تنفيذية انتقالي المنصورة تناقش الأوضاع الخدمية بالمديرية    صنعاء.. الداخلية تعلن الاحتفال بالمناسبات الوطنية رسميًا وتمنع أي نشاط خارج الإطار الرسمي    الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الشيخ أحمد محمد الهتار    أصدقاء جنوب اليمن: زيارة الرئيس الزُبيدي إلى نيويورك تعزز حضور القضية الجنوبية دولياً    350 كشافا يشاركون الخميس ايقاد شعلة ثورة 26 سبتمبر بصنعاء    العليمي يلتقي الشرع والأخير يؤكد على أهمية التنسيق لمواجهة التحديات المشتركة    رئيس هيئة الإعلام والثقافة يبحث مع مركز اللغة المهرية آفاق التعاون المشترك    علامات تحذير مبكرة.. 10 أعراض يومية لأمراض القلب    مقتل وإصابة 8 أشخاص بانفجار 4 قنابل يدوية في شعوب    اجتماع للجنة تسيير المشاريع الممولة خارجياً في وزارة الكهرباء    بن الوزير يتابع تأهيل مبنى الإدارة المحلية في شبوة    المساوى يدّشن مشروع التمكين الاقتصادي لأسر الشهداء    القسام تدعو لركعتين (ليلة الجمعة) بنية الفرج لمرابطي غزة    وقفة شعبية في مديرية الثورة احتفاءً بعيد ثورة 21 سبتمبر وإسناداً لغزة    تعز.. المعتصمون يصعدون في وجه السلطة المحلية بعد محاولة تفكيك خيام الاعتصام    انفجار قرب سفينة تجارية في خليج عدن    الأرصاد يتوقع أمطارًا متفاوتة الشدة على عدة محافظات    هكذا يتغير الشرق الأوسط.. الصراع السعودي الإسرائيلي    إتلاف 5.5 طن من المواد الغذائية منتهية الصلاحية في البيضاء    القائم بأعمال وزير الاقتصاد يلتقي المواطنين وممثلي القطاع الخاص خلال اليوم المفتوح    مركز الملك سلمان يوزّع خيام وحقائب إيواء للمتضررين من السيول بمحافظة حجة    البقوليات وسيلة فعّالة لتحسين صحة الرجال والتحكم في أوزانهم    الديوان الملكي السعودي : وفاة المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ    نائب وزير المياه يبحث ترتيبات إحياء يوم اللغة المهرية    أمن العاصمة عدن يضبط متهمًا بسرقة 100 جرام ذهب بالمنصورة    ديمبيلي ثالث مسلم يتوج بالكرة الذهبية وحضور لافت للاعبين مسلمين بالقائمة    في مهرجان خطابي وفني.. إصلاح الحديدة يؤكد أن تحرير المحافظة مفتاح لانتصار الجمهورية    الذهب عند ذروته: ارتفاع قياسي في الأسعار    احترام القانون اساس الأمن والاستقرار ..الاجراءات تجاه ماموري الضبط القضائي انموذجا    الرئيس الزُبيدي يلتقي رئيس اللجنة الدولية للإنقاذ ويشيد بجهودها الإغاثية والتنموية في بلادنا    بالتتويج الثالث.. بونماتي تكتب التاريخ    بعد 14 عاما.. مارسيليا يُسقِط باريس في ال«فيلودروم»    قوات الإصلاح في تعز تحمي قتلة "افتهان المشهري"    الإمارات تدعو مجددًا مجلس الأمن لتحمل مسؤولياته لردع إسرائيل    تعرف على هوية الفائز بجائزة الكرة الذهبية 2025    يامال وفيكي يتوجان بجائزة «كوبا».. ودوناروما الحارس الأفضل    الدوري الايطالي: نابولي يواصل انطلاقته المثالية بانتصار مثير على بيزا    إلى أرواح أبنائي الشهيدين    في تقرير لها حول استهداف مقر صحيفتي " 26 سبتمبر " و" اليمن ".. لجنة حماية الصحفيين الدولية: "إسرائيل" تحولت إلى قاتل إقليمي للصحفيين    حين تُغتال الكلمة.. وداعاً عبدالعزيز الشيخ    غموض يكتنف اختفاء شاعر في صنعاء    عبقرية "سورج" مع برشلونة جعلته اقوي جهاز فني في أوروبا..!    حين يُتّهم الجائع بأنه عميل: خبز حافي وتهم بالعمالة..!    منارة عدن المنسية.. إعادة ترميم الفندق واجب وطني    صحة بنجلادش : وفاة 12 شخصًا وإصابة 740 آخرين بحمى الضنك    التحويلات المالية للمغتربين ودورها في الاقتصاد    القاتل الصامت يودي بحياة خمسة أطفال من أسرة واحدة في محافظة إب    نائب وزير الإعلام والثقافة والسياحة ومدير صيرة يتفقدان أعمال تأهيل سينما أروى بصيرة    لقاء تشاوري بين النيابة العامة وهيئة الأراضي لمناقشة قضايا أملاك الدولة بالوادي والصحراء    صحة البيئة بالمنصورة تشن حملة واسعة لسحب وإتلاف "شمة الحوت" من الأسواق    عدن.. البنك المركزي يكشف عن استخدامات المنحة السعودية ومستقبل أسعار الصرف خلال الفترة القادمة    الراحلون دون وداع۔۔۔    السعودية تسرق لحن زامل يمني شهير "ما نبالي" في عيدها الوطني    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    في محراب النفس المترعة..    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما ينحرف العلماء عن مسار الحنيفية السمحة
الحاجة إلى تحرير الفرق بين الكهنوتي البدعي والمفتي الشرعي
نشر في الجمهورية يوم 16 - 06 - 2010

لم يكن الطغيان السياسي هو الطغيان الوحيد الذي يعاني منه المسلمون، منذ انفراط عقد خلافتهم الراشدة وحتى اليوم. فهل كانت مشكلتنا في عصور الاستبداد، تتمثل في صراع سلطة العالم والحاكم،أم في تحالف هاتين السلطتين، على حساب قيم العدالة والحرية والشورى؟ وهل نحن بحاجة إلى ميثاق أخلاقي يمنع طغيان أهل العلم على مخالفيهم ومجتمعاتهم؟
إن طغيان العلماء على بعضهم وعلى مخالفيهم ظاهرة قديمة،بدأت منذ أوائل القرن الثاني الهجري مع محاولة الكثير من علماء المذاهب ممارسة الاستبداد الكهنوتي لفرض آرائهم بالقوة على العامة وتحويل الخلاف في قضايا الفروع إلى مهاترات إعلامية يحرضون فيها العوام والسلاطين على مخالفيهم وقد أشار الإمام الحنبلي ابن مفلح في كتابه الفروع إلى بعض مظاهر الظلم والاستبداد التي مارسها علماء المسلمين عندما يتحالفون السلطة، ونقل ابن مفلح عن الإمام ابن الجوزي قوله: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:رَأَيْت النَّاسَ لَا يَعْصِمُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ إلَّا الْعَجْزُ. وَلَا أَقُولُ الْعَوَامُّ، بَلْ الْعُلَمَاءُ، كَانَتْ أَيْدِي الْحَنَابِلَةِ مَبْسُوطَةً فِي أَيَّامِ ابْنِ يُوسُفَ، فَكَانُوا يَتَسَلَّطُونَ بِالْبَغْيِ عَلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ، حَتَّى لَا يُمَكِّنُوهُمْ مِنْ الْجَهْرِ بالْقُنُوتِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، فَلَمَّا جَاءَتْ أَيَّامُ النَّظَّامِ وَمَاتَ ابْنُ يُوسُفَ وَزَالَتْ شَوْكَةُ الْحَنَابِلَةِ اسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ اسْتِطَالَةَ السَّلَاطِينِ الظَّلَمَةِ، فَاسْتَعْدَوْا بِالسِّجْنِ، وَآذَوْا الْعَوَامَّ بِالسِّعَايَاتِ، وَالْفُقَهَاءَ بِالنَّبْزِ بِالتَّجْسِيمِ، قَالَ: فَتَدَبَّرْت أَمْرَ الْفَرِيقَيْنِ، فَإِذَا بِهِمْ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِمْ آدَابُ الْعِلْمِ، وَهَلْ هَذِهِ [الْأَفْعَالُ] إلَّا أَفْعَال الْأَجْنَادِ يَصُولُونَ فِي دَوْلَتِهِمْ، وَيَلْزَمُونَ الْمَسَاجِدَ فِي بَطَالَتِهِمْ “ انْتَهَى كلام ابْنُ الجوزي. ووصلت هذه الكهنوتية في القرن الرابع الهجري إلى ذروتها، وكان بعض العلماء عندما تستجيب لهم السلطة يمارسون وصايتهم على مخالفيهم، حتى نجح أعداء الإمام ابن حزم في تحريض (المعتضد بن عباد) على إحراق كتب ابن حزم،وفعلها المعتضد وكان من الظالمين فقال ابن حزم في ذلك:
فإن تحرقوا القِرْطاس لا تَحْرِقُوا الذي
تضمَّنه القرطاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
َيسِيُر مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلتْ رَكَائبي
وَيَنْزِلُ إِنْ أنزل وُيدْفن في قبري
وثار عليه عبيد التقليد، وكأن إحراق كتبه لم يشف غليل الكهنوتية المتعطشة إلى إلغاء الآخر وحاولوا تحريض العوام عليه بعد نجاحهم في تأليب السلطان، وهذا دأب الكهنوتيين في كل زمان ومكان{أتواصوا به بل هم قومٌ طاغون} و بعد إحراق كتبه حاولوا إحراق مكانته في قلوب الناس والتحذير منه والإيحاء للعوام بأنه يخالف الإجماع ويفتن الناس،قال ابن حيان يصف كهنوتية العلماء في مواجهة ابن حزم”: فتألبوا على بغضه، ورد قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا أعوامهم عن الدنو إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه على قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به، منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة، وبها توفي غير راجع إلى ما أرادوا” رحم ابن حزم رحمة واسعة، فهذه صرخاته في وجوه الكهنوتيين الذين يشهرون على مخالفيهم سيوف دعاوى الإجماع وقطعية أفهامهم القاصرة لمراد الله -تعالى الله عن فهم سقيمِ- لا تزال هذه الصرخات مدوية مجلجلة تفضح زيف هذه الدعاوى ومقاصد من يرددها في كافة العصور يقول رحمه الله في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” واعلموا أن إقدام هؤلاء القوم، وجسرهم على معنى الإجماع،حيث وجد الاختلاف، أو حيث لم يبلغنا ولكنه ممكن أن يوجد أو مضمون أن يوجد - فإنه قول خالفوا فيه الإجماع حقاً، وما روي قط عن صاحب ولا عن تابع القطع بدعوى الإجماع حتى أتى هؤلاء الذين جعلوا الكلام في دين الله تعالى مغالبة ومجاذبة، وتحققاً بالرياسة على مقلدهم وكفى بهذا فضيحة. و في أجواء هذا الصراع المرير مع الكهنوتيين ينتقل ابن حزم إلى رحمة الله سنة 456ه ويقف (أبو يوسف يعقوب المنصور) ثالث خلفاء دولة الموحدين أمام قبره خاشعًا ولم يتمالك نفسه، فيقول: كل الناس عيال على ابن حزم.
وعندما يتكرر هذا المسلسل من الكهنوتية ونرى علماء بعض الجامعات الفقهية يتوجهون إلى قصر الرئاسة منتصرين لقضايا خلافية،بتحريض من بعض الخطباء المتحمسين الذين لا علاقة لهم بالعلم الشرعي، ويهددون بالمسيرات المليونية، ويتهمون ملحقاً دينياً مخصصاً للفكر الإسلامي في صحيفة الجمهورية، بنشر الفاحشة، ويصبح من بيانات العلماء هو النكاية بالمخالفين، ولو يتحويل الخلافية المرجوحة، إلى ثوابت دينية وأصول لا يجوز التشكيك فيها.عندما تتكرر هذه الكهنوتية، علينا أن ندرك أن الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم، والقرآن الكريم يؤكد صوابية هذه الحكمة الشعرية في قوله تعالى{ كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}. ولا شك أن هناك استثناء يشذ عن الأصل يمثله قلة من العلماء يمتلكون القدرة على كبح جماح الطغيان، عندما يمتلكون القدرة على ممارسته ومن هؤلاء القلة الإمام العظيم مالك بن أنس الذي رفض مطاوعة الخليفة في تحويل كتابه “ الموطأ” إلى قانون عام يحكم المجتمع، مع أن الإمام مالك إبن أنس لم يدون في (الموطأ) أراءه الشخصية، وإنما أحاديث نبوية رواها عن السلف والصحابة، و رفض إلزام الأمة بمنهجيته في النقل، وتنزيل النص على الوقائع، ومثله فعل الإمام أبو حنيفة حين رفض القضاء، ومما ذاع عن الإمام الشافعي مقولته المشهورة« رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» ومع إنقضاء عهد هؤلاء الأئمة الراسخين، وتسيد عبيد التقليد الأعمى على الساحة العلمية ظهرت الكهنوتية ومحاولة فرض الاجتهادات المذهبية على الأمة بالقوة، وتسربت منهجية الحرورين من الخوارج ومنظورها المشوه لتحكيم الشريعة إلى علماء المذاهب.
وحينها سمعنا أبا إسماعيل الأنصاري الهروي يقول مقولته المشهورة : “ عرضت على السيف خمس مرات ، لا يقال ارجع عن مذهبك ، وإنما يقال لي : اسكت عن مخالفيك .
ومشكلة هذه الكهنوتية لا تقف عند ممارسة الطغيان والتسلط على المخالفين، فالمشكلة الأخطر، أنها تهدر في سبيل ممارسة هذا التسلط كل منهجية علمية، في استنباط الفتوى، ولديها الاستعداد لتحويل قضايا الفروع إلى ثوابت شرعية، في سبيل النكاية بالمخالفين، فهي تهدر معظم القيم الإسلامية التي تحث على القوامة بالقسط والشهادة لله ولو على أنفسنا، وتتحول فتاوى هذه الكهنوتية إلى تضييق للوسع وجلب للحرج، وفي سبيل فرض تسلطها على العوام تتوسع في التحريم، وتتصادم مع مبادىء الحنيفية السمحة.. وثمّة الكثير من الأحاديث والآيات القرآنية التي تؤكد أن مشكلة المشركين كانت في اختلاق الكثير من الآصار والاغلال والتوسع في التحريم، وليس التوسع في الترخص لأن التوسع في التحريم ينمح كبراء القوم ممارسة التسلط و الوصاية على الآخرين والتدخل في خصوصيتهم، وفرض سيطرة الملأ على الرعية، ولهذا بعث الخالق عز وجل رسول الحرية ليضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانوا عليها ويهدم الكثير من قواعد الحظر والتحريم التي ابتدعتها الذهنية المشركة قال تعالى{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }وجعل الإسلام إباحية البراءة الأصلية هي القاعدة والتحريم هو الاستثناء المحدود في أضيق الدوائر ، وحذرتنا النصوص من اتباع أهواء عشاق التسلط ومبتكري التحريمات الإضافية التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تعتمد على غير وساوس الشياطين لبعض المتسلطين فما أحوجنا إلى الاعتصام بقوله تعالى في الحديث القدسي “اني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به من سلطان “.
وقد أكد القرآن اقتران الذهنية الشركية بذهنية التحريم في كثير من آيات الذكر الحكيم، قال تعالى { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وبعد هذه الايات قال تعالى { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }سورة الانعام 150
فالآيات السابقة قرنت الشرك بالتحريم {مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } وطالبت الآيات المحرمين بإخراج الدليل الصحيح الصريح على التحريم وأكدت أنهم لا يتبعون إلا الظن والتخرص وطالبتهم بإحضار الشهود على التحريم وأمرت الآيات المصطفى صلى الله عليه وسلم في حال شهادتهم على التحريم بغير علم بعدم اتباع اهوائهم ، و في الآيات إشارة إلى أن ذهنية أهل الأهواء تميل إلى التحريم والمنع والحظر وذهنية الذين يتبعون الشهوات تميل إلى الترخص، والفقه الحقيقي هو الرخصة من ثقة كما يرى سفيان الثوري لأن جميع أهل الأهواء يجيدون التشدد، وإظهار الحرص والغيرة على الدين، والفقه الحقيقي يقوم على تمييز الفروقات بين خير الخيرين وشر الشرين وتميز الرخصة الشرعية عن الترخص المذموم الذي يهتدي بالدليل الشرعي. ونشير في هذا السياق إلى خطورة التسرع بتحريم مالم يثبت تحريم بدليل صحيح صريح، لأن هذا التحريم من تزيين الشيطان الذي يندرج في كبائر التقول على الله قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ*إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة 169.168 قال ابن جرير الطبري “ يريد ما حرموه من البحيرة والسائبة ونحوهما ممّا جعلوه شرعاً وقال الشوكاني في الفتح “ وفي هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نص أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض فأصله الحل حتى يرد دليل يقتضي تحريمه “ والآية هنا قرنت التحريم بالسوء والفحشاء واعتبرته من خطوات الشيطان وتزيينه.
وفي سياق شرحه لمفهوم الحنيفية السمحة يقول ابن تيمية “ لما كان أصل المنهي عنه الذي فعلوه- المشركون - الشرك والتحريم ، روي في الحديث بعثت بالحنيفية السمحة والحنيفية ضد الشرك والسمحة ضد الحجر والتضييق ، وفي صحيح مسلم عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه “ اني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به من سلطان “وقال رحمه الله وظهر أثر هذين الذنبين في المنحرفة من العلماء والعباد والملوك والعامة بتحريم ما أحله الله تعالى والتدين بنوع شرك لم يشرعه الله تعالى والأول يكثر في المتفقهة المتورعة.
وعندما ينحرف العلماء عن الحنيفية السمحة، ينحرف مسار الفتوى عن مقاصد الشريعة وفقه الواقع وقد أشار الإمام ابن القيم الجوزية في كتابه الشهير«اعلام الموقعين» إلى بعض مظاهر هذا الإنحراف،في استهلاله لفصل”تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد”يقول ابن القيم: “هذا فصل عظيم النفع جدًا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقّة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد: وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة: عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي أبصر به المبصرون، وهداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها...”.
في العدد القادم
كهانة هذا حكم الله.. الكذب الذي يصل بقائله إلى الكفر
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.