لا شيء يبدأ في السينما أو ينتهي في الموعد الذي يعرفه الجميع، بإمكان هذا الفن أن يطيل عمر أي شيء، أو حتى إفنائه بطريقته، إنها لعبة الخيال التي لا تقف عند حدّ، ولا تعترف بأي تاريخ أو حقيقة أو منطق، فالحرب الباردة مثلاً انتهت في 1990م بسقوط جدار برلين، كان التمهيد لنهايتها قد بدأ قبل ذلك بسنوات حين أطلق ميخائيل جورباتشوف فلسفته “البيروسترويكا” التي كانت سبباً في بداية تفكك الاتحاد السوفيتي؛ لكنها في السينما لم تنتهِ، فمازالت هوليوود تخوض هذه الحرب ضد الروس وبعض دول شرق أوروبا، وتعمل على إثارتها بمختلف الطرق، ليس فقط بحثاً عن أرباح تجارية لشركات الإنتاج؛ وإنما تأكيد على عظمة وقوّة ومنعة أميركا وتهافت الأشرار على إيذائها.. ولايزال الروس يظهرون في هوليوود كأشرار وقتلة وتجّار مخدرات، فالروس هم التهديد السياسي والاقتصادي والعسكري لكل ما هو غربي؛ إذ يكفي أن تكون قوياً لتكون مزعجاً لهذا الغرب، وهذه القوّة ليست بالضرورة عسكرية، فقد تكون اقتصادية وسياسية وجغرافية وتاريخية أيضاً، وهذه ليست أهدافاً سينمائية تجارية فقط؛ بل هي أهداف سياسية واقتصادية أيضاً؛ لأن على الآخرين أن يشعروا أنهم أعداء حقيقيون للقوة العظمى الأولى في العالم كي تجد هذه القوة مبرّرات وأسباباًٍ لمزيد من سياساتها الهادفة إلى تأمين نفسها، وتوزيع رجال مخابراتها وجنودها في أنحاء العالم؛ بل من أجل خلق المزيد من الحروب وبيع المزيد من الأسلحة، لمَ لا وهذا هو سر الاقتصاد الرأسمالي..؟!. يبدو الأمر وكأن هوليوود تسير على خطى الإمبريالية، ربما أن هذا أحد تجليات هذه الإمبريالية، أي صناعة الأعداء من أجل مزيد من الأرباح، ومن أجل مزيد من التوسُّع، برغم أن الأمر يدفع في اتجاه تحقيق خسائر مادية وتجارية، فحتماً وكما سبقت الإشارة؛ لا يتقبل البشر الإساءة إليهم في السينما، وبالتأكيد سيقاطعون الأفلام التي تسيء إليهم. قد يدفع الفضول الناس إلى مشاهدة فيلم يسيء إليهم، لكنهم لن يكرّروا هذه العملية كثيراً إلا إذا كان لدى فلاسفة هذه النوعية من الأفلام فكرة ما حول أن البشر سيندفعون إلى مشاهدة الصور التي يتم تركيبها عنهم من أجل الرد عليها، أو معرفة ما يكنّه الآخرون عنهم، وهو ما يخلق في المقابل سوقاً تجارية رابحة، وفي نفس الوقت يحقّق هدفاً سياسياً آخر، أي صناعة المزيد من الأعداء، وبالتالي المزيد من المعارك حول العالم. لكن فلسفة هوليوود الموجّهة ضد روسيا ليست هي نفسها الموجّهة ضد الصين، فالصين سوق أوسع وأكثر ربحية من روسيا، وفي الصين يمكن للأفلام التجارية والجادة أن تحقّق أرباحاً تفوق ما يُمكن أن تحقّقه في روسيا، كما أن هذه الدولة التي تحتوي أكثر من سُدس سكان العالم بإمكانها أن تتخذ قراراً سريعاً ومباشراً ودون أي تحفظات بمنع هوليوود من دخولها لمجرد إساءة واحدة يتضمّنها أي فيلم، وهكذا صنعت الصين احترامها لدى هوليوود، وقد حاولت أفلام عديدة تصوير الصينيين خارج الإطار المعروف؛ إلا أن ذلك جاء في سياق شديد الموضوعية والدّقة، أو أنه لم يكن فاقعاً إلى درجة تلفت الانتباه. لكن هذا لا يعني أن هذا الاحترام قد يستمر إلى الأبد، ذلك أن متغيّرات الاقتصاد والسياسة والتاريخ قد تدفع فلاسفة السينما الأميركية إلى تشويه صورة الصينيين مثل غيرهم من القوميات، الأمر ينتظر فقط حدوث تغيّرات جذرية في العلاقات الدولية، إلا أن هوليوود انحرفت في مسارها الخاص بالصين قليلاً، وبدلاً عن هذه الدولة العظمى التي تُمثّل تحدّياً خطيراً وعميقاً للولايات المتحدة؛ وجد صنّاع الأفلام عدوّاً آخر، يبدو أنه أشدُّ خطراً من الصين، حيث ظهرت في السنوات الأخيرة عدد من الأفلام التي تجعل من كوريا خطراً مباشراً على الولاياتالمتحدة يستهدف أمنها القومي بأكثر من طريقة..!!. خرج فيلم “Olympus Has Fallen” أي “سقوط البيت الأبيض” متزامناً مع إعلان كوريا الشمالية استعدادها للحرب ضد أمريكا، بدا الأمر كأنه صدفة، إلا أن الفيلم يروي قصّة هجوم إرهابي مسلّح تنفّذه المخابرات الكورية على البيت الأبيض دمّرت فيه مؤسسة الرئاسة الأميركية، وقتلت مئات الأميركيين، وهدّدت بتفجير الرؤوس النووية الأمريكية لمحو هذه الأمّة من الوجود في حالة عدم الاستجابة لمطالبها. هل كان منتجو الفيلم يعلمون بنوايا كوريا الشمالية الإعلان عن حربها ضد الولاياتالمتحدة في ذلك التوقيت ليطلقوا فيلمهم هذا..؟!. نجح الفيلم في تصوير الكوريين كأشرار، وحصل على رأي عام أميركي واسع موجّه ضد كوريا، بل قيل إن حساب الفيلم على تويتر حظي بمئات التعبيرات لأميركيين عن كرههم لكل ما هو كوري بل ولآسيا برمّتها، وزاد في الأمر سوءاً أن الفيلم لم يكن موجّهاً ضد الكوريين وحدهم، فقد شهد الفيلم مظاهرات في الشرق الأوسط احتفالاً بنكبة البيت الأبيض. والمثير للتساؤل عند مشاهدة الفيلم كيف يرضى فنان بمكانة مورجان فريمان لنفسه بأداء دور في فيلم سيئ فنياً وبهذا القدر من الابتذال..؟!. إلا أن المُلاحظ في هذا الفيلم وأشباهه من تلك الأفلام الخاصة بصناعة الأعداء والذعر؛ هو أن الولاياتالمتحدة تظهر فيها هشّة وضعيفة في إعداداتها وقوّتها، ففي “سقوط البيت الأبيض” تستغرق عملية إسقاط مؤسّسة الرئاسة الأميركية واختطاف رئيسها أقل من ثلث الساعة، هل يغفل القائمون على هذه الأفلام عن أن مثل هذه الأمور تسيء إلى سمعة القوّة والمنعة الأميركية، أم أن الأمر متعمد ليظهر الأميركيون أنهم أصحاب نوايا طيبة وأناس على سجيّتهم..؟!. لكن هؤلاء البشر الطيبين يظهرون في النهاية كأبطال خارقين، لا يُشق لهم غبار، فعندما تنهار كل الإعدادت الأمنية والتحصينات التقنية والخطط الاستراتيجية؛ يظهر البطل الأميركي الخارق الذي يعتمد على قوّته وذكائه الفطريين فحسب، كأن قوة كونية ما اصطفت الأميركيين ومنحتهم كل هذه الميزات دوناً عن العالمين.