القرار لك، تصبح على خير. القراءة بداية من العنوان «تصبح على خير» نتساءل: هل هذا دعاء أم وداع، أم تحية، أم عادة نطلقها على أعنتها..؟!. لا ندري، المهم استطاعت “الكاتبة” التي أقرأ لها للمرة الأولى أن تجعلنا نتوقف عند العنوان الذي حرّك شيئاً ما داخلنا، وصنع انزياحات متعدّدة تواجهنا رغم بساطته. وحدة النّص جاءت وحدة القصة متوافقة مع الفكرة، ولم تبعد عن المغزى من القصة، ومهما ابتعدت بشخوصها نكتشف أننا لم تبعد البتة عن الهدف والوحدة التي أرادت أن تلقي وتسلّط عليها الضوء كما تراءت لها. التكثيف وكما قال الأديب الكبير يوسف السباعي حول تعريفه للقصة القصيرة: «القصة القصيرة كطلقة الرصاصة تصيب الهدف من أقرب مسافة.. إصابة مباشرة.. بأسرع ما يمكن». هكذا فعلت “الكاتبة” عندما تناولت قصتها القصيرة، فهي لا تتعدّى الصفحتين؛ مع أن موضوع القصة على حداثة فكرته ومعاصرتها لتاريخ اليوم يتسع للسرد والسرد، وتعدد الشخوص، إلا أن “الكاتبة” التزمت بقواعد كتابة هذا الجنس من الأدب، وإن جاء بعض التكرار لأجزاء من الأحداث كان لحرصها على توصيل خلجات النفس البشرية، ولا يمكن أن نعتبره إسهاباً، مثال: «تتوالى على ملامحه تعابير مختلفة، إشراقة ما، تنير وجهه، بعد قليل غيمة ما، تمر في سماء عينيه». ومثال: «شروده زاد، عاداته اختلفت، أحياناً يغضب لأتفه الأمور، وأحياناً يفرح وتغمره السعادة، دون سبب منظور لها». الدراما من الثابت أن سرد “الدراما” هي التي تميّز كاتباً عن كاتب، وكذا كاللغة المستخدمة، والصراع، والشخوص، والزمن، والمكان، وبداية القص، وتنامي السرد وصولاً إلى (العقدة) التي تمثّل سنام العمل القصصي ونقطة الذروة. ولابد على “الكاتب/ة” العمل على حلّها، والوصول إلى «اللحظة التنويرية» والتي من أجلها كتب قصته، وبنظرة مجملة نجد “الكاتبة” التزمت بكل هذه المعايير، وأجادت في معالجتها لهذا العالم الافتراضي «الاكتشاف» الجديد ووضحت لنا عن عقيدة ثابتة داخل كلٍّ منا أن لكل شيء وجهسن «الخير والشر» وهي تمثّل النقطة التنويرية في القصة، بخلاف ذكاء الطرف الآخر عند دخول «اكتشاف» حيز التنفيذ يؤثّر على العلاقة الأسرية، وهنا انتصرت “الكاتبة” لبطلتها في مواضع ثلاثة خلال تنامي السرد. «وهي تعلم أنه لا يمكننا السباحة عكس التيار، بالإضافة إلى أنها ترى النت بعين راضية». «لم لا أدخل مواقع التواصل التي طالما سمعت عنها الكثير..؟! تتحمس للفكرة وتنفّذها مباشرة». «سدّدت سبّابتها إلى الشاشة، متابعة بنفس الهدوء: هذه الشاشة الزرقاء، إما أن تبقيها سماءً صافية تظلّل حياتنا، وإما أن تحوّلها إلى بحر أمواجه عاتية». ولم يبق ليّ غير الثناء على ثناء البيروتي لقصّتها المتكاملة الأركان، والنهاية الممتازة التي تنطوى على الرزانة والوقار، والتوغُّل إلى العمق للشخوص والفكرة ولملمة كل ما عنّ لها، وطرحته برشاقة غزالة تدرك تمكنها في بيئتها، ولا أنسى أن أشيد بأسلوبها الدائري في البناء القصصي.