لقد قدم سو في الفصل الخامس من كتابه “المجتمع المدني في مواجهة السلطة” رؤية أخرى للديمقراطية، وهي الرؤية التي تبلورت لديه من تجربته الطويلة الكتابية أو الواقعية “إذا كنا نتوافق حول هذا الصعود وبقوة للنظام الاجتماعي للجمعية، في داخل المجتمع، وفي عمق الحركة الاجتماعية، وفي داخل تعبيرات الحركات الاجتماعية وحتى داخل الاقتصاد، كيف إذاً نفهم الرؤيا الاجتماعية والمؤسساتية الضعيفة لها؟ وكيف نفهم أنها نسبياً غائبة عن التفكير والجدال والنقاش السياسي؟ كيف نفهم، في كلمة واحدة، أنها لا تمتد بشكل منطقي في منظور النظام السياسي، لتصبح ديمقراطية ترابطية عبر الجمعيات؟ والحالة هذه، تجري بعكس ما نريد:المجتمع يظهر متفسخا، ينتقل إلى حالة من عدم المدنية، العنف، الخوف من الآخر ومن اللامن، وكأنه يستدعي نظام سلطة حتى لا نقول نظام سلطوي. كيف يمكن شرح هذا التناقض؟ لقد أشرت سابقا أنه يوجد خطأ في التقييم والتقدير أكثر مما هو تناقض. إنه بالتحديد أكبر انتشار لقيم الفردية، والجمعيات والديمقراطية الذي يجعل من غير المحتمل اليوم، واقعاً اجتماعياً وسياسياً لا يطابقه. إنه خلل بين اتساع وامتداد نموذج قريب جدا من الماضي وهو “الإنسان الديمقراطي” ومجتمع لا يعطي هذا الإنسان الوسائل للتعبير عن نفسه، وهذا اليوم هو الأصل في الكثير من القلق و الوهن داخل الديمقراطية و داخل الشكل الذي اخترناه من “ العيش المشترك”. ازدياد الامتناع عن المشاركة في الانتخابات، ينبئ بشكل كبير برفض تبني أو ضمان نظام بعيداً عن الموضوعية والواقع المعاش وعن المشاعر والأحاسيس الديمقراطية. هذا الصعود للموضوعية أخذ بسرعة وتغلب على نظام سياسي متحجر، مزاح و مبعد، ليس لديه القدرة أن يعيد الأمل إلى الأفراد. “رد الفعل” السياسي ضمن هذا السياق، ليس فقط تطور الأفراد وتطور مفهومهم للارتباط الاجتماعي الذي لم يجد ترجمة سياسية، ولكن، حاليا، نحن بعيدون عن الدخول في الطريق. أحيانا من خلال عدم التفهم، غالبا من خلال الرفض الاختياري، الطبقة السياسية ليست جاهزة للاعتراف بهذه الحركة الاجتماعية والسيسيولوجية، أو للسماح لها بالتعبير وخاصة فيما يتعلق بإعادة تنظيم السلطة بعد ذلك. إنه بشكل أساسي هذه العلاقة بالسلطة التي تعيق أي تطور يمكن تسجيله داخل النسيج الاجتماعي. إن الطبقة المحترفة للسياسة وكل ما يتعلق بها غير جاهزين لتقاسم هذا الاحتكار الذي يمارسونه على السلطة الشرعية وعلى تعريف الفعل والعمل السياسي. وأكثر خطورة من ذلك، في مواجهة الأشكال المتعددة لإنكار الطبقة السياسية، هذه الطبقة في ردة فعلها، أطلقت مشروعا من التنديد والفضح، لا بل، في بعض الحالات، تجريم المجتمع المدني. خطأ في الرد والإجابة على الآمال الديمقراطية أو حتى بالاعتراف البسيط بحقوق متعلقة بالعمل، وفي المشاركة الاجتماعية، التي تترجم أحياناً في مظاهرات ربما تكون عنيفة كما يفعل العاطلون عن العمل أو الشباب في الضواحي، من هم في ممارسة السياسة يفضلون في الحل التركيز على العنف على الحدث وليس على السبب. ضمن نفس المعنى ليس العنف القائم أو الذي يعمل في اتجاه الديمقراطية أو حقوق الأفراد هو الأساس، ولكنه، المجتمع نفسه الذي يمضي إلى العنف والفوضى، وضد الديمقراطية، وقد أصبح من الطارىء حماية المجتمع من نفسه. الحملة الانتخابية للرئاسة الفرنسية عام 2002 سمحت بتنظيم إستراتيجية لما يتعلق بوضع المجتمع. العنف والأمن المتسارعين كانت المواضيع المستحوذة على هذه الحملة، ولكن بمجاملة تم طرحها عبر وسائل الإعلام الكبرى والتي وجدت بدورها الطريقة لوضعها في عملية إخراج سريالية لمجتمع في طريقه إلى التفكك بشكل سريع. وبنفس الطريقة هناك مواضيع أخرى لم تتم مناقشتها بشكل جدي كالمتعلقة بالتحليل العميق لتطور الاتصال الاجتماعي، وصعود التضامن، الآمال الديمقراطية الجديدة أو تنظيم السلطات في مجتمع هو في حالة بحث عن نماذج جديدة للتعبير، وعن مفهوم جديد للسياسة. الانتخابات الفرنسية الماضية، السياسة عملت ضمن نفس الإستراتيجية، ممحورة مقاييسها الأولى حول الأمن الكامل وعلى القمع. شباب، فقراء، أناس من غير سكن ثابت، كانوا دورة بعد دورة مهمشين ومعرضين ومشاراً إليهم أمام العامة، وكأنهم عناصر بائسة في مجتمع مهدد بالانحراف. الشوارع والأماكن العامة اعتبرت كأماكن للضياع، وقد شكلت مواقع حول المؤسسات المدرسية والتي تشبه أكثر فأكثر السجون أكثر مما تشبه أماكن لنشر العلم أو اقتسام المعارف، والتدرب على الديمقراطية و الانفتاح على العالم. إذا كان العنف حقيقياً لهذه الدرجة، إنه مع ذلك من الصعب القياس بشكل موضوعي نموه وتقدمه، لأن المقاييس أو السلوكيات المتعلقة بالضحايا هي متغيرة وتؤدي إلى إحصائيات من قبل الشرطة تكون صعبة الإعداد ضمن الزمن المطلوب. شيء وحيد مؤكد، العنف الحقيقي هو بكثير أقل نموا من مشاعر عدم الأمان التي ازدادت وتوسعت بشكل كبير من خلال الخطاب الحاضر دائما حول عدم وجود الأمن. لأنه في الواقع هو الهدف المنشود. عدم الأمن والخوف ازدادت واتسعت بسبب الطرائق المستخدمة من قبل الحكومة. “الفضائل” السياسية للعنف استراتيجياً، الخطاب الأمني له تماما فضائل من أجل سياسة أو عمل سياسي يسير ببطء أو يفقد سرعته. من خلال احتلال منهجي للميدان الإعلامي، هذا الخطاب انتهى إلى أخذ موقع في الحقيقة ويحدث جوا حقيقيا من عدم الأمن. هذا المناخ من الخوف ومن الشك تهيج التوترات وتؤدي إلى إحداث أفعال العنف الحقيقية. خطابات، تخيلات، حقائق، تعمل بشكل متلاحم وهي تزداد قوة. نحن نفهم جيدا هذه الدائرة المفرغة من العنف التي تخول الخطاب السياسي بسحب الأهلية من هؤلاء الذين يقومون به. فضيلة إضافية هذه الأجواء من العنف، تسمح في إعادة وضع السياسة من جديد أمام المجتمع المدني، وتعطيه الفرصة لممارسة وبعمق وبشكل واضح وظائفه والتي هي حقه، من خلال المراقبة والعدالة، وهذا ما تبقى له حقيقة. السياسي هنا “ أي المفهوم السياسي” يعيد من جديد بعضا من وجوده، متأكدا من توافق حول احترام النظام العام والجمهوري وحق الجميع في الأمن. ولا ننسى هنا أن الفقراء هم في الموقع الأول ضحايا عنف الفقر في مجتمع غني. خلق الجرائم في المجتمع المدني حتى نظهر بشكل أفضل كحماة له هو موضوع مبرهن.
الانشقاق السياسي الجديد العديد يرون أنه لا بد من الابتعاد عن العنف و عن ممارسته في ردع التحركات في الداخل، ولكن هناك خلاف كبير على هذه القضية “ استخدام العنف “، والتي ظهرت بين أوساط اليمين وأصحاب النظرية الأمنية. إننا نجد هذه النظرية اليوم تقريبا في كل مكان، في الولاياتالمتحدة وفي معظم الدول الأوربية، حيث تظهر هذه الممارسة كشاهد على نجاح السياسات التي تأخذ من القسوة والصلابة منهجاً لها. الرئيس جورج بوش الابن أصبح من اختصاصه هذه الممارسات على الصعيد الخارجي من أجل الحفاظ على شعبية مصطنعة. وعندما التهديد الداخلي لا يكفي، فإنه يستحضر الخطر الخارجي الكامن أو المحتمل من أجل تبرير الحرب كما هو الحال في الحرب على العراق و من أجل ضمان توافق داخلي حوله من قبل الأمة الأمريكية لا بل إمكانية انتخابه مرة أخرى. هذا الانحراف لا يتعلق للأسف فقط بأحزاب اليمين ولكن بجميع الأحزاب التي في الحكم، بما فيها اليسار. ومن وجهة نظر تتعلق بالإجراءات الديمقراطية في فرنسا وفيما يتعلق بمسالة الأمن الداخلي لم يكن فرق بين اليمين واليسار. السؤال السياسي الجوهري من وجهة نظر الديمقراطية يبقى بشكل “أقل” داخل المعارضة بين اليمين واليسار على ما هو عليه الحال بين من هم في “الأعلى” ومن هم في “الأدنى”. الانشقاق السياسي يمضي أو يمر بشكل أقل ضررا في داخل الطبقة السياسية أكثر مما هو يفصل أو يمزق هذه الطبقة السياسية عن المجتمع المدني. التقدم الديمقراطي ومن أجل تخفيض وبشكل مستمر العنف الحقيقي، يعتمد وعلى الأقل سياسة من اليسار ومن اليمين تعطي إدارة ذاتية للمجتمع المدني و لتأسيسه وبنائه على أساس لاعب سياسي بشكل مستقل وكامل. ولكن على العكس من ذلك، يحضر أمامنا شكل من التحالف الموضوعي داخل الطبقة السياسية حول رفض “دمقرطة” السياسة والوصول لطلبات مجتمع مدني يمكن أن يهدد سلطة هذه الطبقة. إن إهمال المجتمع المدني و إدانته تمثل لدي الطبقة السياسية الوسائل الأخيرة لاحتكار السياسة ومقاومة الحركة الاجتماعية والأمل في إقامة ديمقراطية أكثر تطابقا مع حالة المجتمع. الخطابات المتقطعة حول “الدمقرطة”، حول أهمية الحركة الاجتماعية والجمعيات و المجتمع المدني لم تغير شيئا. ما دامت الأحزاب السياسية لم تفهم أو لم ترد أن تفهم، أن دورها هو القرب من المجتمع المدني وسماعه وتمثيله بشكل أفضل، أكثر مما هو تشكيل منظمات جديدة داخل هذه الأحزاب. فالمجتمع المدني ينتظر على الأقل أن يكون ممثلا أكثر مما ينتظر أشكالا أخرى تمثله أو أشكالا أخرى للتمثيل. فليس شكل التمثيل هو قيد المسألة، ولكن نظام التمثيل السياسي الحالي نفسه. أو بشكل آخر يمكن القول أن المطلوب هو تغيير نمط المفهوم السياسي و الأفكار السياسية أكثر مما هو تغيير الأداء السياسي القائم. إننا نعتقد أن أعضاء وناشطي المجتمع المدني لديهم القدرة على تمثيل الحركات الاجتماعية على المسرح الشعبي والمسرح السياسي، بحيث في النهاية لديهم القدرة للعمل كحزب سياسي كلاسيكي. مرة أخرى الإجابة ليست في داخل السياسة بمفهومها التقليدي، وليس في داخل الأحزاب السياسية، إنها في اقتراحات إعادة تنظيم السلطات و في المشاركة في الإدارة الذاتية للمجتمع المدني. و هذا لا يعني تغيير السلطة أكثر مما هو يعني إعادة توجيهها وتقسيمها بشكل مختلف، و يعني إعطاء الوسائل للمجتمع المدني لتمثيل نفسه أكثر من البحث عن تمثيله. هذه المفاهيم الجديدة لا تتناسب مع الطبقة السياسية، ولكن ستعطيها فرصة كاملة لدور آخر، لا يتمحور حول العقائدية أو التحكيم. اليمين المتطرف على أقل تقدير، لا نستطيع أن نستبعد السياسة الأمنية و سياسات الحكومة من خلال الخوف و التخويف ستنتهي بتهديد و زعزعة ديمقراطية هي في أساسها، إذا لم ننس، ضعيفة وهشة. الضغط لا ينتج سياسة و لايصنع مستقبلا. ففي مجتمع من الأفراد المشبعين بالقيم الديمقراطية، لن يطول الوقت لتحدث، عاجلا أم آجلا، ردة فعل عنيفة ربما تدخلنا في دائرة من العنف لا يمكن السيطرة عليها. وهذا سيكون في الحقيقة لعباً مع النار. وأكثر من ذلك، ضعف القوى المعارضة، التراجع المستمر للنقابات وتنظيمات المجتمع المدني لن يسمح بتوجيه العنف الكامن والمستمر. إذاً إنها حالة طارئة أن نعيد تشكيل التمثيل للمجتمع المدني من استقرار اللعبة الديمقراطية. و إذا أضفنا على ذلك غياب النمو و استنفاذ قدر كبير من الاقتصاد الذي في الواقع تأخر ليصدر في شكل اقتصاد يعتمد على الأشخاص والرأسمال الإنساني، سيكون لدينا أسباب أخرى للقلق على المستقبل. هناك بعض الإشارات يمكن أن تحذرنا. فمها كان التقييم لليمين المتطرف ضعيفاً و تافهاً فيما يتعلق بنتائج الانتخابات،لا يمكن التغاضي عن تقدمه المستمر في جميع الدول الأوربية، حيث يصبح وزيرا للداخلية رئيسا للوزراء، جهاز للبوليس ينافس العدالة والقضاء، التهديد فيما يتعلق بحقوق التجمع وصدور قوانين منع التجول، ومنع بعض المراهقين من التجول و إغلاق بعض المقاهي. إننا ندرك تماما خطورة العواء من الذئاب و أن اليمين المتطرف، و إن حقق وجودا في السابق داخل الحكومات،” إيطاليا، النمسا، السويد “، لم يستطع حتى اليوم فرض حكومته الخاصة. ولكن في نفس الوقت اليمين سيصبح أفضل وسيلة للتنبيه من خطر اليمين الراديكالي و في التفكير بإيجاد وسائل التضييق عليه. ولكن السؤال ماذا سيقع عندما يميناً متطرفاً لا يؤمن من الليبرالية إلا بجانبها الاقتصادي، وتحت غطاء تهميش تطرفه، يأتي لخدمة مواضيعه و مشاريعه المفضلة ويطبعها بطابعه تحت حجة المطالب الشعبية؟ في فرنسا، منذ نهاية التجربة الاشتراكية 1982، وبعد ذلك منذ سقوط جدار برلين في 1989 وانحطاط الشيوعية، أصبحنا أمام تمركز أو ميل في السياسة نحو اليمين. اليسار، وجد على خط سياسي متمركز على أفكار الرئيس السابق” جيسكار ديستان” منذ نهاية السبعينيات. من هنا اليسار دفع اليمين أكثر باتجاه اليمين، حتى أصبحت الفجوة بين اليمين واليمين المتطرف أقل اتساعاً. اليمين انعطف باتجاه اليمين المتطرف إذاً. إذا اعتبرنا اليسار واليمين هما المحور الأساسي والذي لا يمكن تجاوزه في السياسة، فإننا في الواقع نفتقد إلى تطوير الاثنين معا وإلى تطوير النظام السياسي وانحرافه نحو اليمين. في النهاية، إذا اليمين استسلم إيديولوجيا أمام اليمين المتطرف وبدأ بالخروج من الساحة، فإن الديمقراطية ستكون مهددة بخطر الموت. أزمة النمو الديمقراطي بعيداً عن التأخر الديمقراطي والذي بناء عليه أردنا أن نقتنع بأن السلطة هي في حالة تراجع في القيم، نحن نعيش شكلا من أزمة نمو الديمقراطية. هذه الأزمة تعكس عدم القدرة، والجحود والإنكار، وبشكل أكبر رفض إيجاد الأشكال المؤسساتية والسياسية في مرحلة من نشوء وانبثاق نظام جديد من الاتصال والارتباط الاجتماعي الذي يعرف العلاقة الارتباطية الجديدة في المجتمع. تاريخ مسيرة “الدمقرطة”، وللبدء من خلال تاريخ ميلاده في العالم المتطور والحديث، سجل في عملية صعود “الفردنة “ - من الفردية- وقيم الديمقراطية في وجه المقاومة من قبل المؤسسات والسلطات القائمة. هذا الصعود لم يحدث دون صدام ودون العودة أحياناً بشكل دراميكي إلى الخلف. ولم تكن المرة الأولى والتي فيها الدفع الديمقراطي يعود أو يقوم بأشياء تناقضه. ولم تكن المرة الأولى أيضا أن آمالاً ديمقراطية جديدة تحدث للوهلة الأولى تأخراً ديمقراطياً في الواقع. عودة النظام والنسق الأخلاقي والأمني، لحماية طبقة سياسية مندحرة وأشكال من التمثيل السياسي الباطلة، يكون اليوم شكلا من أشكال هذا التأخر وأزمة في النمو الديمقراطي الذي تحدثنا عنه. هذا النسق الأخلاقي لن يحل أية مشكلة سياسية عميقة وخاصة الأكثر عمقاً منها وهي : الارتباط الاجتماعي ولا سيما الارتباط السياسي. لا بد لنا من جديد أن نواجه هذا التناقض غير المتماسك في المسيرة والعملية الديمقراطية :كيف نصالح “الفردنة “ المتنامية، تأكيد مجتمع الأفراد مع أشكال جديدة من الحياة الجماعية؟ أي تطور مؤسساتي سيؤدي إلى التحول من نظام جديد من الارتباط الاجتماعي إلى نظام سياسي كامل، والذي سيعممه ويعطيه رمزاً وحضوراً وتمثيلا؟ إذا كنا في عملية “الفردنة” الحالية لا نرى سوى صعود “للأنا” المنفصلة عن العلاقة بالآخر، “أنا” لا يمكن تجاوزها من خلال انطوائها على الذات وابتعادها عن الالتزام المدني، فنحن فعلا في مأزق. من وجهة النظر هذه، لدينا الحق بأن نكون حائرين وفي حالة حرجة في مواجهة الدفع الديمقراطي الذي معالمه تتوقف عند حقوق الإنسان، و التي هي قانونية بحتة. حقوق الإنسان ليست عملياً سياسة، حتى ولو كونت قاعدة كل ديمقراطية. ولكن، من جهة، لابد من قبول أن كل تقدم للديمقراطية يحمل في طياته تقدما وتأكيدا للفردية وحتى أحياناً للفوضى والتي هي في نفس الوقت مخاطرة وديناميكية، ومن جهة أخرى في هذا التاريخ الطويل من الدعوة “للفردنة”، أعتقد أننا لسنا أبدا في “فردية” واحدة من الهبوط أو التراجع، والتي هي انطواء على الذات، بل نحن ندخل في عصر الفردية العلائقية منبثقة في نسيج جماعي و اجتماعي. إنه واقعي و ليس أكثر من ذلك أن حقوق الإنسان والجمعيات لا تشكل في ذاتها سياسة. ولكن بما أنها علاقة أو اتصال اجتماعي، فهي تربة يمكن فيها إعادة تأسيس العلاقات الاجتماعية اليومية، لا بل منظمات جماعية وأشكال أخرى من المؤسسات، في العائلة، في العمل أو في المدينة والدولة. بالطبع، كل هذه الأشكال من الجمعيات تبقى بشكل جلي تحت خط التطور وهذه يعود في المسؤولية إلى السياسة، وهي مسؤولية تاريخية للسياسة بأن تعطي هذه الجمعيات “جسدا” واضحا ومنظورا، وتمكنها من التمثيل. . ضمن هذا التناقض نحن نصارع و لا بد من الصراع على المستوى الشعبي و العام، كما نشهد اليوم من قبل الحركات الاجتماعية. وكما هو داخل كل أزمة لعملية النمو الديمقراطي، نستطيع الخروج مؤقتا بواسطة الأدنى “العامة”، وهذه الأزمة تؤكد لنا عودة بسيطة إلى النظام وإلى الأمن. مع كل أخطار التزحلق التي تفترضها هذه الحالة. كما نستطيع الخروج بواسطة الأعلى، من خلال الذكاء التاريخي للحركة الاجتماعية، وأن نبني أشكالا أخرى من التمثيل للمجتمع المدني وتكون الجمعيات رمزا له بكليته، وفي نفس الوقت كاتصال و ارتباط اجتماعي وكنموذج للتنظيم.