يبقى هاجس الحرب واختلاق الأعداء مفتوحاً لدى سينما الأفلام التجارية في هوليوود وغيرها من مؤسسات السينما العالمية بما في ذلك السينما الروسية التي تعمل على تقليد هوليوود أحياناً، لكن إعادة استنساخ الماضي، أو إنتاج الماضي في الحاضر لم يعد ممكناً بنفس الحيوية، ولا قادراً على اجتراح المآثر نفسها، وحيث أن أفلام الحرب الباردة كانت قديماً تخلق أجواءها من وجود حرب حقيقية تدور في الخفاء والعلن بين أجهزة الأمن والمخابرات لدى المعسكرين الكبيرين في العالم حينها؛ فإن استمرار تلك الموجة لم يعد يجد له ما يبرره آنياً بعد عقدين ونيف من انتهاء تلك الحرب. واقع الحال يؤكد أن أفلام الحرب الباردة كانت في الغالب أفلاماً تجارية بحتة، ولم تكن تحترم عقل المشاهد، بل على العكس من ذلك تسعى لغرس مجموعة من الحقائق الناقصة، أو المعلومات المشوهة في أذهان المشاهدين عن العدو وعن الصديق بدون حيادية أو موضوعية، ومن بين ذلك الكم الهائل من تلك الأفلام لا يمكن تذكر مجموعة الأفلام القليلة التي تستحق الاحترام لكونها احترمت عقل المشاهد وقدمت تصورات موضوعية عن طبيعة الحرب الباردة. وبرغم أن العالم دخل منذ زمن عصر الحرب على الإرهاب، إلا أن أفلام الحرب البادرة ما زالت حاضرة وتعلن عن نفسها بقوة، ليست قوة الموضوعية بالطبع، لكنها قوة الحضور عبر تقنيات صناعة السينما والتشويق والإثارة، وبدلاً عن الاتحاد السوفيتي وجدت تلك الأفلام في وريثه الشرعي والوحيد “روسيا” العدو الأنسب وربما الأوحد كموضوع غني بالتفاصيل والأفكار، بيد أن الدافع عادة وغالباً رغبة القومية الروسية في الانتقام لهزيمتها أمام الولاياتالمتحدة في الحرب البادرة، وما عانته روسيا بسبب الاختراق الأميركي لها في تسعينيات القرن الماضي. تقف خلف سينما الحرب الباردة شركات إنتاج شبه رسمية، أو إنها قريبة من الجهات الرسمية ومن الحكومة الأميركية، وهذا يبرر من ناحية وجود هذه السينما، ويشير من ناحية أخرى إلى خوف تلك الجهات من صعود نجم روسيا اقتصاديا وسياسياً وعسكرياً باتجاه تهديد السيادة الأميركية على العالم، بل وبلهجة المبالغات تهديد الأمن القومي الأميركي، وكل ذلك يكشف عنه نفسه من خلال السينما. يبدو فيلم “سالت” “salt” ناجحاً تجارياً بدرجة كبيرة، فهو يعتمد –كغالبية أفلام الجاسوسية والحرب الباردة- على الأكشن والحركة الخيالية، وإذا كان نجاح الفيلم في الولاياتالمتحدة يعود إلى تزامنه مع اكتشاف خلية تجسس روسية نائمة، فإنه لا مبرر لنجاحه خارجها أكثر من أنه فيلم صنع ليحظى بالتشويق والإثارة وإبهار المشاهد العادي بالبهارات المعتادة من حركة خيالية وبطولات خارقة، وثمة إيحاء ضمني في اسم الفيلم باتفاقية تحريم الأسلحة الفتاكة “سالت”، لكنه إيحاءٌ لا قيمة له في فيلم يفتقد الكثير من الرصانة والموضوعية، ولا تخضع أحداثه لمبررات حقيقية إلا إذا كان الاستنجاد بماضي الصراعات الكبرى، ومحاولة إعادة إنتاجها مبرراً كافياً. كُتب “سالت” ليكون بطله رجلاً، ووقع الاختيار على توم كرو أولاً لأداء البطولة، بيد أن فكرة طرأت على بال المخرج “فيليب نويوسي” فأعيد كتابة السيناريو من جديد لتكون بطلته امرأة من أجل المزيد من التشويق والإثارة، وتم اختيار أنجلينا جولي لأداء دورها. تنشأ العميلة النائمة إيفلين سالت داخل أجهزة المخابرات الأميركية وتعمل لصالحها حتى يظهر رجل المخابرات الروسي العقائدي فاسيلي أورلوف -الذي قام بدوره البولندي دانييل أولبروجزكي- داخل مقر المخابرات الأميركية بعد القبض عليه، ويتم عرضه على العميلة سالت التي تنجح في جره إلى الاعتراف بأنه واحد من رجالات المخابرات السوفيتية السابقة وحاليا روسيا، وان لديه معلومات غاية في الخطورة، ومنها أن هناك خطة لاغتيال الرئيس الروسي خلال زيارته لأمريكا من قبل العملاء الروس أساسا، ويكشف عن مفاجأة كبرى للجميع حين يصرح بأن أهم عملاؤهم هي إيفلين نفسها، وهنا تبدأ المطاردة، حيث يتمكن الاثنان من الهروب من داخل مقر المخابرات، وتنجح سالت في الهروب بعد مطاردات مثيرة، وتتجه إلى تنفيذ المخطط الذي يقتضي اغتيال الرئيس الروسي داخل الولاياتالمتحدة، وتهيئة الأجواء لحرب نووية بين روسيا والولايا المتحدة، إلا أنها خلال هذا كله تكون مخلصة لأميركا أكثر، فتنجح في خداع الجميع، ويحدث أن اغتيالها للرئيس الروسي كان مجرد خدعة أخرى، قبل أن تصل إلى أحد أهم مقرات المخابرات الروسية حيث تقوم بتصفية أورلوف ورجاله، ومن ثم تتنكر وتعود إلى داخل البيت الأبيض لتفشل مخطط زميلها المفترض، العميل الذي كان نائماً بدوره تيد ونتر (ليف شريبر)، وتمنعه من إطلاق الصواريخ المحملة بالرؤوس النووية إلى روسيا ومناطق أخرى في العالم، قبل أن تتمكن من قتله، ومن ثم الهروب من قبضة رجال المخابرات بعد أن تكشف لزميلها السابق بيابودي (جيوتيل أجيفور) عن حقيقتها وعزمها على القضاء على ما تبقى من خلايا نائمة. يوحي الفيلم –كغيره من الأفلام الدائرة في نفس الفلك- بأن الولاياتالمتحدة لا تعيش لحظات صفائها، برغم أنها في قمة مجدها وازدهارها، وبأنها تبحث دائماً عن أعداء افتراضيين لتخوض معهم صراعها من أجل المزيد من القوة، وتعمل هذه الاستعارات السينمائية على زراعة مبدأ أبدي ونهائي، فأميركا هي القوة الأولى والأكبر، تعاني دائماً من تربص أعدائها الأشرار بها، وسعيهم لنقض قوتها ضمن السعي لبث المزيد من الشرور في العالم، وليس ذلك بغريب، لكن الفيلم ينطلق في فضاءات مفتوحة، ولا يستند للتاريخ أو الجغرافيا السياسية إلا في زوايا بعيدة ومعتمة، وكأنه يعطي تعليمات إلى الجميع بأن من الصعب هزيمة أميركا، أو حتى التفكير فيه، وليس بالضرورة أن يتم البحث في تاريخ صراعاتها لاكتشاف ذلك. وأكثر من ذلك أن هذه النوعية من الأفلام لا تعطي خلفيات تاريخية أو مبررات منطقية لوجود كل هذا الحقد على أميركا، والسعي إلى تدميرها عبر الإرهاب المنظم على مستوى الدول، فالأهم هنا هو أن هذه المحاولات ستبوء بالفشل، ولا داعي لمحاولة استكشافها وسبر أغوارها، وهو نفس منطق السياسة الأميركية في التعامل مع كثير من القضايا، وعلى رأسها الإرهاب، أما على المستوى الإنساني، فلم يتغير النمط القديم، ما يزال البطل الأميركي يرمز للشهامة والفدائية والإنسانية، بمقابل العدو الذي يشبه كتلة شر متحركة. ويبدو أن الجميع لم يوفقوا في هذا العمل، فهو لم يضف شيئاً إلى رصيد المخرج نويوسي، ولا أبطاله وممثليه، بدءاً بأنجلينا جولي، وانتهاءً بليف شريبر وإن كان قد أضاف الكثير من المال إلى أرصدتهم البنكية بالتأكيد كما فعل لرصيد الشركة المنتجة، والأهم من ذلك أنه أضاف اختلالات معرفية كثيرة لدى الكثير من المشاهدين، وبالمقابل مزيداً من عدم الاحترام لهذه الدعاية الفائضة والساذجة لدى كثير من المتابعين أيضاً. اعتذار سقط اسم الكاتبة السينمائية الرائعة هدى جعفر من مادتها المعنونة ب(جياكار ينحي شيئاً ما عن الجمال) ولذا وجب التنويه والاعتذار. [email protected]