ليس اليومُ عيدك أمّي؛ بل كل يوم، فمكانتك راسخة في جميع الأديان السماوية والمُثل والنظريات الإنسانية، وإن كانت الحياة قد صوّرتك على أنك حافظة النوع ومحل التجدُّد والاستمرار؛ فإن أبناءك وجدوكِ واحة للحب والوجدان ومرسى آمناً يحميهم من غدر البحر وأمواجه، أنت الأمان، أنت القدوة والمثل، أنت الطُهر، أنت العطاء، لك في عيدك هذا الانطباعات التي وجدتها تتحرّك داخل من التقيتهم كالعواصف الهائجة؛ لأنها شعورٌ صادقٌ نابعٌ من قلوب تعشقك وتتمنّى رضاكِ.. الأمُّ مدرسةٌ «ألف وميم» هي المدرسة التي إذا أعددتها؛ أعددت شعباً طيب الأعراق، هي قوام الأسرة وعمدتها، تعطي للحياة أروع ما فيها، تتفاعل مع أدق تفاصيل حياتنا ونبضات قلوبنا، تعطي ولا تنتظر مقابلاً، تثقل الذهن بالتفكير دائماً في البعيد والقريب، تصل الليل بالنهار بالدعاء والأمل من حنايا الروح والقلب. اليوم «عيدها» عيد الحنان الذي نريده أن يبقى دائماً وأبداً وإن كبرنا، حنانها لا يوازيه حنان؛ لأنها الأصل والأساس والجذر والمنبع والمنبت والمنشأ. تقول الأستاذة فاطمة مقبل: أشكر الله تعالى أن أمي مازالت في جانبي تمدّني بالدعاء؛ مهما كتبت لها من كلمات وقلت من عبارات وبكل اللغات واللهجات التي على وجه الأرض أعجز عن أن أوفّيها حقّها. وأضافت: ببساطة أعجز عن رد ولو جزء بسيط من الحب الذي منحتني إيّاه من العطاء الذي أغدقته عليّ، إنني أعتبر كل الأيام لها عيداً، عيداً بطاعتي لها، برعايتي لها، بإسعادها، بجعلها تفتخر بي وبعدم إغضابها وعصيانها. عطاء بلا حدود أما رشيد عبدالقادر، الشاعر الهاوي فقد انهالت من على لسانه «كوكتيل» من التعابير الجميلة عن الأم، فهي على حد وصفه ملهمته الأولى، يقول رشيد: إنها أجمل ما رزقني الله على طول أيامي، إنها التي تعطي وتعطي ولا تنتظر ردّاً وعطاءً لأنها أكبر من كل عطاء، إنني أعتبرها كنزاً مقدّساً منحني الله إيّاه دون كل البشر، إنها الوطن الذي احتواني وأفاض عليّ بكرمه ونعيمه. وختم رشيد حديثه بهذه الفائدة: إن أكثر الكتب مبيعاً هو كتاب بعنوان «أمّي» وإن أحلى الشعر والأغاني وأكثرها حفظاً هو ما قيل في الأم، وإن كل ما ذكر يتضاءل أمام هذا البيت للشاعر محمود درويش من قصيدته إلى أمّي حيث قال: «وأعشق عمري لأني إذا متُّ أخجل من دمع أمّي». أكبر تكريم من منطلق ما ذكرنا به صاحبنا «رشيد» أقتبس هنا مقتطفات لأجمل كلمات قيلت في الأم ذكرتها الدكتورة بنت الشاطي في مقالة لها، أكدت فيها أن شعيرة السعي بين الصفا والمروة أكبر تكريم للأم في تاريخ الإنسانية، تقول «بنت الشاطي»: «يا من تسعون بين الصفا والمروة؛ هل أحسستم بأنفاس الأم الوالهة، هل استحضرتم تلك اللحظات الرهيبة والصرخات المرعبة من طفل رضيع جائع تمزّق آهاته نياط قلب الأم الوحيدة في الصحراء المقفرة..؟!، يا من تسعون على المرمر؛ هل تذكرون سعيها على حبّات الرمال والصخور الخشنة، يا من تلبسون الجوارب السميكة؛ هل تتذكّرون قطرات الدم السائلة على قدميها المشقّقتين العاريتين، يا من تعدّون الأشواط السبعة؛ هل تعلمون أنها لم تكن تعلم أن لها عدداً ولا حصراً وكانت تسعى ولا تدري أين البداية من النهاية، يا من تسعون ولا تستحضرون قلوبكم؛ هل استشعرتم قلب تلكم الأم، مشاعر هذه الأم، دموع هذه الأم، صبر هذه الأم، يقين هذه الأم، إيمان هذه الأم، نبضات قلب هذه الأم..؟!. لعل هذه الأم أعظم المشاعر الإنسانية على وجه الأرض منذ خُلق آدم، هل من أجل ذلك خلّد سعيها كشعيرة تعبُّدية لقيام الساعة، هل يوجد تكريم لمشاعر الأمومة في أي دين مثل هذا التكريم، هل يخلو يوم من أيام العام لا يسعى فيه إنسان بين الصفاء والمروة..؟!. خللٌ اجتماعي من جهتها أشواق العريقي تساءلت: هل لايزال دور الأم موجوداً بنفس القوّة والتأثير الذي كان عليه قديماً عندما كانت الأم مدرسة بحق يتخرّج على يديها أبناء صالحون وبنات صالحات، أم أن هذا الدور تراجع وتآكل مثلما تراجعت وتآكلت قيم ومثل عليا كثيرة متوارثة في مجتمعاتنا العربية نتيجة متغيرات جمّة أصابتنا بخلل اجتماعي وأخلاقي..؟!. وأضافت أشواق: إن هذا الأمر أدّى إلى تفشّي ظاهرة عقوق الوالدين وإهمالهما في بيوت المسنّين، فضلاً عن حوادث التعدّي على الآباء والأمّهات التي نقرأ ونسمع عنها كثيراً في وسائل الإعلام، وذكّرت أشواق بحديث الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم عندما أتى إليه رجل سائلاً: «يا رسول الله؛ إن أمّي بلغت الكبر وأنا أرعاها ولكنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أوفيت حقّها..؟ قال رسول صلّى اللّه عليه وسلم: لا، فقال الرجل: لماذا يا رسول اللّه..؟!، قال: لأنك تفعل هذا وتتعجّل رحيلها، وكانت تفعل لك ذلك وتتمنّى لك أن تعيش». دَينٌ لا يُمكن قضاؤه "إن الاحتفال بعيد الأم يكرّس مفهوماً رائعاً يجب العمل على تعزيزه لدى النشء؛ خاصة في ظل ظروف عالم يتجه نحو المادية وتختفي فيه القيم الإنسانية على نحو محزن، نصادف معه قصص عقوق الوالدين وعلى وجه التحديد الأم بما يخزى له الضمير الإنساني" بهذه المقدّمة ابتدأ سلطان حسن حديثه مضيفاً: إن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر؛ وهو الخسران المبين والضلال الكبير الذي يذهب بصاحبه إلى الهاوية. وتساءل سلطان: ليت كل عاق يدرك أنه يمكن أن يفصل ما بينه وهذا العالم، لكن ما بينه وبين الأم يجب أن يبقى موصولاً وقائماً على الدوام؛ لأنه لا شيء يعدل علاقتنا بآبائنا وأمّهاتنا، وإذا كان كل جميلاً أو معروفاً يمكن أن يُعاد إلى صاحبه أو يوفّي حقه؛ فإن جميل الأم ومعروفها هو دينٌ لا يمكن قضاؤه بأي حال من الأحوال وبأية صورة من الصور. البداية من مصر بدأت فكرة الاحتفال بعيد الأم العربي في مصر على يد الأخوين «مصطفى وعلي أمين» مؤسّسي دار «أخبار اليوم» الصحفية، فقد وردت إلى علي أمين ذاته رسالة من أم تشكو له جفاء أولادها وسوء معاملتهم لها، وتصادف أن زارت إحدى الأمّهات مصطفى أمين في مكتبه وحكت له قصّتها التي تتلخّص في أنها ترمّلت وأولادها صغارٌ فلم تتزوّج، وأوقفت حياتها على أولادها تقوم بدور الأب والأم حتى تخرّجوا من الجامعة وتزوّجوا واستقلّ كلٌ منهم بحياته، وافقوا على تخصيص يوم واحد لزيارتها، وشارك القرّاء في اختيار يوم 21 مارس ليكون عيداً للأم. هناك رواية أخرى قيل إنها ذُكرت على لسان الكاتب علي أمين في حديث تلفزيوني قبل وفاته وهي أن أخاه مصطفى أمين، عميد الصحافة العربية كان موجوداً في شاطئ البحر في مدينة الاسكندرية ورأى بعينيه أمّاً تغرق وهي تنقذ ابنتها الصغيرة التي نزلت إلى البحر سهواً، كانت الواقعة في حقبة الخمسينيات من القرن المنصرم، وعندما عاد مصطفى من مصيفه إلى دار «أخبار اليوم» ذكر القصّة في عموده اليومي وعرض على القرّاء فكرة تكريم هذه السيدة التي ضحّت بحياتها في سبيل إنقاذ ابنتها، واقترح نفس التاريخ الحادي والعشرين من مارس يوماً لتكريم المرأة وفاءً لما فعلته هذه الأم وما تفعله كل أم. أقرب الآراء قضيّة الاحتفال بعيد الأم صار محل خلاف بين علماء الدين الإسلامي، ومع استمرارية الخلاف تتناثر الآراء من هنا وهناك، فهناك من يرى أن الاحتفال بهذا اليوم لا حرج فيه، والبعض يقول إنه بدعة، فالإسلام لا يعرف إلاّ عيدين، وما بين التوسُّع والتضييق يحتار المسلم في أي درب يسير، ومن باب التيسير نأخذ أقرب هذه الآراء إلى عقول المتلقّين وهو الرأي الذي يرى أن هذه الأعياد من باب العادات، والأمر في العادات مبني على السّعة، فالأصل فيها الجواز والإباحة، ومادامت هذه الأعياد وفق إسلامنا وضوابطنا ولها أصل في شريعتنا فلا حُرمة فيها ولا كراهية. فعيد الأم مثلاً هدفه برُّ الأم في هذا اليوم وإكرامها؛ ونحن مأمورون ببر الأم في كل يوم من أيام عمرنا، فالجنّة تحت أقدامها، وقد حثّ القرآن على بر الوالدين والإحسان إليهما، ولا مانع أن نذكّر الناس في هذا العيد ونحثّهم على بر الوالدين لننبّه العاصين ونعين المتذكّر أن يواصل في هذا البر والإحسان. لون تكريمي يقول الشيخ عبدالحميد عبدالله المهدي: لا يجوز بحال أن نحصر تكريم الأم في هذا اليوم فحسب؛ فالإسلام أمرنا بأن نجلّ الأم طوال العام، وجعل ذلك قُربة من أعظم القُربات؛ وهي ذكرى طيّبة لإبداء مشاعر نبيلة لشخصية حنونة. ونبّه الشيخ إلى أن الحرج الشرعي في الاحتفال بهذا اليوم ينحصر في إطلاق لفظ العيد بالمعنى الشرعي على هذا اليوم، فالإسلام شرع لنا عيدين، والاحتفال بالأم في هذا اليوم ليس احتفالاً دينياً بل هو لون من ألوان التكريم. وأضاف الشيخ المهدي: نحن نعتقد أن تقليد غير المسلمين والتشبُّه بهم لا يجوز فيما يكون من خصوصياتهم ولا أصل له في شرعنا، أما تكريم الأم فله أصلٌ شرعي معروف؛ وبالتالي فإن هذا الأمر لا يعتبر من التشبُّه الذي نُهينا عنه. لا تحزن وفي خاتمة هذا الاستطلاع؛ أسرد نصيحة علياء فاروق «مدرّسة» لمن ماتت أمّه وفاته برّها في الحياة حيث قالت: «لا تبكِ ولا تحزن في عيد الأم، إن أغلى هدية تقدّمها لها في هذا اليوم هو أن تقرأ ما تيسّر من القرآن الكريم على روحها، وتدعو لها بالمغفرة والرحمة؛ وتنفق الصدقة على روحها للفقراء واليتامى والمساكين طامعاً في رحمة الله بها وبك، وأن يتغمّدها الله برحمته مع عباده الصالحين. وأضافت علياء: إن هذا أفضل من البكاء والحزن، فالأم تنتفع بهذه الأعمال؛ فتشعر بالسعادة والرضا، فالميت ينتفع بعد موته من عمل غيره. وختمت علياء حديثها بالقول: الأم غالية وشامخة في كل يوم، ولابد من تكريمها والبرُّ بها في كل لحظة؛ سواء كانت على قيد الحياة أم في رحاب الله، ومن برّ أمّه وتحمل في سبيل تكريمها واحترامها وعُرف أنه مهما قدّم فلن يوفّي حقها، وأنها طالما تحمّلت من أجله لكي يحيا ويسعد ويهنأ؛ فقد أطاع الله ورسوله، وأصبح من الفائزين بحب الله ورضاه وبمكان في الجنّة.